"أمى الجديدة"
قصة قصيرة للأستاذة ريمة الخانى
كلمة نقدية بقلم إبراهيم عوض
نص القصة
-أمي الجديدة
يؤلمني جدا كثرة تأنيبَها لي وزجرِها القاسي، كأن قلبها خلا من الرحمة إلا قليلا، حتى لتجد الفصولَ الأربعة حضرت أمامك من حيث لا تدري معانيها، تحِن على من لا يستحق، نعم تحن.. وتقسو على من يستأهل العناية.
تخدش خاطري وتؤلمه ملاحظات مديرتي الصعبة التطبيق:
-ابتلع لقمتك بسرعة، قبل أن يرن جرس المدرسة للانصراف للصفوف.
-لا تنظر إليّ وأنا أكلمك ..فقط انظر للأرض..
الى آخر التوصيات والأوامر صعبة التطبيق.
كثرت أوامرها للمدرسات بفرض الحزم على جهدي اليتيم ، لقد كان مدعاة للدهشة !.لماذا أنا بالذات؟
تمنيت أن أهمس لها يوما:
ـ أنا يتيم.. والله يتيم، يتيم جدا، لم أتعود على كلمة ماما ، أرتمي بين بيت وبيت وسرير و سرير، فهل هذا يعني لك شيئا؟.
تتعالى أنفاسي عند المرض ، أسمعها وحدي، يعطل حواسي النعاس لكأنني دوما بحاجة لنوم عميق عميق.
لقد أربك كل هذا ذاكرتي، وجعلها تَخذلُني مرات ومرات..
أقدام أقربائي تركِلُني، حتى إدارة السكن الداخلي في مدرستي باتوا الآن يقومون بنفس الدور البشع هذا، تمضي الأيام جافة خشنة، وكأنني وحش مفزغ أخرج لهم كل يوم ليأكلهم ، فاغرا فاه ، وعليهم التخلص َمنه.
لن أنسى أبداً، عندما أعادتني أختي بيديها الصغيرتين إلى المبيت في السكن الداخلي للمدرسة فعدت محملا بحاجياتي المهترئة، كل هذا لأنني اعترضت على سياسة الدار..
لقد أبت أن تحتويني...متذرعة بأن زوجها سيدعوها لتلحق به وتسافر إليه يوما ما.
أنا جوعان، جَوعان جدا ، حتى الحشرة تجد ما تأكله عندما تبحث.. عن طعام
إذلالهم لأختي كان غريبا لافتا، واستعطافِها لإدارة السكن الداخلي.. غريبا أكثر..
حيث أعادتني إليه مدعية ضرورةَ ذلك.
كان مشهدا سيئا للغاية بكل المقاييس...لم أجد له حلا أبدا، حتى لم أجد حلا لمشكلة ذاكرتي بعد..
ابتلعتُه لأنه قدري ...
سامحتْني يوما المسؤولة عن الغذاء بعد اطلاع مديرتي على الأمر، حيث أزعجها جدا أمري خاصة عندما جمعتُ بعض بقايا طعام التلاميذ المتراكمة جانب الجدار القريب، كانت طازجة جدا، ولذيذة جدا، لقد منعهم شبعهم من إتمامها.
اعتقدتْ يومها أنني أسرق.. قائلة:
- ألسنا نقدم لك من الطعام ما يكفيك؟
ما كان لي أن أقول، وكيف أقول ولا أحد يسمع.؟ .
*****************
في حرم المدرسة ،قفزت لذهني فكرة ماكرة، نعم يجب أن أجد حلا ، من قبل مديرة لا تدري بحالي ولا تعرف...لم أعد صغيرا.. نعم لم أعد صغيرا أبدا.
رأيتها ذات يوم بكامل أناقتها، بحلتها جديدة ، كانت مسرورة مبتسمة على غرار الأيام الأخرى، أسعدني حالها لا أدري لماذا..
جميل هو ذاك الجمال الذي يُخفي حزما في قرارته، وحكمة في كلامه...وحنانا في ثنايا روحه...الحلوة.
طرقت الباب.. حيث قررت حوارها وسؤالها.
