الأيام . . . وطه حسينالأيام ... انه الكتاب الأكثر شيوعا للمفكر المصري طه حسين .
السيرة الذاتية في ثلاثة أجزاء – صدر بين عام 1926 – و- 1967 .
الأيام اشتهر ككتاب في السيرة الذاتية لاشك في ذلك ، لكن الدراسات النقدية التي تناولته ليست بالكثيرة .
هذا الكتاب هو دراسة لكتاب طه حسين ( الأيام ) ، بعنوان : العمى والسيرة الذاتية .
يتبين لنا من بداية الكتاب ( الأيام ) أن المؤلف ، كان فاقدا البصر ، والإعاقة الجسدية هذه تلعب دورا هاما في نص طه حسين ، ولكن يجب التفريق بين نوعين من الإعاقة هما ، الإعاقة الجسدية فقدان البصر ، كيف يرعى الأعمى نفسه تجاه إعاقته .
أما الإعاقة الأخرى فهي الإعاقة الاجتماعية ، كيفية تعامل المجتمع مع الأعمى .
إذا هناك ( العمى الشخصي ) و ( العمى الاجتماعي ) .
إن أكثر الوظائف شيوعا بالنسبة للفرد الأعمى طوال التاريخ الإسلامي ، كانت تلاوة القرآن ، ( تلاوة النص المحفوظ بدون القدرة على الإبصار ) ، لكن الأمور تبقى نسبية ؟ فصورة المفكر والكاتب الأعمى مألوفة في مصر وفي الشرق العربي بشكل عام ، فقد كان هناك ولازال الكثير من الشعراء والمفكرين والواعظين والمشاهير من العميان ، فالعمى صفة مشتركة بين طه حسين والكثير من الأدباء ، مثلا أبو العلاء المعري الذي اختاره طه حسين لدراسته ، ( أبو العلاء في سجنه ) .
إن السجن ليس جسديا فحسب بل هو اجتماعي أيضا ، كما يصف أبو العلاء ذلك :
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيثأبو العلاء وطه حسين كلاهما كان أعمى البصر ، لكن البصيرة كانت قوية ثاقبة ، بحيث ينطبق عليهم المثل الذي يقول : كل ذو عاهة جبار .
إن الأيام كسيرة ذاتية تتميز بصبغة خاصة فهي تستخدم ضمير الغائب ( هو ) في رواية الأحداث ويشير الراوي بضمير الغائب عادة إلى البطل ، الشاب ( الفتى أو الصبي ) .
تمثل الأجزاء الثلاثة لنص طه حسين ، تطور زمني في حياة الشخصية الأساسية ، فالمدة الزمنية بين الأجزاء الثلاثة طويلة ، 13 عام ثم 15 عام ، من سنة 1926 إلى 1967 من أول جزء حتى الانتهاء من كتابة الجزء الثالث ، وبصورة عامة ، فإن الجزء الأول يتعرض لنشأته في الريف ، والجزء الثاني لتجاربه في الأزهر ، والثالث لدراسته الجامعية في القاهرة وفي الخارج .
هناك تطور واضح من طفولة البطل إلى حيث تعيينه أستاذا في الجامعة .
الأيام سيرة ذاتية ، وتطور في مجال الأدب الروائي العربي الحديث ، أتت بعد أول رواية عربية هي قصة زينب لمحمد حسين هيكل التي صدرت في عام 1912 قبل صدور الجزء الأول من الأيام بثلاثة عشر عاما فقط .
الصراع مع البيئة : الكاتب والناقد إحسان عباس يصف الأيام في كتابه ( فن السيرة ) بأنه " صورة واعية للصراع بين الإنسان وبيئته " ، صورة يرسم فيها المؤلف المراحل المختلفة لحياته ، ويستخدمها كأفضل مثل للانتصار على البيئة .
