دعا حسن الترابي «1932» في كتاباته ومحاضراته إلى ضرورة قيام نهضة شاملة في العالم الإسلامي تخلّصه من التقليد ومن الجمود، وتبني النظام الإسلامي على الشريعة الإسلامية، وتستغل لذلك العلوم والتقنيات المعاصرة.
ولابد أن تقوم هذه النهضة على منهج أصولي قويّ، «علما بأن منهج أصول الفقه الذي ورثناه بطبيعة نشأته بعيدا عن واقع الحياة العامة وبتـأثره بالمنطق الصوري وبالنزعة الإسلامية المحافظة والميّالة نحو الضبط والتي جعلته ضيّقا لا يفي بحاجتنا الـيوم ولا يستوعب حـركة الحياة المعاصرة ».
لمّا أصبحت مسائل أصول الأحكام مجردة ونظرية فلابد من ربط الفقه وأصوله بواقع الحياة، و أن يكونا معا في مواجهة التحديات العملية. والحاجة الملحّة لفقه جديد قامت بسبب عجز الفقه الكلاسيكي وأصوله عن توفير المناهج العملية لإدارة المجتمع والاقتصاد وتنظيم الحياة عامة، وهداية سلوك المسلم في المجتمع الحديث،«ذلك أن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جراء التطور المادي وهي تطرح قضايا جديدة تماما في طبيعتها لم يتطرق إليها الفقه التقليدي ولأن علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعها تبدلت تماما». ناهيك عن التباين بين وضع العلم البشري في زمن نشأة الفقه وما يتميز به من محدودية في الأفق والتواصل وبين وضعه في عصرنا وما يتميز به من اتساع وانتشار وتجدد بالتجربة والنظر، والأمر الذي يقتضي التوحيد بين العلوم النقلية والعلوم العقلية في فقه الإسلام، « وبذلك العلم الموحد المتناهي نجدد فقهنا للدين و ما يقتضيه في حياتنا الحاضرة طورا بعد طور...».
تجديد الفقه الإسلامي لا يكون إلاّ بتجديد أصوله، وفي عصرنا «أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن تُؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة»، والمشكلة هنا في علم الأصول الكلاسيكي الذي لم يعد يفي بالحاجات المعاصرة لأنه موقوف و موصوف بالظروف التاريخية التي أفرزته و بطبيعة المسائل الفقهية التي كان يعالجها البحث الفقهي.
من الأحكام الفقهية ما يتصل بالشعائر و العبادات و مجال الاجتهاد والتقدير فيها محدود لا يتعدّى جمع النصوص و تفسيرها باستخدام القواعد الأصولية التفسيرية اللّغوية والتشريعية، و اقتصر الفقه التقليدي على ذلك. وما كان الفقهاء « يعالجون كثيرا قضايا الحياة العامة و إنّما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة و لذلك كانت الحياة العامة تدور بعيدا عنهم ». وانحرفت الحياة الجماعية للمسلمين عما يستوجبه الإسلام، إذ اهتمت بالفرد على حساب قضايا السياسية والأسرة و الاقتصاد و الإنتاج و غيرها، الأمر الذي أغفل الأصول الفقهية التي تناسب هذا الجانب، و لمّا« كانت حياة الإسلام شاملة و كانت الممارسات الاقتصادية و السياسية العامة للمجتمع ملتزمة بالدين نشطت قواعد الأصول التي تناسبها».
أشهر فترة تشريعية بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم رعت مصالح الأمة ومقاصد الشرع فترة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، و أخذ منها فقهاء المدينة السعة والمرونة، و بعد ذلك تعطّلت الأصول الاجتهادية وحاجاتها. وبعد اتساع دولة الإسلام وازدهار الحياة فيها استُعمل العقل والقياس و الاستحسان بشكل أوسع في العراق ثم أخذت الأصول تجمد، وشهد الفقه الأصولي التقليدي نهضة ثم تجمّد بفعل انحطاط واقع الحياة الدينية للمسلمين.
ففي تصور الأصول الفقهية و استنباط الأحكام الفرعية ينبغي الاتجاه إلى المشكلات و التحديات العامة لا الاجتهاد في الشعائر و لا في تطوير القواعد التفسيرية، لأن فقه التديّن الفردي عرف اتساعا نصا و شرحا أما الحياة العامة فالحاجة ملحة إلى الاتفاق على« منهج
أصولي ونظام يضبط تفكيرنا الإسلامي حتى لا تختلط علينا الأمور و ترتبك المذاهب ويكثر سوء التفاهم والاختلاف في مسائل تتصل بالحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والدولية وغيرها مما يؤثر على وحدة المجتمع المسلم ونهضته».
تحتاج الحياة العامة إلى نصوص و قواعد التفسير الأصولية، و لقلة النصوص ضرورة تطوير أساليب الاجتهاد و القياس بحكم مداه يتجاوز النص لكنه لا يستوعب حاجات الحياة العامة لضيقه و ارتباطه بالمنطق، لذا «لابـد من النظر فيـه حتى نكيّفه ونجـعله من أدوات نهضتنا الفقـهية». والحياة العامة من الدين «لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها له مناطقة الإغريق و اقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني وولع الفقهاء بالضبط في الأحكام التي اقتضاه حرصهم على الاستقرار و الأمن خشية الاضطراب و الاختلاف في عهود كثرت فيها الفتن وانعدمت ضوابط التشريع الجماعي الذي تنظمه السلطات».
و لما كان القياس المعهود محدودا يمكن توسعته من خلال اعتبار مجموعة «من النصوص و استنباط من جملتها مقصدا معينا من مقاصد الدين أو مصلحة من مصالحه ثم نتوخى ذلك المقصد حينما كان في الظروف والحادثات الجديدة». كما يتطلّب القياس شيئا من التجريد من الظروف الخاصة التي تسبق النصوص فيحصل الاختلاف الفقهي ويتعرّض المنهج القياسي للضيق و الاتساع، وليس في الاختلاف حرج، و يمثل قياس الاستصلاح الإجمالي أعلى درجة في البحث عن علل الأحكام.
إن المقصد الجامع لنصوص الدين هو عبادة الله، ثم تأتي كليات الشريعة، وهذا الإجمال يتناسب مع الاستصحاب، وحسب هذا الأصل فالأصل في الأشياء الحلّ و في الأفعال الإباحة و في الذمم البراءة من التكليف، فالمجتهد يتعاطى مع النص باستعمال القواعد التفسيرية وبعدها يتوسع في النظر باستخدام الأصول الواسعة من استصلاح واستصحاب، لكن هذا الترتيب نظري لأن الاجتهاد عملية تركيبية من النص و الواقع، خاصة في مجال أحكام الحياة العامة.
الحاجة إلى التحكم في نتائج الاجتهاد باستخدام الأصول الواسعة ضرورية، وأول ضابط للمجتمع المسلم هو وضع تدبير تسوية الخلافات بين أيدي المسلمين بالشورى والإجماع «إمّا بأن يتبلور رأي عام أو قرار يُجمع عليه المسلمون أو يرجحه جمهورهم وسوادهم الأعظم أو تكون مسألة فرعية غير ذات خطر يفوضونها إلى سلطانهم وهو من يتولى الأمر العام حسب اختصاصه بدءا من أمير المسلمين إلى الشرطي و العامل الصغير». وليس حرج في أن تكون الأصول الفقهية أكثر اتساعا في مقابل الفتاوى الشرعية أكثر اختلافا بل فيها مصلحة اكبر.
لا يتم التحكم في نتائج الاجتهاد وأعمال ضوابط الفقه الاجتهادي الشوري السلطاني إلا بأهلية التصدي للفعل الاجتهادي، من قبل مجتهد أوثق من غيره «إحاطة بعلوم الشريعة و اللّغات و التراث و إحاطة كذلك بعلوم الواقع الطبيعي والاجتماعي وهما شعبتا العلم وحيا ونقلا و تجربة و عقلا ولا تقوم الحياة الدينية إلا بهما معا». ومادام المجتهد أو المفكر الواحد عاجز عن الإلمام بكافة العلوم من كسبه الخاص، لابد للدولة من مراكز لتأهيل المتعلّمين و أخرى للبحث، فيصبح كل واحد متخصص في جزء من العلم.
أما الحاجة إلى التصدي للاجتهاد بالاعتماد على العلماء و المفكرين و على جمهور المسلمين على الدولة- من خلال تقدير أهلية الاجتهاد و هو أمر نسبي- أن تحقق الشورى و«تقنن الآراء و الأحكام المعتمدة بل عليها أن تحتاط لذلك التقنين و التدوين تنظيما مسبقا في حياة المجتمع الرشيد» .
