الحمد لله كافي أوليائه بما يشاء وكيف يشاء ،
والصلاة والسلام على من أعلى لنصرة دينه أشرف لواء ،
وعلى آله وصحبه الماجدين النجباء ، ومن صان بعدهم لله ورسوله حق الولاء .
أما بعد ، فقد تقدم في موضوع مستقل بيان المخرج الدلالي لمصطلح ( السيرة )
وأطوار نضجه وسموقه ، وهذا رابطه في هذا الموقع الماتع :
مصطلح السيرة: (مخرجه الدلالي وأطوار بروزه وسموقه)
وفيما يلي بيان ما تميز به مصطلح ( السيرة ) عند الإمام ابن هشام
مهذب سيرة الإمام ابن إسحاق
تمهيدا لكشف ما رعى به المحدثون أهل المناهج العلمية الدقيقة هذا المصطلح الفريد .
مصطلح السيرة عند ابن هشام :
أحق حد للسيرة بالتقديم حد ابن هشام الذي نص عليه
وهو يذكر منهجه في تهذيبه لسيرة الإمام ابن إسحاق ، قال :
( وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ،
ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولده ، وأولادهم لأصلابهم ؛
الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وما يعرض من حديثهم .
وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة للاختصار
إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب
مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر .
ولا نزل فيه من القرآن شيء .
وليس سببا لشيء من هذا الكتاب .
ولا تفسيرا له ، ولا شاهدا عليه ؛ لما ذكرت من الاختصار ) .
وأحسن ما في هذا الحد الجامع تخصيص السيرة بدلالة الاصطلاح
التي تخلصه من عموم الاشتقاق ، وترفعه كسائر العلوم والمعارف المعتبرة
إلى درجة التمام والاستقلال .
فأفراد مصطلح ( السيرة ) في كلامه المتين ثلاثة :
الأول : ما فيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار .
الثاني : ما نزل فيه من القرآن شيء .
الثالث : ما يستعان به على فهم ما ذكر بيانا لمعناه .
أما القيد الأول فيدخل القرآن والسنة ، ومنها ما بقي محفوظا من نصوص الوحي القديمة
المشتملة على أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم والتبشير ببعثته .
أما القيد الثاني فيدخل أسباب النـزول لتعلق الأحوال المنشئة لها
بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ينـزل عليه القرآن ،
ولا يخفى أن السبب الأعظم لنـزول القرآن وجود النبي صلى الله عليه وسلم ،
ففي كل آية من آي القرآن سيرة تستدعي الكشف والإثارة
على جهة التصريح أو الإشارة .
أما القيد الثالث فيدخل المصنفات التي اعتنت بشرح متون السيرة النبوية ،
كالروض الأنف للإمام السهيلي ، وكذا المصنفات التي استخرجت عبـر أحداثها
ومشاهدها كالكتب المصنفة في فقه السيرة النبوية .
وقد وافق الإمام ابن هشام في استثناء ما ليس داخلا في حد السيرة
من عمل ابن إسحاق الإمام الكلاعي حين كشف عن منهجه
في تصنيف كتابه الاكتفاء ، فقال – في معرض ثنائه على ابن إسحاق - :
( ... فإنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع ،
وحل كتابه من نفوس الخاص والعام أجل موقع .
إلا أنه تخلله – كما أشرنا إليه قبل – أشياء من غير المغازي
تقدح عند الجمهور في إمتاعه ، وتقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه .
وإن كانت تلك القواطع عريقة في نسب العلم ، و حقيقة بالتقييد والنظم ،
فعسى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص ،
إذ لكل مقام مقال لا يحسن في غيره الإيراد والنص .
ولذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب
التي ليس احتياج كل الناس إليها بالضروري الحثيث ،
ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث ،
حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة ، وخلاصة المغازي
التي هي في هذا المجموع المقصودة المعتمدة.
ظنا مني أنه إذا أذن الله في تمامه ،
وتكفل تعالى بتيسير محاولته وفق المأمول وتقريب مرامه ؛
استأنفت النفوس له قبولا ، وعليه إقبالا ،
ولم يزده هذا النقص لدى جمهورهم إلا كمالا ) .
فقوله : ( ... إلا أنه تخلله – كما أشرنا إليه قبل – أشياء من غير المغازي ) ،
وقوله (حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة ، وخلاصة المغازي
التي هي في هذا المجموع المقصودة المعتمدة )
صريحان في أن مراده قصر الاهتمام على ما يدل عليه مصطلح السيرة ،
وحياطته بما يدفع عن حده ما ليس من أفراده .
أما دلالة المغازي في كلامه فهي أعم من أن يريد بها مجرد أخبار الغزو والجهاد ،
لا سيما وأنه قد صرح في نفس الموطن بمقصده من تأليفه فقال :
( وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع ،
وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وذكر نسبه ، ومولده ، وصفته ، و مبعثه ، وكثير من خصائصه ) .
والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .