التسويغ مصطلح سليم لغةً تنبعث منه رائحة القبول والسماح والتسهيل ، وهـــو تفعيل من الفـعـل الثلاثي (س و غ) :بين التسويغ والتبرير
ساغَ الشرابُ في الحَلْقِ يَسُوُغُ سَوْغاً وسَواغاً: سَهُلَ مَدْخَلهُ في الحلقِ.
وساغَ الطعامُ سَوْغاً: نزل في الحلقِ، وأَساغَه هو وساغَه يَسُوغُه ويَسِيغُه سَوْغاً وسَيْغاً وأَساغَه الله إِيّاه.
ويقال: أَساغَ فلانٌ الطعامَ والشرابَ يُسِيغُه وسَوَّغَه ما أَصابَ: هَنَّأَه، وقيل: تَرَكَه له خالصاً.
وسِغْتُه أَسِيغُه وسُغْتُه أَسُوغُه يَتَعَدَّى ولا يَتَعَدَّى، والأَجْوَدُ أَسَغْتُه إِساغةً . يُقــــال: أَسِغْ لي غُصَّتي أَي أَمْهِلْنِي ولا تُعْجِلْني.
وقال تعالى: ((يَتَجَرَّعُه ولا يَكادُ يَسِيغُه )) سورة إبراهيم / 17.
والسِّواغُ، يكسر السين: ما أَسَغْتَ به غُصَّتَكَ. يقال: الماء سِواغُ الغُصَص؛ ومنه في علم الصيدلة والصناعة الدوائية السواغ، تُطلق على حامل المادة الدوائية ، فالمرهم مثلا يتكون من المادة الفعالة والسواغ ، الحامل الذي يسهل نقل الدواء إلى مكان الألم وهو هنا الفازليـــــن أو شحم الصوف مثلا ً. وفي الشراب يكـــون السواغ الماء أو المحلول و...... هكذا.
وفي استعمال التسويغ (التفعيل من (س و غ)) ، يقول الجوهري :
ساغَ له ما فعل، أي جازَ له ذلك وأنا سَوَّغْتُهُ له، أي جوّزْته.
أما التبرير فهو بمعنى التسويغ والإجــازة ، من الثلاثي (ب ر ر)، وكي نستسيغ هذا التوظيف لابد من ملاحظـــة التالي :
البر في لغة الجذور :
وقال شُمَّر في تفسير قوله، صلى الله عليه وسلم: عليكم بالصِّدْق فإِنه يَهْدي إِلى البِرِّ؛ اختلف العلماء في تفسير البر فقال بعضهم: البر الصلاح، وقال بعضهم: البر الخير. قال: ولا أَعلم تفسيراً أَجمع منه لأَنه يحيط بجميع ما قالوا؛ قال: وجعل لبيدٌ البِرَّ التُّقى حيث يقول: وما البِرُّ إِلا مُضْمَراتٌ مِنَ التُّقى قال: وأَما قول الشاعر تُحَزُّ رؤُوسهم في غيرِ بِرّ ) فمعناه في غير طاعة وخير.
وقوله عز وجل)) لَنْ تنالوا البِرَّ حتى تُنْفِقُوا مما تُحِبُّونَ)) سورة آل عمران /92 ؛ قال الزجاج : قال بعضهم كلُّ ما تقرّب به إِلى الله عز وجل ، من عمل خيــر، فهــو إِنفاق . قال أَبو منصور: والبِرُّ خير الدنيا والآخرة، فخير الدنيا ما ييسره الله تبارك وتعالى للعبد من الهُدى والنِّعْمَةِ والخيراتِ ، وخَيْرُ الآخِرَةِ الفَــوْزُ بالنعيم الدائـم في الجنة ، جمع الله لنا بينهما بكرمه ورحمته.
وبَرَّ يَبَرُّ إِذا صَلَحَ .
وبَرَّ في يمينه يَبَرُّ إِذا صدقه ولم يَحْنَثْ .
وبَرَّ رَحِمَهُ يَبَرُّ إِذا وصله.
ويقال : فلانٌ يَبَرُّ رَبَّهُ أَي يطيعه ؛ ومنه قوله : (يَبَرُّك الناسُ ويَفْجُرُونَكا) ورجلٌ بَرٌّ بذي قرابته وبارٌّ من قوم بَرَرَةٍ وأَبْرَارٍ، والمصدر البِرُّ.
وقال الله عز وجل: ((لَيْسَ البِرِّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المشرق والمغرب ولكنَّ البِرَّ من آمن بالله)) سورة البقرة/ 177؛أَراد ولكن البِرَّ بِرُّ من آمن بالله؛ قول الشاعر: وكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلالَتُهُ كأَبي مَرْحَبِ؟ أَي كخِلالَةِ أَبي مَرْحَبٍ.
وتَبارُّوا، تفاعلوا: من البِرّ.
وفي حديث الاعتكاف)سؤاله للنساء أَلْبِرَّ تُرِدْن؟ أَي الطاعةَ والعبادَةَ.
ومنه الحديث: ليس من البر الصيام في السفر.