الجزء الأول يصف طفولة طه حسين في القرية ( عزبة الكيلو ) حياته في البيت والمحيط ، يحس الفتى إن أصدقاءه يفعلون أشياء هو لا يستطيع أن يفعلها ، كما انه سمعهم يصفون مالا علم له به ، فعلم انهم يرون ما لا يرى ، وفي البيت أيضا ففي يوم من الأيام وفيما كان الشاب يتناول الطعام ، قرر أن يدفع اللقمة إلى فمه بكلتا يديه
بدل من يد واحدة ، فأغرق أخوته في الضحك ، وأجهشت أمه بالبكاء ، بينما أخبره والده بصوت هادئ وحزين انه لا يصح فعل ذلك .
يستغل الراوي هذه الحادثة ليخبرنا إن الشاب قد بدأ في حرمان نفسه من أنواع مختلفة من الطعام لم يلمسها ثانية حتى بلغ الخامسة والعشرين من العمر ، يقول الشاب إن هذه الحادثة قد ساعدته على فهم ما حكي عن الشاعر أبو العلاء المعري ، فأبو العلاء كان متشائما كما كان لتشاؤمه اتصالا واضحا بمسألة فقدان البصر .
العمى والصراع : في يوم من الأيام كان الشاب يتجادل مع أحد الشيوخ حول أمر قاله الشيخ ، وبعد مضي بعض الوقت ، بدأ الشيخ يغضب وقال له بصوت مليء بالسخرية أسكت يا أعمى ما أنت وذاك ، غضب الشاب غضبا شديدا ولم يعد لحضور دروس ذلك الشيخ مرة أخرى .
نبرة الشيخ الساخرة وكلماته المهينة التي تؤكد السلبية الضمنية لكلمة أعمى ، ورد فعل الشاب ، مقاطعة الدروس ، رفض أخر لتصنيفه في فئة اجتماعية متدنية
القديم / الحديث ، الشرق / الغرب .
تسير أحداث الأيام قدما من كتّاب تحفيظ القرآن في القرية إلى الجامعة في المدينة ، من القديم إلى الحديث .
أهمية الانتقال من القرية إلى المدينة ، من الشرق إلى الغرب ، وفعالية الانتقال من القديم إلى الحديث .
إنجازات طه حسين التعليمية ، الحواجز التي تخطاها في الخروج من القرية إلى الأزهر ومن الأزهر إلى الجامعة ثم إلي فرنسا .
اجتياز الصعاب وكسب المعارك الحياتية بشكل تصاعدي في مراحل حياته المختلفة مع كثرة الاحباطات التي تعرض لها ولكنها لم تثنه عن المتابعة بل زادته إصرارا وعزيمة على المتابعة والعمل التي أدت إلى الانتصار على العوائق .
أيام طه حسين هي معاركه وسيرته من خلال (الأيام ) لها مدلول ، فقديما تشير أيام العرب إلى " أيام حروب العرب " كما لها معان أخرى في المعاجم العربية ، فالزبيدي في تاج العروس أكبر القواميس العربية من ناحية المواد العلمية التي تحتويه يستشهد بعالم اللغة الأسبق ابن السكيت في قوله : إن كلمة (الأيام ) تعني (الوقائع ) وخاصة وقائع حروب العرب السابق ذكرها .
إن فهم كتاب الأيام إذا لا يقتصر على فهم قصة حياة مؤثرة لفتى فقير أعمى يصبح رائدا للفكر في مصر ، إن لم يكن في العالم العربي .
إن فهم هذا الكتاب يعني أن ندرك الكيفية التي تم بها تحوير هذه الإنجازات البطولية نفسها إلى واحدة من الأعمال الكلاسيكية في الأدب العالمي .كتاب - الرياض . العدد ( 90 ) مايو 2001 م .
العمى والسيرة الذاتية / دراسة في كتاب الأيام لطه حسين .
