يوسف شاهين
يودع " بونابرت "
بطريقتة الخاصة
تعمد الفصل بين المعطيات التاريخية للحملة البونابرتية وبين نظرته الشخصية المعاصرة
هذا الشاب الصغير الذي تلاحقه الفتاة الفرنسية الشقراء على شاطئ الاسكندرية في سنة 1798 والمسمى " بعلى " في فيلم " الوداع يا بونابرت". لم يكن في حقيقة الامر سوى صورة خيالية – او سينمائية – لمخرج الفيلم " يوسف شاهين " نفسة , وهو يبحث من خلال تواجده الخيالي في تلك الحقبة التاريخية , عن منطقه الآني في مواجهة الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 , على اعتبار انه كان يعيش في ذلك الزمان من خلال الشخصية السينمائية التي ابتدعها , ومنحها اسم "على"...
وهكذا تجده يرسم صورة لوالده , تتسم باللامبالاة والعفوية , وعدم الاهتمام بما هو اكبر من الدائرة التي تحيط به ويغنيها بقدراته المادية المحدود , كصاحب مهنة بسيطة , لا تزيد عن كونها مهنة خباز , او صاحب فرن , يبيع الخبز الطازج للناس ..
هذا الاب لم يكن يهمه ذلك التناقض الذي يعيش فيه ابناؤه الثلاثة – علي العاشق لحضارة الغرب – وبكر المتفاني في حب الاسلام – ويحيى المراهق الصغير المتردد بين حضارة الغرب واصالة الاسلام ..
هكذا انتقل " يوسف شاهين " باسرته من القرن العشرين الى القرن الثامن عشر , ونقل مع اسرته اهتماماته الفكرية والحضارية كلها من القرن العشرين الى القرن الثامن عشر , ليعاصر بخياله الحملة البونابرتية الفرنسية على مصر , بمنظوره الشخصي , كما لو كان حيا يرزق اثناءها..
وقد تعمد " يوسف شاهين " الفصل بين المعطيات التاريخية المباشرة للحملة البونابرتية , وبين نظرته الشخصية المعاصرة في مواجهة اهداف تلك الحملة .. واستخدام في الجانب التاريخي المباشر , الممثلين الفرنسيين الذين تركهم يتحدثون في الفيلم بلغة فرنسية مترجمة الى العربية , وترك لنفسة العنان في الجانب المصري بلغة عربية صميمية ..!!
هكذا يمكن ان نفهم فيلم يوسف شاهين الاخير " الوداع يا بونابرت – الجانب التاريخي منه باللغة الفرنسية – والجانب الدرامي الذي يقدم فيه يوسف شاهين وجهة نظره الخاصة يدور باللغة العربية .
وهذا يعني اننا لم نكن امام فيلم تاريخي بحت بقدر ما كنا امام مواجهة معاصرة لتاريخنا الحديث والذي تعتبر الحملة الفرنسية فيه , بداية تحول من التبعية الكاملة للحكم العثماني بكل مساوئه المعلن عنها , الى مرحلة بدأ فيها العد التنازلي لانهيار الحكم العثماني على الوطن العربي المستتر , متاثرا بما جلبه " كافاريللي " من معدات حضارية الى اهل الشرق في مصر وفلسطين ..
وعمل مثل هذا , لا يقدر عليه سوى " يوسف شاهين " في نقل الماضي الى الحاضر , ونقل الحاضر الى الماضي , عملية تحتاج الى خيال مجنون , واحساس مبدع ..
هذا الخيال المجنون , وذلك الابداع في الاحاسيس امران متلازمان مع شخصية يوسف شاهين السينمائية التي تميزت بقدرتها على الربط بين الماضي والحاضر بواقعية وموضوعية فريدة من نوعها , ربما لم يسبقها اليها , احد من المخرجين السينمائيين في العالم العربي .
فقد كان قادرا على اخراج فيلم تاريخي مباشر ينال من الجماهيرية الكثير , ولكنه فضل ان يقدم لنا , كعادته دائما , شيئا غير عادي , وغير مالوف , اراد ان يقدم لنا " حدوتة مصرية " في القرن الثامن عشر , بعد ان قدمها لنا في القرن العشرين .
بهذا الاسلوب السينمائي غير العادي , حاول ان يستفز مشاعرنا الوطنية والقومية , من خلال التركيبة الانسانية لشخصية " علي " بطل الفيلم هذه الشخصية المجنونة بحب مصر , والتي تقدر بوضوح الدين الاسلامي والازهر الشريف , والتي تعشق في الوقت نفسه القفز علي واقع التخلف الذي يعيشه الناس من حولها , بالوصول الي مراكز المعرفة والتنوير ايا كان منبعها , دون تفريط بالحب المثالي للوطن , او التقدير اللامحدود للاسلام ..
تلك الامور اتي نلمسها باخلاص شديد في افلام يوسف شاهين القديمة , من " الناصر صلاح ادين " , الي " الارض " , الي " العصفور " الي " الاسكندرية ليه " الي " حدوته مصرية " وحتى " الوداع يا بونابرت " ..
ونشاهد تلك الغادة الشقراء ذات العيون الخضراء , في بداية " الوداع يا بونابرت " كما شاهدناها في بداية " الاسكندرية ليه " وهي تحميه من شر الجنود اثناء احدى المظاهرات الصاخبة .
فالمراة لها حيزها الكبير في حياة يوسف شاهين وتفكيره , فزوجته التي وقفت بجانبه في حدوتة مصرية وتلك الفتاة القاهرية وجد عندها راحته وسعادته بعد هزيمة 1967 في فيلم العصفور ..!
