"لأقتلنك"..ثقافة الإلغاء
أحمد أبورتيمة
يتلو علينا القرآن في سورة المائدة نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك" قال "إنما يتقبل الله من المتقين"..
يقص علينا هذا المشهد قصة أول جريمة سفك دم بريء في تاريخ البشرية، ومنذ تلك الجريمة لا يزال البشر يفسدون في الأرض ويسفكون دماء بعضهم بغير حق..
يكشف هذا المشهد القرآني السبب النفسي العميق الذي يدفع إنساناً إلى قتل أخيه الإنسان، فسبب جريمة ابن آدم الأول هو قبول قربان أخيه وعدم قبول قربانه!!
إذاً ما دفعه لاقتراف جريمة القتل هو ضعف موقفه الأخلاقي، فأراد أن يعوض هذا الضعف باللجوء إلى العنف. وهكذا يتبين لنا أن اللجوء إلى العنف يخفي وراءه ضعفاً أخلاقياً..
بمقدار إيمانك بصحة موقفك بمقدار طمأنينتك وسلامك الداخلي وبمقدار ضعفك الأخلاقي بمقدار سعيك لإخفاء هذا الضعف بالقضاء على المتسبب في كشفه..
إن الضعيف أخلاقياً يشعر بحالة من الفوضى والارتباك والتناقض الداخلي فيلجأ لإحداث فوضىً خارجية لتحقيق الانسجام بين نظامه الداخلي والنظام الخارجي..
حين لم يستطع ابن آدم القاتل أن يثبت نفسه في ميدان الحق لجأ إلى أسلوب إلغاء الطرف الآخر مادياً حتى يتخلص من عبء الإحساس بالفشل الذي يسببه له نجاح الآخر..
إن مجرد وجود المصلحين هو عبء ثقيل على الساعين في الأرض بالإفساد، ومجرد وجود الطاهرة العفيفة في وسط من العاهرات يمثل إحراجاً وإضعافاً لموقفهن لذا يسعين بكل قوة إلى توريطها في مستنقع الرذيلة حتى يكنَّ سواءً، وفي القرآن إشارة إلى هذه القاعدة النفسية:"ود الذين كفروا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً"..
انتبه ابن آدم المؤمن إلى هذه المعادلة لذا حرص على إبقاء المعركة في ميدانها الصحيح كمواجهة بين الحق والباطل، بين العدالة الأخلاقية والقوة الباغية، حتى ينزع الغطاء الشرعي عن أي جريمة قد يقترفها أخوه "إنما يتقبل الله من المتقين"..
لسان حال ابن آدم الصالح في مواجهة طغيان أخيه: إذا أردت أن تتفوق فلك ذلك بإصلاح نفسك وليس بالنقمة على الآخرين فسبب عدم قبول قربانك لست أنا إنما العلة في داخلك..
ولأن ابن آدم الصالح حريص على أن تظل المعركة واضحةً لا تشوبها شائبة فقد رفض الانزلاق إلى مربع العنف الذي يختلط فيه الحق بالباطل فيكون القاتل والمقتول في النار: "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط إليك يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار"..
بإمكانك أن تقتلني ولكنني لن أفكر في الدفاع عن نفسي لأنني حريص على عدالة قضيتي وحتى لو قتلتني فإنني من سينتصر في نهاية المطاف أخلاقياً وستبوء أنت بإثمك وإثمي..
لقد كانت المواجهة بين ابني آدم مواجهةً نموذجيةً بين طرف لا يملك سوى القوة المادية كملاذ يعوض به ضعف موقفه الأخلاقي، وطرف آخر يستمد قوته من عدالة قضيته ويرفض التفريط بهذه القوة الأخلاقية بالانجرار وراء محاولات الطرف الآخر لتوريطه في العنف. ولو أنه قرر الدفاع عن نفسه لفقدت المواجهة وضوحها ولاختلطت الأوراق، ولتصورنا أنها معركة مصالح بين طرفين يحرص كل واحد منهما على إفناء الآخر..
صحيح أن صاحب منهج "لأقتلنك" نجح في إنفاذ وعده وقتل أخاه، لكن القرآن لا يجعل من هذا القتل الفصل الأخير في المعركة إنما ختمت القصة بما كان بعد ذلك "فأصبح من الخاسرين" وبعد ذلك يصور لنا الصراع النفسي الذي عاناه القاتل "قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين"..
إذاً هذه هي العاقبة: الخسران والندامة ومن كانت عاقبة أمره خسراناً وندامةً فإنه أبعد ما يكون عن صفة منتصر حتى لو تفوق عسكرياً على خصمه..