تأليف : فدوى مالطي دوغلاس
ترجمة : الدكتورة لمياء محمد صالح باعشن .سلام مراد – دمشقذكريات مسافرمثل كل الشباب من جيله ، حامت برأسه فكرة السفر للعمل خارج القطر بما أن العمل في بلدته شحيح .
مع قدوم الصيف جهز نفسه ، حزم أمتعته وشد الرحال إلى بيروت .
هناك كان أصدقائه الذين سبقوه ، والحبل على الجرار ، سيلحق به شباب كثير من جيله أو أصدقائه ، قطع المسافات الطويلة التي أضحت قريبة بفضل وسائل المواصلات الحديثة .
ركب حافلة إلى دمشق ومنها ركب سيارة صفراء اللون من تلك التي تعمل على خط دمشق بيروت ، من بداية وصوله إلى بيروت بدأ تفتيش جيوبه وأخرج الدفتر الصغير ليتفحص عناوين أصدقائه في بيروت .
استدل على العناوين وحل ضيفا ً على الأصدقاء ، بعد التحيات والقبل الشبابية الحارة ، سألهم عن أخبار العمل وكيف يعملون ويتدبرون أمورهم في المدينة ، قال له الأصدقاء لا تشغل بالك كثيرا ً سوف نُدبر لك عملا ً في القريب العاجل ؛ لكن ماذا تتقن من المهن والأعمال .
كان رده انه يتقن العمل في الحدادة واللحام ، ولم يمضي يومان حتى أخذه الأصدقاء معهم إلى ورشات العمل التي تملأ بيروت ليلا ً ونهاراً وتشهد حركة أعمار وبناء مستمرة بعد توقف الحرب الأهلية .
أصبح عبد الله يستيقظ في الصباح الباكر مع أصدقاءه العمال ليذهب إلى العمل ويعود بعد الظهيرة إلى البيت بعد أن يكون التعب والمشقة قد نالت منه ما نالت .
يتهالك جسمه الطويل الباسق كشجرة حور على الفراش ، يتمدد ليريح نفسه من عناء العمل في يوم من أيام الصيف الحارة تحت وهج الشمس الحارقة ، التي تلفح الأجسام لفحا ً فتزيد سمرة البشرة وتعطيها لونا ً مثل لون البن المحروق .
يسكن عبد الله في غرفة صغيرة كعلبة كبريت والعمال يتزاحمون داخلها كأعواد الكبريت المتراصة المتلاصقة بعضها ببعض ، يتعاون العمال في الطبخ والعمل لتوفير المصروف والإيجار ، يأتي عبد الله من العمل يرتمي بجسمه على الفراش ويغلق عينيه ليسبح في شرود عميق ، يتخيل أشياء كثيرة في أحلام اليقظة التي تراود الشباب كثيرا ً يرى نفسه مستقبلا ً الأيام وقد امتلك بيتا ً بعد أن استقر في عمل ووظيفة تستر أيامه العارية الجائعة التي لا تتعب من الهجوم عليه مرة تلو الأخرى ،
يعود من شروده من عالم الخيال إلى الواقع المر وذلك بحركة صغيرة من يد صديقه محمد يقول : له قم يا عبد الله ، الأكل صار جاهزا ً قم وأغسل يديك لتأكل .
أيام أغبرت أدبرت وعبد الله على عادته في الذهاب إلى العمل صباحا ً والرجوع بعد الظهيرة ، وبعد مرور ثلاثة اشهر على وجوده في بيروت ، أراد الرجوع إلى بيته أملا ً في العودة إلى بيروت في فصل صيفٍ آخر إن أتيحت له فرصة أخرى للعمل فيها .
حزم حقائبه وودع أصدقائه بالقبلات بعد أن كتب توصياتهم إلى أهلهم ، واستلم منهم الأمانات التي سيبعثونها معه إلى أهلهم ، نقود وأدوات تلزم للبيت مما خف حمله لكي لا يثقلوا عليه الحمل .