هي نفسها المراة التي داوت جروحه في فيلم الاسكندرية ليه وهي نفسها التي اخذته بعيدا عن الحقد والكراهية الذي عاشته اسرته في فيلم عودة الابن الضال ..
وهي نفسها ابنة التاجر الفرنسي اتي ودعته بدموعها وهو يترك الاسكندرية متجها الي القاهرة في الوداع " يا بونابرت " ..ّ!!
وقديما قالوا : وراء كل عظيم امراة عظيمة .. وهو يؤكد هذا القول في كل افلامه ..
وتقديره الشديد للاسلام والازهر الشريف – رغم انه يدين بالمسيحية – كان واضحا في فيلم العصفور , وفي الناصر صلاح الدين , واخيرا في الوداع يا بونابرت , حبه لوطنه مصر , ولامته العربية , واضح فيه فيلم الارض بالذات , وفي فيلم " حدوتة مصرية " , وفي فيلم " الوداع يا بونابرت " وفي فيلم " جميلة " و وفي فيلم " الناصر صلاح الدين " , وفي فيلم " الاسكندرية ليه " , وفي فيلم " العصفور" ايضا ..
ولو بحثنا في اعمال كل السينمائيين العرب , لن نستشعر تلك اللمسات الدافئة والعاشقة للوطن مثل ما شعرنا بها ونحن نتابع مع " يوسف شاهين " ثورة القاهرة الكبرى ضد الحملة الفرنسية , او ذلك المشهد الاسقاطي للنجاح الوطني في مهرجان موسكو ضمن فيلم حدوتة مصرية , او المشاهد التي صورها عن مغامرته السينمائية في دخول الجزائر ليعيش عمق الثورة الجزائرية قبل تصويره لفيلم جميلة .. لدرجة انه عاش متنقلا بين مصر وفرنسا والجزائر طيلة الخمسة عشر عاما الماضية , وانتج واخرج فيلما مصريا – جزائريا مشتركا خلالها هو : "عودة الابن الضال " وكان يقصد فيه الكثير من الاتجاهات السياسية والاجتماعية التي نتجت عن هزيمة يونيو 1967 – من ضمنها حبة الازلي للعلم والمعرفة , والتقرب من حضارة الغرب , ومنافستهم في عقر دارهم , وهي القضية المحورية لشخصية " علي " في فيلمه الاخير " الوداع يا بونابرت " ..
تلك هي مدرسة يوسف شاهين السينمائية وهذا هو اسلوبه يقدم افكاره بأشكال مختلفة منحازا الى كل ما هو مثالي ان كان عند المراة ..
او في الوطن ..
او في الدين ..
او في العلم ..
واضاف الى تلك الافكار , بعد فيلم " الوداع يا بونابرت " اضافة جديدة , كانت توجها عنده في فيلم " الناصر صلاح الدين " قبل عشرين عاما واتضحت معالمها في فيلم " الوداع يا بونابرت " حول قضية الاستفادة من الدروس والعبر في تاريخنا العربي المشترك .. ؟؟ حيث يضع الاسئلة وهو جاهز بالاجوبة .. ؟؟ ومع ذلك يترك للجميع الحرية في ان يفكروا بطريقتهم الخاصة بهم ..
لماذا انتصر صلاح الدين ؟ .. ما هي الاهمية لعيون التي بثها حول اعدائه ..؟ كيف كان قويا بقدر ما كان متسامحا ..؟ وكيف احب المسيحي القتال تحت راية الاسلام في عهد صلاح الدين ؟ .. وايضا وضع الاجابات بطريقته .. فهو " عيسى العوام " في الناصر صلاح الدين .. كما هو " علي " في الوداع يا بونابرت الذي وضع تساؤلات عديدة امام المشاهد : ماذا الحملة الفرنسية ..؟ وأين ضربت ..؟ وكيف عمرت ..؟ وماذا استفدنا منها ؟.. وكيف نتعلم المقاومة المنظمة ؟؟.. وكيف نلرفض الفوضى في المقاومة ..؟ وكيف نتعلم النهج الحضاري في حياتنا ونستخدم الاسلوب العلمي لبناء صرحنا الاقتصادي والسياسي والعسكري ؟.. ومتى نتقرب من اعدائنا ومتى نبتعد عنهم ..؟؟
وكل هذا في ظل راية الوطن , وتحت لوائه , وخدمة له دون تهاون او كسل او تخاذل , فنحن اذا نسينا الوطن وتذكرنا انفسنا ومصالحنا الشخصية بأنانية نصبح قذرين وعملاء لغير أوطاننا ..!! " ويوسف شاهين " حين طالب بالاستفادة من حضارة الغرب , طالب بها لتكون نورا لنا ونارا عليهم ليس كما اعتقد او يعتقد البعض بأنه يفضل الغرب وحضاتهم , ليعيش بعيدا عن وطن العرب وهمومهم , ابدا ,,! لم يكن هذا قصده ..
وليفهم ذلك كل الذين تأثروا بحضارة الغرب .. تعلموا , واستفيدوا وحققوا النجاح , ولكن عودوا الى اوطانكم واخدموها بعيونكم , وقدموا لها عصارة نجاحكم , وابذلوا من اجلها الغالي والرخيص , و تنسوا انها هي امكم وابوكم واخوتكم وابناؤكم , مهما علا قدركم في الغرب , الذي هو عدو للوطن ان م يكن صديقا .. هذا هو الدرس المستفاد من " الوداع يا بونابرت " وهو دس كبير كما الفيلم كبير