مسلسل نزار قباني:

أخطاء فاحشة وتدنيس لدمشق

تزامنت زيارتي الأخيرة إلى مسقط رأسي دمشق، في أوائل شهر رمضان الكريم، مع عرض التلفزة السورية للمسلسل السوري الذي أطلق عليه ـ افتراء ـ اسم نزار قباني . وكان والدي الدكتور صباح قباني، الأخ الأصغر للراحل نزار، والفنان الثاني في هذا الجيل من العائلة، قد رفض رفضاً قاطعاً التعامل مع المسلسل أو حتى مشاهدته، لاقتناعه التام بأن أي حديث عن تجربة أخيه الإنسانية والشعرية والسياسية سابق لأوانه، اذ لم تمر الا سنوات قليلة علي وفاته. بالرغم من هذا، قررت أنا أن أشاهد المسلسل. وبعد حلقة واحدة فقط، اعتراني شعور بالاشمئزاز لسطحية ما أري، ولابتعاده عن الحقيقة.

فالشخصيات التي يصورها المسلسل لا تمت بصلة الي أفراد عائلتي كما عرفتهم، لا في الشكل ولا في المضمون.

جدي توفيق القباني مثلاً، وهو التاجر العصامي والدمشقي الأصيل، الوسيم الرشيق، الذي اشتهر بذوقه وفنه وجودة ما أسس وصنع، يطل علينا عديم الذوق والأناقة، ضعيف الشخصية، ركيك التعبير، فقير البلاغة. هذا الرجل الذي كان من وجهاء الشاغور، الجار والصديق الداعم للحملة الانتخابية الديمقراطية للرئيس شكري القوتلي، بعدما حاربا فرنسا معاً وسجنا في سجون الانتداب الفرنسي، يبدو وكأنه منقطع الصلة تماماً بدمشق، لا يتقن لهجتها، ولا طرائق تصرف أبناء أحيائها القديمة، ولا مشيتهم، ولا جلستهم، ولا أساليب مخاطبتهم لنسائهم وأطفالهم.

اما كان من الممكن أن يكلف ممثل دمشقي الأصل بلعب هذا الدور الأساسي في حياة نزار قباني؟ ليس ما أقول تعصباً مناطقياً، بل هو تساؤل فني وثقافي جدي كما أرجو. فهل كان سيرضي أهل الساحل السوري لو عهد الي ممثل دمشقي من أهل الميدان التحتاني ، بأداء دور الشاعر الراحل بدوي الجبل؟ أو كان سيرضي أهل البصرة لو أن ممثلاً من تونس، أدي دور والد الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب؟ وبمعزل عن هذا التوزيع الرديء للدور، يبدو الأداء ذاته بائساً متدنياً بارداً.

جدتي من جانبها كانت امرأة أمية، مثل معظم النساء في عصرها، وقد كتب ابنها عن ذلك مراراً. فلماذا تصويرها في المسلسل وهي تقرأ بشغف وحماس؟ هل كان كثيراً علي صانعي المسلسل لو أنهم عادوا الي كتابات نزار قباني عن أمه؟ أما كان من الضروري، وليس فقط من الأفضل، لو أنهم تعمقوا في الحوادث التاريخية والصفات المدنية واللمحات العائلية التي كانت هي المؤثرة علي نزار قباني الحقيقي؟

دار جدي، بباحتها الواسعة، كانت الملتقي لاجتماعات الكتلة الوطنية. وصاحب الدار كان قد جند وقته وماله وجسده لوطنه ـ لتحريره أولاً، وللإسهام في الأنفاق علي تأسيس كيان سياسي يضمن انتخابات حرة ونزيهة بعد الاستقلال. أعز ما أملك من صور العائلة هي صورته واقفاً أمام صندوق الاقتراع، في حي الشاغور العريق، ببدلته البيضاء وطربوشه، يدلي بصوته أمام إخوانه في الحي (ولا يظهر، في غرفة مكتظة بالناس، أي شخص باللباس العسكري المكروه في مناسبات مثل هذه).

المسلسل يطمس هذا الجانب من نضال عائلتي، ويمر علي هذا الفصل مرور الكرام. والأشنع من ذلك أن نزار المسلسل يظهر وهو يهاجم أول حكومة سورية بعد الجلاء، بوصفها بعيدة عن الناس ومتقوقعة! فهل يعقل، في هذا الزمن من انحطاط بلادنا السياسي بعد وبسبب أكثر من أربعين سنة من حكم العسكر والاستخبارات والمستبدين، الذين وصلوا الي مناصبهم بالبطش فقط وحافظوا عليها بالبطش أكثر فأكثر، هل يعقل أن يكون أحد أهداف المسلسل تدنيس هذه الفترة المضيئة من التاريخ السوري، حين كان المواطن يشعر أن بلاده ملكه، لا يخاف مخبراً ولا جلاداً ولا فاسداً؟

والتفاصيل في المسلسل حافلة بالأخطاء والأكاذيب. عمي نزار الذي كان، مثل إخوته وأكثر أهل الشاغور، معروفاً بحس السخرية وروح النكتة والدعابة، يظهر أشبه بدب روسي ثقيل الدم، لا يعرف إلا الإطراق الطويل، ولا يتقن إلا التدخين، ولا يجيد النطق حتى يجيد كتابة الشعر!

