مع صوت الرياح الهادرة التي أخذت تزداد و تزداد و تأخذ معها أطراف معطفي فتلفظه يمنة و يسرة جددت السير مسرعة لاستئجار سيارة أجرة ، انتظرت و انتظرت فلم أحظ بها ، كانت سيارات الأجرة قليلة العدد في ذلك الوقت ، و كانت معظمها تمر محملة بالركاب ما أثار غضبي فرحت أتمشى على مهل و أنا أراقب الطريق على أمل .. ثم قررت أن أذهب إلى الموقف التالي ، بينما كادت صفعات الريح الشديدة البرودة أن تخدر وجهي، و مع ولوج الليل في النهار ، وجدت شيئا قذف في فناءات قلبي شيئا من الريبة و بعض الخوف ..
ترى ما هذا أو من يكون و ماذا هو فاعل في مثل هذا الوقت و الحال !؟
اقتربت بحذر ، فوجدت جسدا لُف بعضه على بعض كالطائر الذي يدس رأسه بين جناحيه عند النوم ، و كان يرقص ارتعاشا ،
وقفت على جنب مسمرة أراقب..
ثم أطلق الطير رأسه من بين جناحيه فظهر وجه فتاة في مطلع شبابها، و قد رسم البؤس ألوان الشقاء في تقاسيمه ..
كنت أحاول أن أكبح فضولي و جرأتي في الاستفسار، و لكنها كانت أسرع مني حيث بادرتني بالسؤال : لم وقفت مكانك ؟
لقد كان صوت خطواتك يدل على أنك في عجلة من أمرك ..
ابتسمت و هششت و بششت لمبادرتها بالكلام فأجبت : و من لا يمشي مسرعا في مثل هذا الطقس !
- إذا أكملي طريقك يا خالة .
- أنا مضطرة لذلك و لكني لا أستطيع قبل أن أعرف سبب جلوسك هنا ، هل طريقك بعيدة ؟
إذا أردت أوصلتك معي حيث تقصدين حالما أوفق بسيارة أجرة
و من سوء حظي أنه مرت سيارة أجرة في تلك اللحظة و لكن هيهات أن أوقفها ...
- لا شكرا يا خالة فمنزلي ليس ببعيد كثيرا
رغبت بتحريك دفة الحديث قليلا لأعرف المزيد بوقت أسرع
- إذا لم لا تسرعين إليه ؟ لابد أنك تحبين هذا الطقس كباقي الشباب و الشابات ، فأنتم مولعون بأحوال الشتاء .
- لا لا يا خالة و لكني لا أستطيع العودة إلى البيت الآن .
بعد عدة محاولات جذب و دفع سردت لي قصتها التي أدخلتني في سراديب الدهشة و التعجب ، و ألقت على قلبي ثوب الحزن و الشفقة
حيث أخبرتني بأنها لا يمكنها العودة قبل أن تحصل على خمسمئة ليرة يوميا، فوالدها سيعنفها و قد تتعرض للضرب إذا ما فعلت .
و عندما سألتها : لم لا تجدين عملا ؟
أجابت : عملت في ورشة خياطة مختلطة و بعد أسبوع بدأ بعض الفتية بالتحرش بي ، و رغم أن العمل كان مجهدا و طويلا إلا أنني كنت سعيدة برضى والدي عند مناولته أجرتي .و لكني اضطررت لتركه تخلصا من سوء المعاملة
- هل أخبرت صاحب تلك الورشة ؟
- خفت أن أفعل فأتعرض لشيء من الأذى من أولئك الفتية فتركت العمل دون أن أخبره او أخبر والدي بذلك لأنه سيوبخني و يتهمني بأنني أنا من فتحت لهم سبيلا ، لما قاموا به فهو شديد الحرص و الشك أيضا
و ما بال أبيك و لم لا يعمل هو ؟
- والدي رجل عجوز بالكاد يستطيع المشي متكئا على عكاز ، و والدتي طريحة الفراش منذ سنوات و نحن أربع فتيات شابات نتقاسم العمل في خدمتها، و الحصول على المال خارج المنزل ، و ليس لوالدي ولد ذكر . لذا يتحتم علينا تأمين مصاريف المعيشة و ثمن علاج أمي المكلف و الذي نتجاوز عن جلب بعضه أحيانا لعدم توفر المال الكافي .
سبحان الله ! في الوقت الذي كنت أستمع لها كانت سيارات الأجرة تتدفق من هنا و هناك و كانت قدماي تجرانني للمضي في سبيلي إلا أن قلبي كان يأبى ذلك ..
خيم الظلام سريعا فأردت أن أختم لقائي بها لكي لا تفضحني دموعي أمامها و لكي لا أتأخر ، ففتحت حقيبتي و أخرجت الملبغ المطلوب و ناولتها إياه مربتة على كتفها ، و رجوتها أن تقبله مني ثم طلبت منها رقم هاتفها إن وجد ...
- قالت و هي تحاول أن تبتلع شهقة البكاء :
و الله و الله إنني أحب أن أعمل و لكن في مثل هذه الظروف بالكاد توجد فرصة عمل فأنت تعرفين ما يمر به بلدنا الحبيب و عندما أجدها أضطر لتركه ...
أمسكت هاتفي منتظرة أن احصل على رقم هاتفها ،و لما رأت هاتفي أخرجت بشيء من الخجل هاتفا من الطراز القديم ، و قالت بابتسامة تشي بقهر كبرياء الإنسان : إنه يفي بالغرض فهو يتصل و يرسل الرسائل و هذا يكفي لمثلي ..
- بابتسامة تواضع مشفقة قلت لها : لا عليك هو بكل حال أفضل من أول هاتف اقتنيته .
ودعتها و وعدتها بأن أتصل بها في أقرب وقت ممكن و مضى كل منا في سبيله
استدركت أنه علي الإسراع و كان قلبي يعتصر ألما ..
، أوقفت أخيرا سيارة الأجرة و ذهبت ..
لم أكن أتوقع بأن عملي الصغير هذا ستكون جائزته من الله سريعة إلى هذا الحد ، فلما بلغت منزل أخي و الذي أخبرتني زوجته قبل ساعة بأنهم يطلبون حضوري لأمر خطير، وجدت أحوالهم طبيعية و كأنه لم يحدث شيء و كان أخي مستلق على الأريكة يتحدث إلى رجل غريب عرفت فيما بعد بأنه الطبيب ، و كانت حالة اخي عادية جدا و مستقرة .
و ردا على علامات الدهشة الممزوجة بالسرور التي اقتحمت معالم وجهي ، حيث أخبرتني زوجة أخي بأن أخي قد أغمي عليه فجأة و أسقط في يدها فلم تعد تعرف ماذا تفعل فاستدعوا طبيبا و لما حضر و فحصه أخبرهم بأنها حالة نزول ضغط و لا شيء يقلق .و لكن عليه أن يجري بعض التحاليل في أقرب وقت ممكن .
لم تنته جلستنا إلا و قد وجدنا عملا مناسبا لتلك الفتاة و بأجرة مغرية مع جمع بعض المساعدات لأسرتها ،كما تكفل أخي بمشاركتهم القسم الأكبر من علاج الأم .
حمدت الله أن رزقني ذلك الفضول الذي لطالما أزعجبني و أسعدني في نفس الوقت.