( وأنّه أهلك عاداً الأولى )
لاقتباس شعلة أمل في خضمّ ملابسات الواقع وضغوطاته الثقيلة ، تعالوا بنا نقلّب النظر ، في سير من غبَر ، لنستخلصَ الدّروس ، ونستشف العبر ، ونتعظ بالإثر والأثر ، من قوم أسبغ الله عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، أمدّهم بالأنعام والبنين ، والجنات والعيون ذات الشمال وذات اليمين ، ومهّد لهم سبل التمكين ، فبدل أن يصرفوا لربّهم حمداً وشكراً ، بدّلوا نعمة الله كفراً ، فكان أن خلعوا عنهم ثوب العبودية ، وحاموا حول ادّعاء الربوبيّة ، وتلك رزيّة تفني وتبيد ،أن ينازع العبد ربّه في ربوبيّته أو يجحدَ ألوهيّته ، أو يقابل الجميل الرّبانيّ بالنكران والجحود ، أتدري من هؤلاء القوم ؟ إنهم عادٌ قوم هود ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (الشعراء من 123 إلى 135)
إنّ عاداً قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغاً يُذكر ، حتى إنها لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور ومجامع المياه ، وتشييد العلامات والأبراج على المرتفعات ، وتقيم الحصون والأنفاق والسّراديب والقواعد الأمنية ،وكانوا يستوطنون سفوح الجبال ليشهر بذا غناهم وفخرهم ويهابَ بأسُهم !
حتى جال في خاطر القوم أنّ هذه الحضارة الماديّة الصناعيّة كافيةٌ لحمايتهم من الموت ، وهذا حال الأمّة حال انحطاطها تحوّل ما كان موضوعاً للمصالح إلى مفاسد ، فإذا بها تعبث في أمن الأمم ، وتسطو على خيراتها وثرواتها ، وتثب على أعراضها وحرماتها ، وتدنس مقدّساتها ، وتستعدي الأمم وتعبث بمصالح الشعوب وقضاياها !
فغدا عاد قوم هود عتاة غلاظاً يتجبّرون حين يبطشون ، لا يرعون حرمة ، ولا يتحرّجون أمام قداسة ، بل يدوسون كلّ ما تواطأت الأمم على تقديسه وتبجيله وتعظيمه من دين وخلق وقيم ( وإذا بطشتم بطشتم جبّارين ) يُقدِِمون على الشعوب المستضعفة بخيلهم ورجلهم وآلة البطش والحرب ، فينشرون الدمار والخراب ، ويزرعون الموت في كلّ در ب ، فتحلّلت بذا آدميّتهم ، وتآكلت إنسانيّتهم !
عاد قوم هود قد ركبوا طبقاً عن طبق ، حين حادوا عن جادّة الصواب ، ومنطق أولي النُّهى والألباب ، وراحوا ينتفخون أشراً بكراسيّ ملكهم الغائصة قوائمها بدماء الأبرياء والضعفاء ، ويتمطون بطراً بما حباهم مولاهم من وفرة الإنتاج ، فتمادوا في الغيّ واللّجاج ، ونكبوا عن صراط ربهم والمنهاج .
قد انحرفت عادٌ عن المقاصد النبيلة حين اتخذوا ما يملكون من قوّة ماديّة سبيلاً للعلو وبقاءِ العلو والتفرّدِ بالعلو ، في حين العلوّ صفة ربانيّة خالصة ، ممتنعة الحصول للعبد ، لا ينازع اللهَ فيها أحدٌ إلا قصمه الله ُوأذلّه ، فعادٌ بصنيعها هذا قد خرجت عن حدّ العبودية وحامت حول ادّعاء الربوبية ! فقالوا بلسان الكبر والغرور : ( منْ أشدّ منّا قوّة ) إنه الشعور الكاذب الذي يحسّه الطغاة ، الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف أمام قوتهم ، أو توقف بغيهم واستبدادهم ، وينسون : ( أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة ) فإن كانوا أقوى من غيرهم ، فالله الذي خلقهم هو أقوى منهم ، وإن كانت الزيادة في القوة توجب دخول الضعيف في طاعة القويّ ، فهذه المعادلة توجب عليهم أن يكونوا منقادين لله تعالى ، خاضعين لأوامره ونواهيه لـِ ( أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة )
وبينما عادٌ قوم هود في هذا المشهد ينتفخون ويتبجّحون ويعرضون عضلاتهم إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العُجْب المرذول ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ، وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) ( فصلت 16)
إنها العاصفة الهوجاء المجتاحة الباردة في أيام نحسات : قوية في نحوستها ، مستحكمة في مرارتها ، شديدة في قياحتها !
فعاد قوم هود : بعدما ارتقوا في ميدان الحضارة الماديّة مدارج الصعود ، باتوا لطغيانهم وتجبّرهم في خمود وهمود وركود( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ، تنزع النّاس كأنهم أعجاز نخل منقعر ) ( القمر: 18 – 20 )
إختبأت عادٌ في خنادقها والسراديب اتقاء للريح العاتية ، لكن الرّيح العاتية نزعتهم من سراديبهم وفصلت رؤوسهم عن أجسادهم ، وألقت بهم جثثاً هامدة لا حراك فيها ، فصاروا أجساداً خاوية ، جزاء وفاقاً لخواء عقولهم من الفكر المنير ، وخواء عواطفهم من الشعور النبيل ، وخواء سلوكهم من الفعل المستنير ...
فيا ترى : عادٌ صاحبة الحضارة والحَوْل والطَوْل ، عادٌ بعد الهلاك والثبور ...كيف شيّعوا إلى مدافنهم والقبور ؟
لقد شيّعت عادٌ متبوعة باللعنات ، مصحوبةً بالثبور والويلات ، في أيام نٌعتت بأنها ( أيّام نحسات ) فماتوا خزايا نَدامى ، وبذا يستقبلون يوم القيامة ، حينما تبعث البشرية من مراقدها ( وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) ( هود 60 )
بل مشهد خزيهم يوم القيامة أشدّ وأنكى ، إذ يستقبلون باللعنات على مسمع من الخلائق ، فأقبِِح به من مشهدٍ مُخزٍ ، ومردٍّ فاضح !!!
( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ، وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) ( فصلت 16)
ولكن كيف طوى الخطاب الإعلاميّ القرآنيّ صفحة عاد قوم هود ؟ أسدل الستار عليها بأربع كلمات فقط ( ألا بعداً لعاد قوم هود ) بعداً لهم عن رحمة الله فقد لعنوا ، وبعداً لهم من الذاكرة فقد انتهوا ، وما عادوا يستحقون ذكراً ولا ذكرى ! وهكذا لفتهم أزمنة النسيان ، ومُسحوا من القلب والذّاكرة والوجدان ، ومضوا عظة في صفحات الزمان ، ومثلاً لشؤم منقلب من يستبيح حرمات البلاد والعباد ، ويشاقق الملك الديّان !!!
وفي سياق الاقتدار ، والامتنان على العباد قال تعالى ( وأنه أهلك عاداً الأولى ) وفي قوله ( الأولى ) إيماء وإيحاء إلى أنه ستكون عاد ثانية وربما ثالثة ورابعة ، فكلّ كيان يعيث في الأرض فساداً فقد مشى ممشى عاد ، وكلّ من نهج نهج الجرم والإجرام والبطش والتنكيل فقد سار على خطا عاد ، فغدا عادَ زمانه وسيحلّ به ما حلّ بعادٍ الأولى :
فالذين قتلوا عشرين مليوناً من الاستراليين الأصليين ، قد مشوا ممشى عاد بل كانوا أشدّ وأعدى !