ـ تفضل
دخلت على رؤوس أصابعي فالأرض كانت لتوها مسحت ونظفت، ورائحة المواد السحرية تعبق في المكان، وهي وراء مكتب الإدارة تظهر رائعة الجمال، متصدرة المقعد برزانة لافتة:
ـ أنا الطالب أحمد.. ممكن دقائق من فضلك؟
ـ أهلا يا أحمد تفضل بالجلوس
ـ هل أجلس فعلا؟
ـ نعم نعم أنت الآن في مكتبي، انت ضيفي الآن.
دخلت المدرّسة "حسنا" متعجبة من وضعي هذا قائلة:
ـ قف ...طلاب آخر زمن. صحيح إنها قلة ادب..
قدمت أوراقها وانصرفت وسط نظراتها المتفحصة المشمئزة مني. ووسط لامبالاة مديرتي هدى الغالية.. وقفت حينها حائرا
ـ أجلس...ماذا دهاك .؟
ـ كنت أسأل، لو أنت راضية عني.!
ـ راضية.. ولماذا؟، هل كنت أمك يوما.؟، ههه أنت بخير وفي تحسن مستمر اطمئن ، ثابر صعودا
ـ كنت أفكر فعلا أن أقول لك...... مـ.... ليس قصدي تماما.. ولكن..
نظرت إلي في تأمل بديع، وقد صغرت عيناها حتى لم أعد أرى البؤبؤ حالك السواد.. والجميل..
قالت:
.آهٍ على أولاد آخر الزمان، لم يعودوا يتصلوا بي أبدا، أنا علمتهم الاستقلالية وأنا تجرعت سمّها.
ـ بإمكانك تعديل البوصلة الآن، اتصلي بهم .
ـ سيجاملونني، ويقولون لي أحلى الكلام، وينصرفون كالعادة، كلامٌ في الهواء، لامعنى له ولا تطبيق واقعي أبدا، إن أسوأ ما في زمننا هذا بضاعة الكلام وبيعه في أسواق النخاسة...والمصيبة أن هناك من يشتريه..
ـ بكل الأحوال نحن علمناهم الجفاء لأنهم انصرفوا قبل أن ندعم الخيط بيننا، هي المحبة الحقيقية، الحوار النقد بروح متفهمة، هكذا علمتنا الكتب.. لقد دعمنا نجاحنا حتى وصلنا لتلك المراكز التي أضاعت كثيرا من المحبين، والأوقات الطيبة، تدين وندان... .
- ندين وندان....مم بكل الأحوال أظن أن ما يفكرون فيه، هو ألا يعلقون أرواحهم بنا، ليستطيعوا المضي بقوة لهدفهم.
- أقصد هذا ما جرى ...المهم، أي خيط، خيط الوفاء والمحبة، أم خيط التربية والقيم أم....الخ
ـ عن ماذا تتحدث؟، وهل مثلك يعرف ماذا يعني والدين؟.
انكمشت في الكرسي وحاولت لملمة الكلام:
- نعم فأنا مهمل و يتقاذفني الأهل كخرقة وسخة، لا يدرون كيف يتخلصون منها، كل هذا بعد وفاة أمي.. رحمها الله كان عمري حينها ثلاث سنوات ، ربما تذكرت بعض ملامحها فقط.
- لماذا يحدث كل هذا الآن؟ لا أدري.. من قال لهم أن ينجبون كل هؤلاء الأولاد ويتزوجون كل هذه الزيجات!
قلت:
ـ هل؟...
ـ آه من الوحدة سم ناقع، مر علقم...نستيقظ على صوت شكواه منا، متأخرين جدا...
ـ هل؟..
-ماذا تريد؟
ـ هل تسمحين لي بأن أقول...، أقصد... أن تتصلي بأولادك.. نتصل بهما معا.
ـ بصفتك ماذا؟.
ـ بصفتي مثل ابنك مثلا.. ، أو ولأنك قدوتي.. مثلا..
نظرت إلي نظرات طويلة ، وحبست دمعها، لم أجدها يوما بهذا الضعف، كل هذا الجبل الشامخ الذي كنت أهابه دوما، يقف أمامي عاجزا محتارا، هل يفعل الشوق بنا هكذا؟، أم هو الألم والندم.!
هل تسمحين لي بالاتصال بهم؟
. ماذا ستقول لهم؟
ملكت حينها شجاعة الدنيا.. وأمسكت بتلابيب ثقتي بنفسي وفعلتها..
ـ ألو الوالدة مشتاقة لكم جدا، فإن أحببتم تعالوا..
ـ يا ولد هات أمي، من هذا؟.