لكن حسن الترابي لم يكن مطمئنا على دعوته إلى تجديد أصول الفقه وتصوره في ذلك، ففتح باب الاجتهاد بحرية مع نسبية الأهلية الاجتهادية، وإلحاق أصول اجتهادية مفتوحة وواسعة بالأصول الاجتهادية التفسيرية المضبوطة يؤدي لا محالة إلى كثرة وتباين في الآراء والمواقف، لكن دور سلطان المسلمين في اعتماد الآراء المعقولة و تأكيد إلزاميتها هوما يزيل العقبة أما تطبيق الشريعة، ويبقى الخوف من الحرية على الدين مؤديا إلى إنكار الجديد الذي هو«سنّة اجتماعية معروفة وعن طريقه يعمل المجتمع عملية التوازن بين عناصر الثبات وعناصر الحركة لئلا يجمد المجتمع فيموت و لا يعربد فينحرف كذلك ... ويستدعي القيام بتكاليف الاجتهاد في مثل ظروفنا جرأة في الرأي وقوّة في الصبر على ضغوط المحافظين لا سيما أن التجديد لن يكون محدودا بل واسعا يكاد يشكل ثورة فقهية تصلح الأصول مع الفروع وتسعى لتبدل الأحوال بسرعة الذي تذكّر بعد غفلة طويلة».
يرى "حسن الترابي" أن التوازن بين التطور و التباين مطلوب وهو العدل والاعتدال، والتعاطي مع الحياة الإسلامية الراهنة بقيم التقليد والخوف من التجديد ومن التغيير مماثل للتعامل معها بأسباب النهضة والازدهار، لكن الظروف الحالية عرضة للضرر لأن ما نحتاجه من معاني و قيّم الحركة الحرة، واليقظة الحقيقة، والنهضة المطلوبة نائمة داخل خطاب نائم منذ قرون.
أتسم الخطاب بالمحافظة والتخويف والابتعاد عن الرجاء، و هكذا نجد المسلمين «في عهود الانحطاط ركّزوا على معاني المحافظة تركيزا شديدا، فالحياة الدينية في عهود الانحطاط منحصرة دائما تمرق أطرافها من الدين و الأرض منحصرة تقع أقاليمها في قبضة دار الكفر ولا مطمع الدعاة حينئذ أن يطالب الناس بالأقدام في الحياة والأرض بل غاية همهم أن يدعوا إلى المحافظة». و«استمع إن شئت لإمام خطيب جمعة تجده يحاصر الناس بتخويف و لا يحفزهم بالرجاء إلا قيلا و تجده يذكر التقوى أكثر من الجهاد والورع أكثر من عمل الخير... و هذه الروح في تربيتنا الدينية لا بد من أن نتجاوزها الآن و لا نتواصى اليوم بالمحافظة بل لا ينبغي إطلاقا الدعوة على الاعتدال لأننا نكون قد ظلمنا ولو اقتصدنا نكون قد فرطنا، فالمطلوب أن نتلقى اليوم من حصة الكلام كل منبهة منعشة منشطة و أن نشيع من الدين ما يناسب المقام وما يقتضي الحال كالتدرب و الاجتهاد و التبليغ و الدعوة».
عامل الحرية في باب الاجتهاد الواسع لا يبعث على الخوف اليوم، لأن الحسّ الإسلامي في مراحله السابقة تصدّى لكل الابتلاءات و المشكلات الفكرية، فكان دوما ينهض بعد النكسة و يستقيم بعد الانفلات و يقوى بعد الضعف لذا « لا بد من أن نتعظ بتاريخ نهضتنا المتعثر و نفي بحاجات التحدي الذي يجابهنا اليوم ويكاد يجتاح ذاتيتنا الفكرية والحضارية، ولابد أن نضاعف الاجتهاد لاستكمال تصور ما يقضيه علينا الدين و نضاعف الجهاد لنمكّن ذلك التصور في العمل والواقع، و لا يمكن لجيلنا أن يتّكل على اجتهادات الغير مجاهداتهم وحدها فقد أدّوا واجب الدين فيما يليهم من زمان وظروف وعلينا أن نؤدي ما يلينا و يلزمنا».
ولا يوجد سبيل في البلاد الإسلامية من تحكيم الإسلام و سيادته في السياسة والاقتصاد و الإدارة و تنزيله إلى أرض الواقع بصورة تفصيلية و الطريق إلى ذلك هو فتح باب الاجتهاد الواسع، و«أن يتجه هذا الاجتهاد إلى جوانب الحياة العامة التي أُهملت من قبل لأننا في أبواب الشعائر مثلا يمكن أن نكتفي بالمادة الفقهية الموجودة بغير حرج كبير ماعدا طريقة التقديم، وإنما يتجه جهدنا الأكبر لجوانب الحياة العامة و لتطوير الأصول الفقهية التي تناسبنا بدء من الأصول التفسيرية إلى الأصول الاجتهادية الواسعة».