والبَرّ عكس البحر ، والبُرّ القمح مفرده (بُرّة) أي قمحة /حبة قمح .
وتقول العرب :
أَبَرَ اللهُ حَجَّكَ، لغةٌ في بَرَّ اللهُ حَجَّكَ، أي قَبِلَهُ. وأَبَرَّ فلانٌ على أصحابه، أي علاهُم.
قال الجوهري في صحاحه :
وفلانٌ بَبَرُّ خالقَه ويَتَبَرَّرُهُ، أي يطيعه. والأمُّ بَرَّةٌ بولدها. وبَرَّ فلانٌ في يمينه، أي صَدَقَ. وبَرَّ حَجُّهُ، وبُرَّ حَجُّهُ، وبَرَّ الله حَجَّهُ، بِرّاً، بالكسر في هذا كلِّه. أي قبله .
وقال الزبيدي في التاج :
البِرُّ بالكسر : التُّقَى وهو في قولِ لَبِيد الشاعر الصحابي رضي الله عنه :
" وما البِرُّ إلا مُضْمَرَاتٌ مِنَ التُّقَى *** وَما المَالُ إلاَّ مُعْمَراتٌ وَدائِعُ
ومَا المالُ والأهْلُونَ إلاَّ وَديعَة ٌ,*** وَلابُدَّ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الوَدائِـــعُ
وتَبارُّوا : تَفاعَلُوا مِن البِرِّ وفي كتاب قُرَيْشٍ والأنصارِ : " وإنّ البِرَّ دُونَ الإثْمِ " ، أي إنّ الوفاءَ بما جَعَلَ على نفْسِه دُونَ الغَدْرِ والنَّكْثِ . ويقال : قد تَبَرَّرْتَ في أمْرِنا أي تَحَرَّجْتَ قال أبو ذُؤَيبٍ :
فقالتْ تَبَرَّرْتَ في جَنْبِنــا *** وما كنتَ فِينا حَدِيثــــاً بِبَرّ .
أي تَحَرَّجْتَ في سَبَبِنا وقُرْبِنا .
وعن أبي سَعِيد : بَرَّتْ سِلْعَتُه إذا نَفَقَتْ وهو مَجازٌ قال : والأصلُ في ذلك أن تُكَافِئَه السِّلْعَةُ بما حَفِظَها وقامَ عَلَيْهَا تُكَافئه بالغَلاءِ في الثَّمَنِ وهو من قولِ الأعْشَى يَصفُ خَمْراً :
تَخَيَّرَهَا أخُو عَانَاتِ شَهْراً *** ورَجَّى بِرَّها عاماً فعَامَا
ومن هنا كان اشتقاق التبرير بمعنى التسويغ .
فتبرير العمل أن تسوغه وتمنحه جواز عبور ، وتبرير المواقف أن تمنحها الحجة والذريعة لتكون مقبولة غير مرفوضـــــة ، ترفع عنهــا الحرج فتكون كالسلعة إذا نفقت . وتكون مقبولة اجتماعيّاً بلا أدنى تأثيم أو حرج ، فكأنَّ فقيه اللغة استعار هنا برَّ الحج وهو قبوله مع مصطلح التبرر ، وهو العمل التقيّ الصالح فأجاز لنفسه وللغويّين من ورائه توظيف (التبرير) للإشارة إلى التسويغ والسماح ومنح الحجة ، فالتبرير من الحيل النفسية اللا شعورية التي يلجأ إليها الإنسان ليقدم لنفسه أعذاراً أخلاقيةً لعمل غير أخلاقي غالباً، ويهدف الإنسان من وراء آلية التبرير إلى القضاء على حالة القلق الداخلي وتحقيق الاستقرار النفسي.. وقدرة الإنسان على البحث عن مبررات لأفعاله هي قدرة عجيبة، فمهما كان فعل الإنسان منافياً للحق والعدل فإنه لن يعدم عن إيجاد المسوغ الأخلاقي له، فمثلاً حين يسرق السارق يبرر هذه السرقة لنفسه بالقول "كل الناس يسرقون"، أو بالقول: "هذا الشخص غني ولن تضره سرقتي"، أو إذا كان شريكاً مع شخص آخر في السرقة فإنه يقول: "كان دوري ثانوياً، والآخر هو الذي يتحمل المسئولية الأكبر"، وإذا كان المسروق منه فقيراً لم يعدم السارق البحث عن مبرر آخر كيلا يؤنبه ضميره فيقول لنفسه مثلاً "كان يجب أن أفعل ذلك لأعيش"، وإذا ارتكب مجرم جريمة قتل بررها بالقول: "هو أجبرني على ذلك"....... الخ .
وهكذا لم يبق مجال لمن يرفض المصطلح تحت أي ستار .
أما التسويغ فيحمل في طياته إشارات الصدق أكثر .
كتب إلينا أحد سفهاء اللغة ومراهقيها يستنكر استعمالي لهذا المصطلح ولم يقبل حججي ولا أمثلتي ، فقلنا له :
ولمَ تراسلني إذن ما دمت ترفض نقاشي وحواري ؟؟؟