ـ ابني الجديد...وأنتم أبنائي كلكم وكل يوم سيكون لي ابن جديد، فكلهم بحاجة إلي لكنني لست بحاجتكم.
ـ ابنٌ الجديد...هل تزوجتِ يا أمي ولم تخبريننا؟.
- هل هذا كل ما فكرتم به الآن؟ طبعا لا..
-الحمد لله.
هذا ما تناهى لسمعي...حيث توقف الحوار عبر الهاتف بلا شرح لما حدث، ولا تفسير لسبب توقفه.
خرجنا معا إلى الحديقة معا، كان اللافندر يبث ريح عطره الشذي.. ينثر حولنا ريحة الحلوة باحتفال رائع..
ورغم هذا كانت تلجمني حينها الحيرة والدهشة، وكأنني لأول مرة أراها، وأسمع صوتها الحنون الرقيق، ووجهها السماوي الرقيق يصافح يتمي، لم تعد تلك المديرة بقسوة ألفاظها الصعبة توجعني، لقد صار ترياقا ودواء لي.
ـ اقسِ عليّ في كل يوم، اقس في كل لحظة، ولكن خذيني مشوار مثل هذا.
ابتسم ثغرها الجميل وفاح عطر حنانها..
-ما زلت أريد أن أعرف لماذا يعق الابناء آباءهم، هل هو ثمن أخطاء اقترفها الآباء.؟
لو يدرون أنني أبحث عن ظل أم حتى..
ضحكت كما لم تضحك من قبل، وبدت أسنانها الجميلة، وضحكتها التي أحب أن أراها دائما ، و التي ظهرت لي كاملة هذا اليوم، كانت تمنحني سعادة ما بعدها سعادة.
أهديتها علبتي المفضلة والتي جمعت أجزاءها جمعا، صنعتها لأول سيدة تسمح لي بكلمة ماما.
كنت سأقولها فعلا فسبقتني إليها.
ـ أنا ماما ماما ماما...فهمت؟
سوف أساعدك كي تصبح متفوقا، نعم لا عليك أنا معك وسأبقى، فكل منا يريد أما بطريقة ما.
-!أما؟
سأبقى حازمة كما كنت.. فعندما تكون المحبة أصل القسوة، سنكون بخير..
مضينا في حديث طويل.. طويل، وطريق أطول وأطول، حيث كان الهاتف يرن بشكل متقطع كنا نفهم جيدا لماذا كان يرن.! ـ
===============================================
كلمة نقدية بقلم إبراهيم عوض
تتناول هذه القصة موضوعا غاية فى الحساسية والإيلام، وهو موضوع اليتم وحاجة الطفل اليتيم العنيفة إلى من يحنو عليه ويعوضه عن حنان أمه وأبيه، وغياب هذا عن وعى كثير منا نحن الذين لم تبلنا الأقدار باليتم وأحزانه وأوجاعه فلا يتنبهون إلى الأسلوب الذى ينبغى أن يعامَل به اليتيم. وقد أدت القصة الموضوع تأدية ناجحة إلى حد معقول، فصورت أحاسيس الصبى اليتيم وحيرته ومعاناته وعجزه عن فهم الدوافع الكامنة وراء تصرفات بعض من حوله ورغبته الحارقة فى أن يخترق هذا الجدار ونجاحه أخيرا فى ذلك.
وقد شعرت أنا ايضا بالراحة حين وصلت الأمور إلى لحظة التنزير كما كان النقد القديم يسميها، واستطاع الصبى دخول قلب المديرة أخيرا واكتسابه عطفها وحنانها بعد أن نبهها إلى وضعه المزعج الذى لم تكن تلتفت إليه فى غمرة حرصها على تأدية وظيفتها فى الإشراف على دار الأيتام وتصريف أمورها وتأمين انضباطها... إلخ. ولاشك أن الأقدار قد خدمت الصبى حين قرر أن يواجه المديرة ويفتح قلبه أمامها ويستثير عطفها عليه، إذ تصادف، وهو جالس عندها فى مكتبها، أن أتتها مكالمة هاتفية من بعض أقاربها عبرت فيها عن ألمها لما آلت إليه الأمور بينها وبين أبنائها من تباعدهم عنها وندرة اتصالهم بها أو زيارتهم لها، وندمها على أنها أفرطت فى حرصها على استقلالهم حتى تتفرغ لعملها وتنجح فيه، ذلك الاستقلال الذى أدى إلى تلك النتيجة السيئة.