والحوار في المسلسل ركيك إلى درجة مبكية، وتزيد الطين بلة تلك الأنماط من المبالغة والتحريف والتشنيع والتشويه. هناك اختراع لقصص درامية ليست لها أية صحة، ومغامرات مليئة بالتقبيح لشخص لم يخفِ أبداً تاريخه العاطفي، وأقام علاقات فكرية وعاطفية هامة مع أديبات تأثرن به وأثرن فيه. فلماذا ربط اسمه بالحشاشين والحشاشات وبيوت الدعارة، كما فعل المسلسل؟ ألا يقود هذا الي تشويه سمعة دمشق، والدمشقيين؟ كم حزنت، واستبد بي الغضب، حين تجولت في شارع البزورية العريق، الذي ما زالت تفوح منه روائح الملبس تماماً كما وصفها عمي نزار، وسمعت تذمر أهل حارتنا من هذا الافتراء المغرض، الذي ينال من سمعتهم الجماعية.

وفي زمن يتصور فيه النظام الحاكم أن تسريح بعض القضاة سيجعل القضاء حراً، في بلد ليس فيه أي شيء حر، أما كان من الممكن لصانعي المسلسل أن يتوقفوا عند نزاهة القضاء ونظافة القضاة آنذاك؟ محمد آقبيق، أحد أشرف رجالات سورية وأكثرهم استقامة، كان يستحق تقديماً معمقاً أكثر من كونه والد زوجة نزار قباني الأولي، زهراء آقبيق. بدورها، بدت هذه السيدة في المسلسل داكنة اللون من فرط الماكياج، منفوخة الشفتين، موديرن للغاية في كلامها ولباسها وتصرفاتها، وتلفظ كلمة نزار بلكنة موارنة جبل لبنان... كل هذا، وزهراء في الحقيقة كانت سيدة شامية، خجولة، أصيلة، ناعمة! وأم الشاعر لم تكن أبداً هي التي اختارت زهراء زوجة له، كما يزعم المسلسل، بل كانت اختياره هو، وتزوجها دون موافقة والدته، وبالرغم عنها.

كانت شخصية نزار قباني مركبة، ولا تشبه في شيء شخصية هذا الشاعر الأبله والممل في المسلسل. كانت التناقضات تسكنه، بين التحرر والبطريركية، بين البوهيمية والرجعية، وبين انتقاد الأنظمة العربية ومديحها. هذا ما جعله إنسانا مثيراً، وعربياً يمثل أحاسيس العرب الحقيقية وتناقضاتهم. وهذا ما يتعامي عنه المسلسل تماماً، وكأن الشاعر ـ أي شاعر ـ مجرد كليشيه يحملق في الأزهار وفي عيون النساء، ساعة الغروب، والموسيقي تصدح من حوله!

وذات رمضان غير بعيد، بثت التلفزة المصرية مسلسلاً عن حياة أم كلثوم، كان بديعاً في كتابته وتمثيله وتصويره وإخراجه. والأبرع من ذلك كانت الدقة التاريخية والأدبية والفنية التي تحلي بها المسلسل، فكل حدث في حياة أم كلثوم كان موثقاً خير توثيق، وكان المرء يشاهد الحلقات وهو يدرك أنه يتعلم عن تاريخ مصر السياسي والأدبي والفني، وعن نضالات شعبها للتحرر من الاستعمار البريطاني، والصراعات الطبقية، وتحولات المجتمع، الي جانب تطور الفن الغنائي والمسرحي فيها.

ومن هذا المسلسل البائس الذي سمي نزار قباني زوراً وبهتاناً، والذي ألحق الأذي الشديد بتاريخ مدينتي وعائلتي، لم أتعلم سوي أن الابتذال هو السيد في شاشاتنا، يسانده بالطبع أصحاب النفوذ الذين لا يهمهم الا الربح السريع. البيوت الدمشقية العريقة الآمنة، مثل التي ولد فيها الشاعر وترعرع، مسخت إلى مقاهٍ ومطاعم فاخرة يملكها كبار أفراد النظام الحاكم وأولادهم. وحتى الياسمين الدمشقي أصبح عندهم جزءاً من تجارة العلاقات العامة التي يسمونها الحملة الوطنية، في حين أنهم هم أنفسهم مَن يجتث روح الياسمين من جسد الشام.

فكيف يمكن لهؤلاء إلا أن يرتكبوا الجريمة ذاتها بحق نزار قباني؟

كاتبة من سورية تقيم في لندن
منقول