تحرك عبد الله نحو كراج السيارات ليسافر إلى دمشق تاركا ً بيروت وراءه فيها الأصدقاء وبصمات له على أعمال وأيام ستذهب في مهب الريح العاتية وتخزن أيامه وذكرياته في تلافيف مخه التي تبقى معه إلى أن يشاء الله .
استقل سيارة تعمل على طريق بيروت دمشق حزم حاجياته وحقائبه فيها ، انطلقت السيارة بالمسافرين تقطع المسافات الطويلة تقرب البعيد وتبعد القريب شيئا ً فشيئا ً .
وصلوا إلى الحدود ، ازدادت دقات قلبه سرعة وخفقانا ً ، كانت السيارات مصفوفة وراء بعضها البعض في شكل مرتب كحافلة قطار ، وقفوا ينتظرون في طابور السيارات ليأتيهم الدور في تفتيش السيارة وتسجيل أسمائهم لعبور الحدود .
وبينما هم ينتظرون ، ترجل عبد الله من السيارة وبدأ المسير بالقرب من السيارات الواقفة المنتظرة في الدور ، أشعل لفافة تبغ وسحب منها النفس تلو الأخر ، ونفث دخان لفافته في السماء لتشكل شيئا ً يشبه السحاب .
وفي هذه الأثناء لفت انتباهه اقتراب رجل ٍ منه ، نظر في هيئته ، كان رجلا ً في العقد الخامس من العمر ، يلبس سروالا ً اسودا ً وقميصا ً من القماش السميك ، وملامحه فلاحية أليفة إلى الذي يمعن النظر في وجهه الصلب الذي تتبين فيه آثار السنين .
سلم الرجل على عبد الله مصافحة ووضع في يده ورقة نقدية من فئة الخمسمائة ليرة سورية وقال : لعبد الله الذي أندهش وأستغرب ، متى تفتش السيارة يا معلم ومشى باتجاه السيارة وهو يودع عبد الله بنظراته .
أدرك عبد الله إن الرجل أعطاه النقود لأنه ظنه أحد حراس الحدود أو من عناصر الجمارك ، وذلك لكي يمرق له عبد الله بعض الأغراض والحاجيات الممنوعة على الحدود ، ويسهل عليه العبور من غير إزعاج ومشاكل مع المفتشين .
بعدما انتهى عبد الله من تدخين لفافته ، توجه إلى السيارة ، سارت بالركاب باتجاه دمشق بعدما اجتازت الحدود .
بينما كان ذلك الرجل ذي الملامح الفلاحية الأصيلة ينتظر في السيارة لكي ينقذه عبد الله من التفتيش وبقي منتظرا ً إلى أن يسعفه ........ عبد الله .
سلام مراد – دمشقمشكلة الحداثة والتحديثقيل الكثير عن الحداثة ومدارس الحداثة النقدية وما بعد الحداثة ، المدارس متنوعة وكثيرة من ألسنية سو سير ، وبنيوية شتراوس وفوكو ، وواقعية .... ووجودية جان بول سارتر والبير كامي ، وتفكيكية دريدا ، والنظريات الحديثة حول النص والتناص ، ونظريات القارئ ، وموت المؤلف الكاتب ، وغيرهم من الاتجاهات والمذاهب والمدارس ، فالإشكالية قائمة ، ليس فقط لكثرة النظريات والمذهب والاتجاهات .
بل هناك من وقف مع نظريات الحداثة الغربية بشكل تام ومطلق ، وهناك من عارضها جملة وتفصيلا ً ، وبينهم الكثير من المؤيدين والمعارضين والوسطيين وغيرهم الكثير .
فهل النقل عن الحداثة الغربية يفتح الطريق أمام التبعية الثقافية ثم يكرسها ، كما يقول البعض . وهل نرتكب إثما ً لا يغتفر كما يقول البعض الآخر ، وذلك حينما ننقل المصطلح النقدي الغربي ، وهو مصطلح فلسفي بالدرجة الأولى ، إلى ثقافة مختلفة هي الثقافة العربية .