ومن هنا فحين ناداها الصبى بـ"أمى" عدة مرات كان قلبها الظامئ فى أمس الحاجة إلى سماع تلك الكلمة ولو من صبى يتيم عندها فى الملجإ، فانقتح القلب له واندفق منه الحنان الذى كان محبوسا وراء أسوار صرامتها التى تتطلبها إدارة الدار. والحق أننى شعرت، كما سبق القول، بالراحة والبهجة عندما انتهت الأمور إلى هذه النتيجة. إلا أننى شعرت أيضا أنه كان ينبغى أن تمهد القصة لهذا التحول السعيد قبل هذا تدريجيا، إذ من الصعب أن يتم هذا التحول من قِبَل المديرة بغتة وفى لمحة واحدة. وكان يكون الأمر أفضل كثيرا لو جاءت المكالمة الهاتفية بوصفها النغمة الأخيرة فى لحن ذلك التحول وليست النغمة الأولى والأخيرة فيه. مؤكَّد أنه سيكون حينئذ أكثر إقناعا وسلاسة.
كذلك كنت أحب لو أن القصة عرفتنا بسن الصبى. لقد عرفنا فقط أنه يعيش فى دار أيتام، ولكن ما سنه؟ لقد سكتت القصة عن هذا، ولو مست هذه النقطة لكان تخيلنا للصبى ووضعه أحسن ولساعدنا هذا على أن يكون تفاعلنا معه ومع أحداث قصته أقوى. ومهما يكن من أمر فقد شعرتُ، رغم نجاح القصة الكبير فى التقاط جو اليتم الذى يعانيه الصبى ورصد مشاعره الحزينة العاجزة، أن عقلية الصبى، كما تعكسها القصة، أعلى مما نعرفه فى الواقع. فتحليل الصبى للوضع من حوله يبدو أنضج مما يؤهله له صباه وموقفه فى الحياة وفى دار الأيتام. ومن هنا رأينا فى كلامه بعض ألفاظ وعبارات ومفاهيم أحسست أنها أكبر منه.
ولغة القصة هى، كلغة الكاتبة فى القصة السابقة التى تناولتها منذ أيام، لغة سلسة منسابة قادرة على التقاط شيات الانفعالات والعواطف. وفيها أيضا ذلك التهويم الذى رصدتُه فى القصة الماضية. وهو تهويم جذاب بما يستتبعه من حيرة قليلة لدى القارئ، إذ يضفى على القصة شيئا من الغموض يستثير الفضول ويشد الانتباه لما يحدث وما يقال. كذلك فاللغة سليمة نحوا وصرفا ومعجما إلى مدى غير قليل، إلا أن فعل الأمر: "اقسِ علىَّ كل يوم" كان ينبغى أن تضاف إليه ياء لأنه موجه إلى "سيدة" لا إلى "سيد" مع الاعتذار لفريد شوقى، الذى كان يقول فى فلم من أفلامه الظريفة، وكل أفلامه ظريف: "دا انا سيد مش سيدة". فهذه الياء هى ياء المخاطبة. أما حذفها فيتحول الفعل معه إلى أمر للمذكر.
وأخيرا فهناك نكتة (أى نقطة دقيقة) فنية فى الحوار لا أدرى أصدرت عن الكاتبة عفوا أم قصدتها قصدا. ذلك أن المدرّسة التى دخلت مكتب المديرة لغرض إدارى عارض ثم خرجت فى الحال قد نظرت إلى الصبى شزرا، وعلقت على جلوسه أمام مكتب المديرة وعدم بقائه واقفا بقولها: "أولاد آخر زمن!". وهى نفس العبارة التى قالتها المديرة لمحدثها على الطرف الثانى من الخط الهاتفى حين أرادت أن تعبر عن استنكارها لموقف أولادها منها وعدم زيارتهم لها بقولها أيضا: "أولاد آخر زمن". وقد كانت المديرة هى التى طلبت من الصبى أن يجلس على الكرسى قائلة له إنه ضيفها الآن فى مكتبها. فكأن القصة تريد أن تقول إن المشكلة ليست فى أن يجلس الصبى أمام المديرة بل أن يهمل أبناؤها السؤال عنها وزيارتها. وكأنها تريد أن تقول أيضا إن العبرة فى بعض الأحيان ليست بأبناء الدم بل بأبناء الحب.