أخي الكريم أسامة الحموي حياك الله وكل عام وأنت بخير وجميع المسلمين
أرجو المعذرة لتأخري في الرد على سؤالك الذي أرجو أن يكون فيه كلمات سقطت منه كلمات ما وأنك تقصد مرض الطاعون (الموت الأسود)، الذي اجتاح أوروبا في العصور الوسطى الأوروبية وتسبب في إبادة ثلث سكان القارة البالغ عددها آنذاك ما بين 80 إلى 100 مليون نسمة، ولماذا لم ينتشر هذا المرض في بلاد المسلمين بالشكل الذي انتشر فيه في الغرب، لأنه انتشر في بلاد الشام وغيرها ولكنه لم يقتل ذلك العدد الذي قتله في أوروبا! والإجابة على سؤالك أنقل لك بعض الفقرات الجميلة التي كتبها الأستاذ خالص الجلبي عن هذا المرض في كتابه "مخطط الانحدار وإعادة البناء" الفصل الرابع : (الطاعون رعب التاريخ):
فما الذي حدث في ذلك التاريخ من مطلع عام ١٣٤٧م؟؟ بدأ المرض مثل بؤر الزلزال الأرضي وحلقات التصدع في القشرة الأرضية يتحرك مع حركات السفن والموانئ وتكاثر الجرذان في أقبية السفن المتحركة، إلى مدن أوربا القذرة التي لا تعرف نظام التصريف الصحي، ولا نظام الحمامات الإسلامية ولا الوضوء ولا الاستحمام بل كانت تلجأ إلى إغلاق الحمامات!!
هناك في القرم حصلت معركة سخيفة بين التتار وقلعة تحصن بها جماعة من أهل البندقية الذين أسسوا مستعمرات لهم خارج إيطاليا، وتفشى الطاعون في التتار المحاصرين فاعتراهم الغضب، فقاموا بشن أول حرب ( بكتريولوجية ) ربما في التاريخ الإنساني، حيث رموا بالمنجنيقات هذه المرة ليس الصخور والحجارة؛ بل الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون؟!! فأصيب البنادقة بالرعب مرتين الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون، ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافئ التي وصلوها، وبذلك نشروا المرض في كل أوروبا، فلم ينتهِ عام ١٣٥٢م إلا وكانت مدن أوروبا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن وكراكاكو والدانمارك والنرويج قد طمها البلاء وقوضتها المصيبة، والطاعون ليس أكثر من مرض (الرشح) الذي ينتقل عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة!!
ويُبقى عام 1347م هذا المرض في الذاكرة الجماعية للتاريخ الإنساني شيئاً مخيفاً حقاً عندما نتصور سكان أوروبا في حدود 80 إلى 100 مليون نسمة فيقضي نحبهم حوالي الثلث أو الربع، وتتصحر أوروبا عملياً، بل وتعاني إمكانية نقل التراث المعرفي للأجيال القادمة، وتحتاج إلى ما يزيد على مئتي عام كي تسترد عافيتها وعددها السكاني!
وفي الهوامش يكتب عن أسباب المرض ومعافاة المسلمين منه:
إن القذارة مصدر العلل أيا كانت هذه القذارة، بيولوجية أم نفسية أم اجتماعية!! والقرآن أشار إلى كل هذه الانحرافات المهلكة، فطلب نظافة الثوب والبدن (وثيابك فطهر) وطهارة القلب والمسلك (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ونظافة المجتمع من الفساد (أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض)، واعتبر القذارة الاجتماعية سبب تدمير المجتمعات الداخلي (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)، وهذا يعني جهدا متواصلا للحفاظ على وسط الطهارة، فالحياة تقوم على (وضع ديناميكي متحرك) وليس (وضع استاتيكي جامد)، الحياة تقوم على مبدأ (الصيرورة والتطور) وليس مبدأ (التوقف والجمود والتحنط)، فمع الموت تقف الحياة عن التشكل وإمكانياتها عن المتابعة، وهكذا على الإنسان أن يعيش في جو نظيف في كل مستوى، بالنظافة الدائمة لثوبه بالغسل، وبدنه بالحمام، وروحه بالصلاة وبالتنمية الجدلية للنقد الذاتي، ومجتمعه بالوعي المتقد والسلوك الرشيد والقدوة الحسنة وتفشي روح السلامية والحوار المثمر، والثقة بأن الكلمة كائن حي مؤثر، فيها قوة الاندفاع الذاتية في قدرة الإصلاح الاجتماعي
وقد كان الانفتاح الواعي لأوروبا على العلم العربي – الإسلامي الفضل في تحقيق نجاحاً في مجال العلوم الطبية والقضاء على كثير من الأمراض والأوبئة التي عانت منها لقرون وهي تجهل سببها ..
وتحت عنوان "مرض الطاعون.. حكايات مؤلمة في إبادة البشر" كتب (نعيم محمد عبد الغني) عن ما ورد في السنة النبوية عن مرض الطاعون وطرق الوقاية منه وفيها إجابة على سؤالك إن كان هو ما فهمت منه:
نقرأ في كتب السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الطاعون فقال: (أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام. فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم، ورجس على الكافرين) الحديث أورده الإمام السيوطي في الجامع وهو في مسند الإمام أحمد. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: (الطاعون شهادة لكل مسلم) وفي البخاري عن عائشة: (الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع له الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد).
وإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الطاعون لم يدخل المدينة وبأنه سيدخل دمشق إعجاز ودليل على نبوته فالطاعون لم يدخل المدينة حتى يومنا هذا وإنما دخل دمشق بعدها بفترة قليلة، قال السيوطي في الجامع الصغير: «وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه إخبار عن عدة مغيبات، وقد وقع الطاعون في دمشق منذ قرن تقريبا، واستشهد فيه الكثير» وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الطاعون والدجال لا يدخلان المدينة فقال في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: (على أنقاب المدينة ملائكة.. لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)
ويعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- إشارة عن تاريخ المرض وحقيقته والوقاية منه فيقول في الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم: (الطاعون بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليه).
ثم يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- مرض الطاعون فيقول في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط وقال عنه السيوطي في صحيح الجامع بأنه حسن: (الطاعون شهادة لأمتي، ووخز أعدائكم من الجن، غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات فيه مات شهيدا، ومن أقام فيه كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف).
وفي الذين يموتون من المسلمين بمرض الطاعون وهم على فراشهم يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا في الذين يتوفون من الطاعون فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا فيقضي الله بينهم فيقول ربنا: انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراحهم جراح المقتولين فإنهم منهم ومعهم فينظرون إلى جراح المطعونين فإذا جراحهم قد أشبهت جراح الشهداء فيلحقون بهم).
تلك بعض الأحاديث التي تحدثت عن مرض الطاعون والتي فيها إشارات مجملة لأسبابه منها انتشار الفواحش، وكيفية الوقاية منه، وجزاء من يصاب به من المسلمين صابرا محتسبا. وفي العام 18هـ وهو عام الرمادة أصيب بالطاعون خلق كثير يقاربون ثلاثين ألفا كما في بعض الروايات، وبدأ انتشار المرض من قرية فلسطينية اسمها عمواس وبدأ ينتشر في بلاد الشام ولذا سُمي بطاعون عمواس، ومن أبرز الصحابة الذين ماتوا به أمير الجيوش الإسلامية الفاتحة في هذا الوقت سيدنا أبو عبيدة بن الجراح.