لقد نجح ابن آدم القاتل فنياً في إلغاء خصمه لكنه خسر معركة الأخلاق، والأخلاق ليست ترفاً، بل إن خسارة معركتها هو الخسارة الحقيقية لأن الإنسان يفقد إنسانيته وعلة وجوده، ولن يكون بعد ذلك قادراً على الحياة السوية..
تلخص هذه القصة القرآنية الصراع البشري في بعده النفسي العميق متجاوزةً كثرة التفاصيل، فكل مظاهر العنف التي نراها في العالم سواءً التي يمارسها الأفراد أو الدول تخفي في طياتها شعوراً داخلياً بالارتباك والفوضى والضعف.
إن منهج "لأقتلنك" ما هو إلا محاولة لستر الضعف الأخلاقي، وما أكثر أتباع منهج "لأقتلنك"، فكل إنسان لا يتقبل قربانه الأخلاقي يعوض هذا الفشل بمحاولة التخلص من الناجح الذي صار حجةً عليه بنجاحه..
"لأقتلنك" تعني الإلغاء، وكل أساليب إسكات الخصم وإلغاء وجوده فيها حقيقة "لأقتلنك"، أما القتل بمعناه المباشر فهو الحالة القصوى التي تبلغها ثقافة الإلغاء والنفي.
القتل بمعناه المباشر ليس هو الشكل الوحيد، فكل ضيق بالخصم الفكري وسعي لإسكاته سواءً بالتخويف والإرهاب أو بإعلاء الصوت أو بعدم إعطائه فرصةً للحديث المتكافئ في الإعلام للتعبير عن موقفه وحتى بمجرد التلويح في وجهه بعلامة التهديد، كل هذه الأساليب فيها حقيقة لأقتلنك..
بل حتى اعتماد أساليب الترغيب إن كان يقصد بها دفع إنسان إلى تغيير موقفه فإن هذا الترغيب في حقيقته شكل من أشكال القتل لأن العبرة ليس ببقاء الكيان المادي للإنسان، بل ببقاء روحه وفكره..
لقد سمعت صديقاً من إحدى البلدان يتحدث ذات مرة عن تعامل قوى الأمن معهم حين نظموا تظاهرةً لا تريدها الحكومة، فقال: صحيح أنهم أمرونا بفض التظاهرة، لكن تعاملهم معنا كان لطيفاً، وطلبوا منا إنهاء التظاهرة بكل أدب واحترام.
لقد أعجب صديقي بلطف أسلوب عناصر الأمن، لكنه لم ينتبه إلى جوهر المسألة وهو عدم تقبل الحكومة لسماع صوت آخر غير صوتها، إنه لا فرق جوهري بين أن تمنع الحكومة تظاهرةً بالترغيب أو بالترهيب، فالمحصلة واحدة وهي أنه من غير المسموح أن يكون هناك طرف آخر غيرها "ما أريكم إلا ما أرى".
كان بإمكان صديقي أن يدرك حقيقة المشكلة لو أنه طرح المسألة بشكل مغاير فتساءل: ماذا لو أننا لم نستجب لأساليب الحكومة اللطيفة وأصررنا على التعبير عن موقفنا، هل كانت الحكومة ستحتفظ بهذا اللطف والأدب إلى نهاية المطاف، أم أنها ستتحول نحو أساليب أخرى لتحقق هدفها المتمثل في إسكاتنا؟؟
إن حقيقة القتل هي عدم تحمل وجود طرف آخر يرى رأياً آخر، والظالم حين يلجأ للقتل فإنه لا يقصد القتل لذاته بل إنه يقصد إلغاء إرادة الطرف المقابل فتخلو الساحة له دون أن يكدر أحد صفاءه، ولو أن أظلم أهل الأرض وأطغاهم استطاع أن يحقق هدف إلغاء إرادة منافسيه برضاهم واستكانتهم وتسليمهم له بسلطات مطلقة، لما وجد بعد ذلك حاجةً لقتلهم..
أما السبيل إلى تحرر الإنسان من ثقافة الإلغاء "لأقتلنك" فهو إيمانه بقضية عادلة، فيضفي عليه هذا الإيمان سكينةً ووقاراً وتوافقاً نفسياً فلا يجد نفسه في مأزق يضطره للجوء إلى العنف لإثبات نفسه..
والحمد لله رب العالمين.
لمتابعة مقالاتي وخواطري يسعدني زيارتكم صفحتي على الفيس بوك
https://www.facebook.com/ahmedaburtema
--