وهل نجد بديلا ً عن الحداثة والنظريات النقدية الغربية المتنوعة ، يقول البعض الآخر إن البديل موجود في التراث العربي ، فالتراث البلاغي العربي موجود وهناك بلاغيين عرب من أمثال : الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني ، وقدامة بن جعفر ، وحازم القرطاجني ........
وماذا بخصوص الحداثيين العرب اليوم ، سواء الجيل الأول من الحداثيين من أمثال طه حسين والمازني والعقاد ، الذين قدموا الكثير من الأبداع والفكر والعلم ، والجيل الجديد الذي اصبح الكثير منه فقط ببغاوات ، وذلك دون التمكن من صنعة الأدب بل فقط هم مترجمين ومرددين لكلمات ومصطلحات تأتينا من الغرب . هؤلاء الحداثيون العرب الجدد الذين ابتعدوا اكثر واكثر عن الأصول الغربية للحداثة ، واعتمدوا على عمليات نقل وترجمة غير دقيقة ، وهكذا ابتعدوا عن حقيقة الحداثة وما بعدها بخطوتين .
وماذا عن الجيل الوسط بين الحداثيين العرب من أمثال عز الدين إسماعيل, وشكري عياد ,ومحمد عابد الجابري , وجابر عصفور وآخرين غيرهم ! وهل نكون موفقين عندما نطلق عليهم تسمية الوسطيين .
يجب علينا إذاً وصل ما انقطع , كما يقول الكثير , فالانقطاع حصل من القرن الرابع عشر الميلادي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر , ونحن الآن نكرس الانقطاع من خلال انبهارنا بإنجازات العقل الغربي في العصر الحديث , وباتخاذ موقف القطيعة الاختيارية والإرادية من تراثنا القديم , إذاً يجب وصل ما انقطع , ومحاولة رأب الصدع , ووضع نهاية لثقافة الشرخ والانفصام . فنحن نعيش في مجتمع ونفكر بتفكير مجتمع آخر , يختلف عن مجتمعنا في العادات والتقاليد والقيم والثقافة والتربية , فليس من المعقول أن نسقط النظريات الغربية بقوالب جاهزة وجامدة على حياتنا وثقافتنا ونجعلها مرشداً ومقياساً موحداً لنا .
أخطأنا إذاً حتى في فهم الحداثة ولم نستطع استيعابها بل هي التي استوعبتنا واحتوتنا , فنحن لدينا تراث كان يجب أن نحافظ على منجزات التراث والعقل العربي مع الاستفادة من منجزات العقل الأوربي في العلوم والتكنولوجيا , كما فعلت اليابان على سبيل المثال .
إلا أننا تحولنا من الانتقاء الذكي والاستفادة من ثمرات الحضارة الغربية ، منذ ذروة عصر النهضة ، إلى الارتماء في أحضان ذلك الآخر الغربي .
أخطأنا حين ربطنا بين التحديث وإدارة ظهورنا بالكامل لمنجزات العقل العربي ، كما يفعل الحداثيون العرب الآن ، إذ يقولون يجب أن تكون هناك قطيعة معرفية مع الماضي على أساس إن الحداثة تتطلب ذلك ، علاوة على ذلك كانت هناك ثنائية وهي الانبهار بالعقل الغربي ومنجزاته ، واحتقار العقل العربي ومنجزاته ، بذلك أصبحنا نعيش شرخا ً ثقافيا ً .
