قراءات آخر العام: حوارات مصطفى شريف مع جاك دريدا
قرأت باستمتاع واهتمام متزايد الحوار المطول الذي نشره الدكتور مصطفى شريف مع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا تحت عنوان: الاسلام والغرب. والدكتور مصطفى شريف لمن لا يعرفه هو مفكر جزائري كان قد شغل سابقاً منصب وزير التعليم العالي وكذلك منصب سفير بلاده في القاهرة قبل ان يصبح استاذاً في جامعة الجزائر ويختص بالحوار بين الثقافات والاديان والحضارات. وقد اشتهر مؤخراً اكثر من غيره لانه كان المفكر الاسلامي الوحيد الذي التقاه بابا روما في جلسة خاصة بالفاتيكان من اجل ترطيب الأجواء بين الطرفين بعد كل تلك الضجة الكبرى التي أثارتها تصريحاته في جامعة راتسبونغ بالمانيا. وقد حاول الدكتور شريف ان يشرح له حقائق الاسلام وقيمه بشكل افضل.
مهما يكن من أمر فان حوار المفكر الجزائري مع الفيلسوف الفرنسي الكبير يتعرض لعدة مواضيع ساخنة تشغل وسائل الإعلام حالياً: كالعلاقة بين الغرب والشرق، ومسألة العولمة الجائرة، والاصولية المتعصبة، ومفهوم العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، وضرورة حوار الحضارات لا صدامها، وكيفية مواجهة الاحتقان المتزايد في العلاقة بين الاسلام والغرب، الخ.. وعلى مدار الكتاب تشعر بان المفكر الجزائري يحاول ان يقنع المثقف الفرنسي بضرورة عدم تهميش الدين وضرورة تحقيق التحديث في العالم العربي في آن معاً. كل شيء يحصل كما لو ان الاستاذ شريف يخشى ان يحصل عندنا نفس الشيء الذي حصل في الغرب بعد انتصار الحداثة: اي انعدام الدين من ساحة المجتمع او تقليص وجوده بكل طقوسه وشعائره الى اقصى حد ممكن. وفي كل مرة يحاول جاك دريدا ان يفهمه بان العلمنة او فصل الدين عن السياسة لا يعني اطلاقاً القضاء على الدين أو ازدراءه أو تهميشه. وانما يعني فقط نيل حرية الاعتقاد والضمير وعدم قمع الوعي الفردي بأي شكل كان. بل ويعتقد الفيلسوف الفرنسي بأن فصل الدين عن الدولة سيكون لصالح الدين لا ضده على عكس ما يتوهم معظم الناس في العالم الاسلامي.
لماذا؟ لان الدين لن يعود ملوثاً بالشؤون الدنيوية والمناورات السياسية، ولن يعود مستخدماً كأداة لتحقيق مصالح هذه الفئة أو تلك، وانما سيعود الى جوهره الروحاني المنزه المتعالي. ولكن هذه المحاجة لم تقنع المفكر الجزائري إلا جزئياً على ما يبدو. ولذلك يظل يعود اليها في كل مرة. فهو يخشى من ان يحصل فعلاً تهميش للدين الاسلامي بحجة التقدم والحداثة. كما انه يشير بشكل واضح الى التناقض الصارخ بين عالم الاسلام وعالم الغرب، ففي الغرب تنعدم القيم الروحية وتسود الإباحية الجنسية، اما في الشرق فتسود قيم التزمت والتعصب الى حد كبير دون ان يعني ذلك ان أغلبية المسلمين هم متعصبون. وبالتالي فكيف يمكن ان تجمع بين عالمين متناقضين الى مثل هذا الحد؟ إذا كانت قيمي مضادة لقيمك، فكيف يمكن ان نتلاقى؟ قد تكون الصورة كاريكاتورية الى حد ما ولكنها تعبر عن جزء من الحقيقة. فكلما زاد الحجاب والتحجيب في البلدان الاسلامية، زاد العري وإظهار المفاتن في الدول الأوروبية!
يحصل ذلك كما لو انهم يفعلون ذلك عن قصد في كلتا الجهتين نكاية ببعضهما بعضا.