والذين قتلوا مائة مليون هنديّ أحمر في أمريكا الشماليّة، وخمسين مليون في أمريكا الجنوبيّة ! قد مشوا ممشى عاد
والذين قتلوا مليونين من الفيتناميين قد مشوا ممشى عاد !
والذين ضربوا اليابان بالقنبلة الذريّة قد مشوا ممشى عاد !
والذين ذبحوا وهجّروا مليوني مسلم في البوسنة والهرسك فضلاً عن اغتصاب النساء المسلمات الحرائر العفيفات قد مشوا ممشى عاد !
و الذين قتلوا ويقتلون وشرّدوا ويشرّدون الملايين في العراق و أفغانستان وشام الإسلام قد مشوا ممشى عاد !
والذين حرّقوا المسلمين أحياءً في بورما وإفريقيا الوسطى ، قد مشوا ممشى عاد !
و الذين ذبحوا الأطفال في صبرا وشاتيلا وقانا وكفر قاسم ودير ياسين ، وفعلوا الأفاعيل بغزة وأطفال غزة ، قد مشوا ممشى عاد !
والذين يحتلّون الأرض المباركة فلسطين ، ويدنّسون حرمة بيت المقدس ، ويستبيحون الحرمات ، ويقضمون الأرض ، ويقتلعون البشر والشجر والحجر قد مشوا ممشى عاد ، وكلّ من مشى ممشى عاد بات هو الإرهابيَّ المدين والظلومَ السفاح
ولمّا كان بأس الله لا يردّ عن القوم المجرمين ، لذا سيحيق بهولاء جميعاً ما حاق بعادٍ الأولى ، وسيطالهم ويعدو عليهم ما طال عاداً الأولى : فبذا جرت السّنن الرّبانيّة ، ومضت الأقدار الإلهية ، فقد عقّب المولى تبارك وتعالى على هلاك عاد بقوله ( فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ) ( الأحقاف 25 )
وبعد : إن وجود البذرة المؤمنة في الأرض ، شيء عظيم في ميزان الله تعالى ، شيء يستحق منه سبحانه أن يدمّر القوى الباغية ومنشآتها وقوامها ومدّخراتها جميعاً ، كما يستحق منه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتكون بذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد ، ليصنع الله تعالى لها وبها ما يشاء وذلك مثل البذرة المؤمنة من قوم هود (ولمّا جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا )( هود 58) حين قال في الشجرة الخبيثة المتمثلة ممّن كفر من قوم هود ( وقطعنا دابر الذين كذّبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) ( الأعراف 72)
فنصر الله تعالى محجوب عن البذرة الخبيثة ، في الوقت نفسه هو مخبوء ومدّخر لمن يستحقونه ، ولا يستحق نصرَ الله تعالى إلا البذرة ُالمؤمنة الطيّبة الخيّرة التقيّة النقيّة.
فيا أمّة العرب والإسلام : إن أردتم أن تكلأكم عناية ربكم وحياطته وكلاءته ويتنزّل عليكم نصره فكونوا بذرة مومنة خيّرة ، ولن تكونوا بذرة مؤمنة خيّرة إلا بتعظيمكم أمر ربّكم ، وإعماركم حبل الأخوّة الإيمانيّة فيما بينكم ، فكما أنه بالإيمان الصادق وبالأخوّة الإيمانيّة الصادقة بين الآوس والخزرج سدّ القرآن الكريم الثغراتِ والمنافذ والمسارب التي كانت تنفذ منها يهود ، وأشياع يهود فتبسط هيمنتها ، وتحقق طِلبتها ، وتجسّد مخططاتها ..
وفي الوقت نفسه غدا الآوس والخزرج بهذا الإخاء والصفاء بذرة مؤمنة تستحق النصر والتأييد الإلهيّ ، فأنزل الله تعالى عليهم النصر والظفر ... فكذا حالنا إن أردنا تصويب أحوالنا ، ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار والأفهام ، من أمّة العرب والإسلام ...