لكن هناك من أدرك الاختلافات بين الثقافتين العربية والغربية ، أدركوا أن إنجازات العقل الغربي ليست خيرا ً كلها ، أدركوا أيضا ً عكس ذلك ، فليست إنجازات العقل الغربي شرا ً كلها وليست إنجازات العقل العربي خيرا ً كلها . يجب علينا إذا ً أن نأخذ من الثقافة الغربية ، مع ما يتناسب مع ثقافتنا وتراثنا ، وألا تكون هناك قطيعة معرفية مع التراث كما ينادي به الحداثيون وما بعد الحداثيين ، إذ يجعلون القطيعة المعرفية شرطا ً أساسيا ً لتحقيق التحديث والحداثة ، فأصحاب الحداثة كبارهم وصغارهم يتجاهلون نقائص الحضارة الغربية مع علمهم بهذه النقائص ن لكن هناك الكثير من الأدباء حذروا ، من الارتماء الكامل في أحضان الثقافة الغربية ، ونقل الفكر الغربي والانفصال عن الواقع بل الدعوة إلى ثقافة تقترب من الواقع الثقافي والحياتي العربي ، اكثر من اقترابها من الثقافة الغربية ، أي يجب أن نرفض النقل ، وهذا لا يعني أن نرفض التأثير . يجب أن توجد تغذية للثقافة العربية والاستفادة من الثقافات الأخرى ، فالتأثير والتأثر والاستفادة موجودة من الأزل ، فنحن أخذنا من الثقافة العالمية وأعطيناها ، نحن جزء من الثقافة العالمية بمجملها ، ولسنا خيالات وببغاوات لغيرنا مهما كان هذا الغير من القوة والهيمنة والشراسة . إذا ً التفكير الخصب هو الذي نستمده من الحياة ونبنيه على الواقع ، فيجب التجديد في حياتنا ، والاستفادة من الآداب والفنون الأوربية ، مع الحفاظ على الذات ، يجب أن نعرف أنفسنا قبل أن نتعرف على غيرنا . فسؤال من أنا ومن نحن ، والإجابة عنه أصبحت مهمة لا غنى عنها أمام الأدباء والمفكرين والمثقفين والشرائح الأخرى . وأن نعرف في أي عالم نعيش ، وكيف نطور أنفسنا نحو الأفضل والأحسن الذي يسعى إليه الكل ونحن من ضمن هذا الكل فعلينا أن نطور أنفسنا وان لا ننسى ثقافتنا بنفس الوقت الذي ننظر فيه إلى الثقافات الأخرى ، وأن لا نتغاضى عنها أو نغمض أعيننا عنها ، فتجاهل الآخرين لا يجوز أبدا ً في عصر تلاقح الثقافات .
فاللون الأبيض والأسود ليسا الوحيدين بل هناك ألوان كثيرة بينهما ، هناك إمكانية لاستلهام الماضي والانطلاق منه والاستفادة من الحديث ، بحيث يتم تطوير الذات ، فمعرفة الذات الأنا والنحن يوفر علينا الكثير من الجهد والمشاكل ، ويساعدنا على تطوير أنفسنا ، فالآن ليس مقبولا ً أن نعيش التاريخ القديم ونحن في عصر آخر يختلف عن السابق بالكثير من تفاصيله وجزئيا ته فالكثير من الغربيين يحاولون شرنقة الشرق كما يقول إدوارد سعيد ، ويجب ألا نفصل أنفسنا ونتجرد من ماضينا وأن نحقره كما يفعل الكثير من الحداثيين ، فالعقل العربي يجب أن يصبح فاعلا ً وليس فقط منفعلا ً ، ومحاورا ً وليس فقط مستقبلا ً ، وأن نكف أن نكون مستهلكين لفكر الآخر ، وأن ننتج فكرا ً خاصا ً بنا ، مثل الشعوب الأخرى التي تتميز عن الغرب ولها خصوصيتها الفكرية واللغوية والثقافية كاليابان والصين ........
نحن أيضا ً لنا قيم خاصة بنا كاللغة والثقافة ..... ، تميزنا عن غيرنا ، وتحافظ على هويتنا أمام الغزو الثقافي الذي نتعرض له اليوم ولا يعني ذلك أن نبقى جامدين متحجرين ، بل يجب أن يزداد الوعي بالذات بحوارها مع غيرها من الثقافات الأخرى .سلام مراد – دمشق