و يقول حسن الترابي في معرض كلامه عن التحديات التي تقف عائقا في سبيل النهوض بفقه الدين و هي نوعان: الأول «تحد خارجي وهو أننا في الاستعانة على عبادة الله فكرا أو اجتهادا بكل ما كسب البشر من العلوم قد نقع في أسر الغزو الثقافي، فتتغير معاييرنا من حيث لا نشعر وهذا خطأ نبّه إليه كثيرون و لا حاجة في الاستفاضة في بيان مغازيه».
أما التحدي الثاني فهو داخلي أشبه ما يكون بالتحدي الذي عرفه دعاة التجديد مع الكنيسة لأن مشكلات التدين واحدة مع تباين الملل،فالمجتمع الإسلامي امتلك من المفاهيم والقيّم والصور القديمة ما لا يمثل الدين وهو يغار عليها ولا يرضى عنها بديلا، وأيّة محاولة لتغيير هذه القيّم والأعراف وتجديد التدين وتبديل الحياة الإسلامية الموروثة «يثور المجتمع التقليدي بتصوراته و ما عهد من مذاهب و طرق أضفى عليها التراث قداسة وأضافها إلى جوهر الدين الباقي، و لا بد أن نتهيأ للتعامل مع هذا التحدّي كما نتهيأ للتحدّي الغريب».
يمكن التأسي بالمراجع الأولى لنشأة الفقه الإسلامي فكان يقوم على الشورى ويظهر هذا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم و في أفعال الصحابة والتابعين والأئمة أمثال "مالك" و"أبي حنيفة" و غيره، و بعد ذلك توقف التفاعل الفكري وانغلق باب النقد والاجتهاد و هو الحال الذي يعيشه المسلمون اليوم، و إذا غاب إعداد المسلمين في مرحلة الدعوة على الاجتهاد والنقد واستعمال الأصول الواسعة في الحياة العامة وحصول الخلافات الواسعة ثم الاهتداء إلى الحكم الشوري والإجماع تقييدا و التزاما، «فإننا حين قيام الدولة سنواجه فتنة عظيمة تُسلّمنا إلى الفوضى أو إلى الجمود حيث تؤثر الأمن في الركون إلى رأي الفرد الواحد».
نظرا للتعقيد في حياة المعاصرة بـما لا يعرفه العالم الإسلامي سـابقا ينبغي تحكيم الشورى للسماح بتوسيع الفكر للتأثير و التأثر، و تمكينه من الأهلية العلمية والأخلاقية لضمان اجتهاد حر فعّال و شورى كاملة ثم ترتيب أنظمة القرارات الملزمة ما يعود إلى جمهور الأمة أو ممثليهم وما يعود إلى الأمراء، «ولابد من تخطيط شامل لنظام الأحكام السلطانية أو الدستورية المدون و نظام القوانين المجموعة المعتمدة مع إتاحة مجالات مرنة للفقه القضائي و العلمي و مع نسبة دقيقة بين أحكام الشريعة التي تضعها على الناس قضاء و جزاء على صعيد الدولة و تلك التي نبسطها في المجتمع آدابا مرعية بداعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج اختصاص السلطان الرسمي، و تلك التي نحيلها على مرافق التربية لأنها تلي وجدان المسلم المنفعل بمراقبة الله في ضميره وخلوته».
تتضح مما سبق معالم دعوة "حسن الترابي" إلى تجديد أصول الفقه هذه الدعوة التي لقيت ترحيبا لدى الكثير من المفكرين و السياسيين، كونها تتجاوب مع تصوراتهم و تنهض بالدين و تراعي مقتضيات العصر و تفي بحاجات الواقع المعيشي. كما لقيت معارضة شديدة من قبل البعض حتى رمي صاحبها بالكفر والخروج عن الدين. تبقى دعوة "الترابي" محاولة فكرية جادّة لما تتوفر عليه من قوة و أصالة في المبادئ و الغايات ومراعاته القيّم الإسلامية ومتطلبات العصر ومستجداته و حاجات الواقع، لذلك تستحق كل الاهتمام و التناول بالبحث والدراسة بمنهج أدق و تحليل أوسع كما تستحق كل العناية قراءة و نقدا للكشف أكثر عمّا فيها من أصالة وإبداع، ولتساهم في القيام بإيجابية وبفعالية وبقوة بخطوة في سبيل تجديد التراث من منظور معاصر وبما يخدم المسلم في حياته الدنيوية والأخروية.
ــــــــــــــــــ