ومرة اخرى يسأله المفكر الجزائري: لماذا يحتقر الغرب الدين؟ فيرد عليه الفيلسوف الفرنسي: فصل الدين عن الدولة لا يعني ابداً احتقار الدين. وانما يعني تأمين الحرية الدينية، أي ان تؤمن أو لا تؤمن، ان تذهب إلى الكنيسة أو لا تذهب على الاطلاق! فالايمان عن خوف ليس إيماناً والإكراه في الدين ليس مرغوباً ولا مستحباً.. بالطبع فإن المفكر الجزائري على حق عندما يقول بان الاسلام ليس الاصولية المتعصبة، ناهيك عن الارهاب. فكما ان الانجيل ليس مسؤولاً عن محاكم التفتيش فان القرآن الكريم ليس مسؤولاً عن 11 سبتمبر والتفجيرات الارهابية. ولكن البعض يرد قائلاً: بان مقاطع العنف قليلة جداً في الانجيل ان لم تكن معدومة، في حين انها موجودة في القرآن وبكثرة احياناً وإن كانت الآيات التي تدعو إلى العفو والصفح والمغفرة اكثر منها بكثير ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا لم ينتصر التأويل العقلاني المستنير للاسلام على التأويل المتعصب الظلامي حتى الآن؟ هذا السؤال يحاول جاك دريدا ان يطرحه بشكل غير مباشر لكيلا يصدم محاوره الذي يظل على الرغم من حسن نيته وسعة اطلاعه سجين النظرة القديمة واللاتاريخية للدين. ومن هذه الناحية فهو يلتقي مع رجل دين كبابا روما أكثر مما يلتقي مع فيلسوف علماني محض كجاك دريدا. فلا ريب في ان الدين يقدم الطمأنينة للروح المعذبة القلقة وبخاصة أمام الموت. انه يقدم لنا الغائية الأخرويّة التي تعني استطالة الحياة ما بعد الموت. وبالتالي فهو ينقذنا من الاحتمالية المرعبة للعدمية والفناء الأبدي. وهذه نقطة لا يستهان بها وتحسب لصالح المفكر الجزائري المؤمن. ولكنها لا تلقى اي صدى لدى جاك دريدا على الرغم من انه كان مشرفاً على الموت بعد إصابته بالسرطان. بل ومات بعد أشهر قليلة من اجراء الحوار وقد رثاه مصطفى شريف بشكل مؤثر وصادق فعلاً.
هناك فكرة عميقة يركز عليها جاك دريدا وهي ان السيطرة على المعرفة العلمية التكنولوجية لا تؤدي بالضرورة الى الاستنارة الفكرية ولا الى شيوع القيم الاخلاقية والعدالة والديمقراطية في المجتمع والدليل على ذلك هو ان اتباع الحركات الأصولية المتطرفة يسيطرون تماماً على التكنولوجيا الحديثة من معلوماتية وسواها، ومع ذلك فانهم يرتكبون أبشع العمليات الارهابية. بمعنى آخر فانهم يستخدمون المعرفة كأداة من اجل الشر ليس إلا. ولذلك يبدو جاك دريدا غير آسف على إيقاف العملية الديمقراطية في الجزائر بعد أن أوشك الأصوليون على الوصول إلى السلطة في أوائل التسعينات من القرن الماضي. كل شيء يحصل كما لو انه يريد ان يقول: لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، أو لا حرية لأعداء الحرية. وهنا يضع الفيلسوف الفرنسي الشهير يده على الجرح او على المعضلة الأساسية التي تواجه كل العالم العربي الإسلامي حالياً: هل نقبل باستمرار الأنظمة الحالية أم نريد ديمقراطيات أصولية طائفية؟ فالديمقراطية الشكلانية الناتجة عن صناديق الاقتراع سوف تؤدي حتماً الى انتصار التنظيمات الأصولية المتخلفة المضادة لكل الفلسفة السياسية الحديثة وحقوق الانسان. وهذه هي افضل طريقة لمصادرة الديمقراطية باسم الديمقراطية!.
هناك نقطة يتفق عليها المفكران هي تلك المتعلقة بالعولمة الأميركية الجائرة. وهي عولمة اجرامية تجوّع ثلاثة أرباع المعمورة ولا تقل خطورة عن الحركات المتزمتة الارهابية. هناك أصولية رأسمالية ايضاً وليس فقط أصولية دينية.
وهكذا تجد البشرية نفسها بين فكي كماشة حالياً: عولمة بوش والمحافظين الجدد من جهة، وإرهابيّي القاعدة وسواها من التنظيمات المتطرفة من جهة أخرى. ثم يردف المفكر الجزائري قائلاً: هل نعلم بان المساعدات التي تقدمها البلدان الغنية للبلدان الفقيرة لا تتجاوز 0.2% من ميزانيتها العامة؟ بل وفي حالة الولايات المتحدة لا تتجاوز 0.1%. وهل نعلم بان العالم الثالث تحول الى عالم رابع من حيث التخلف والفقر والجوع؟ هذا في حين ان الثروات الاسطورية تتكدس وتتراكم في بلدان الشمال الأوروبي الأميركي.
حقاً فان الصورة لا تدعو للتفاؤل في نهاية هذا العام المنصرم.
ثم يضيف المفكر الجزائري قائلاً بان نتائج (11) سبتمبر كانت كارثة بالنسبة للعالم الاسلامي. فالحقد على الاسلام اصبح عاماً شاملاً. ودعاية صدام الحضارات على طريقة المحافظين الجدد اصبحت سائدة، واحتلال العراق يغوص في مستنقع الدم، ومأساة الشعب الفلسطيني تزداد تفاقماً. ثم يحذر مصطفى شريف دول الغرب قائلاً: بأن مثل هذا الوضع ليس بمصلحة أحد بمن فيهم الشعب الاسرائيلي نفسه. وبالتالي فاذا لم تتغير سياسة الدولة الأعظم في العالم ومعها دولة اسرائيل ذاتها فاننا نسير جميعاً نحو الهاوية.. وقد أعذر من أنذر
جريدة الشرق الاوسط