ولكن من أين جاءت داعش
خاص: كلنا شركاء
أصيبت كل مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية بالصدمة بعد أن قامت داعش خلال أسبوع واحد باجتياح مرعب لسواد العراق، وفرضت قيام دولة جديدة في المنظقة أكبر في الجغرافيا مما تبقى من سوريا والعراق وأكبر من كردستان القائمة بالقوة في الجغرافيا السورية والعراقية.
وشخصياً فإنني أختلف مع معظم التأويلات السياسية التي تعتبر أن دولة الخلافة التي أعلنها البغدادي هي خطوة في الهواء، وأنها مسالة أيام أو أسابيع تنتهي بوصول الغوث الأمريكي أو الناتو، وقناعتي ان هذا الوجود العجيب للدولة الجديدة سيكون صورة الواقع الجديد في المنطقة وسيزداد قوة وتأثيراً في قادم الأيام.
ولكن من أين جاءت داعش؟
جواب النظام إنه الإرهاب التكفيري العالمي وهو جزء من المؤامرة الكونية على سوريا وهي أموال العهر والبترودولار .. الى آخر اسطوانة الاتهامات التي تستخدم عادة ضد كل معارض، من غاندي إلى داعش وما بينهما.
وجواب المعارضة إنه المخزون الاحتياطي الذي تمت صناعته في أقبية المخابرات وهو وقود صفوي إيراني أسدي مالكي اشترك في صناعته كل أعداء الثورة السورية.
شخصيا لا تقنعني أي قراءة من القراءتين ولا أعتقد أن أحداً يحترم عقله يستطيع أن يقرأ الأمر بهذه السذاجة.
قناعني أن داعش هي التركيب الأعلى في سلسلة الديالكتيك الحتمي الصاعد للمظالم التي عانى منها الناس من النظم الاستبدادية، وقد امتزج بالأماني المسكونة التواقة للعالم العادل الذي قدمناه في خطابنا الديني البائس تحت عنوان الخلافة بأسلوب انفعالي مستمر، على أنه الحكم المقدس، المعصوم بنصوص القرآن، المؤيد بالسنة الشريفة، والملتزم منطق الحاكمية لله ورسوله.
الخلافة المقدسة والامبراطورية الجرمانية المقدسة حكاية واحدة، لقد كانت عنواناً ميتافيزيقياً لمنع المساءلة والمحاسبة وتبرير سلوك الحكام وأهوائهم وجرائمهم، وبالتالي لجعل الشعب ينتطر الأسرار والمفاجآت من حكم الأباطرة دون أن يكون له فعل في التغيير على الأرض، بحيث يتحول المتبعون إلى أتقياء والمتمردون إلى زنادقة، وهو سلوك يقتل الإبداع بالخنق حتى الموت، ويعيد إنتاج اليوتوبيا البشرية في ثقافة القطيع.
لم نتحدث عن الخلافة مشروع تدبير سياسي، يعتوره الخطأ والصواب، بل تحدثنا عنها رمز وحدة مقدسة بهون في سبيل الحفاظ عليها كل تفريط بالقيم والمبادئ.
من أين جاءت داعش؟ إنها ببساطة الخطاب الحماسي الذي تطلقه منابرنا دون توقف منذ مائة عام، حين نتحدث عن سقوط الخلافة العثمانية وتآمر العالم علينا، ووجوب قيام الخلافة من جديد على أي قطعة أرض.
لم ننظر إلى انهيار السلطنة العثمانية على انه سياق طبيعي للتاريخ، وأنه جزء من منطق العقل بأن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة ويهلك الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، وهو المنطق الذي يؤمن به كل عاقل في هذا العالم، وأن الخلافة العثمانية التي سميت دولياً باسم الرجل المريض، صارت مجرد متاع تتوارثه الأمم، ولم يعد لها أي فعل حقيقي على الأرض لعدة عقود قبل أن يطلق عليها أتاتورك رصاصة الرحمة.
لقد قام خطاب المنابر التهويشي لعدة عقود بتأويل سقوط الخلافة بلغة ميتافيزيقية عمياء، جعلت العالم كله آثماً لأنه لم يقم بالدفاع عن الكيان الهش المتردي الآيل للسقوط والذي أفسدته حريم السلطان ومظاهر الفساد والظلم والترف والمجون، وأن العالم تآمر على الخلافة لأنه يكره الإسلام والمسلمين، ولم يقل أحد بأن الخلافة نفسها ليست محل نص في القرآن ولا في السنة، وأنها محض اجتهاد سياسي لتدبير شؤون الناس وتصريف حاجاتهم على وفق ما يتيسر من أمور الدين والحياة.
داعش لم تحضر من المريخ إنها بنت طبيعية لثقافتنا وخطابنا المتخلف، لقد كان الحديث عن الخلافة هو دوماً أفضل طريقة لتبرير هزائمنا وخيبتنا وخسارتنا وعثارنا في اللحوق بركب الأمم، وكانت كلمة الخلافة وذكريات الأستانة والمراسيم الهمايونية تثير في نفوس الجيل الرغبة القاتلة بالعودة إلى الماضي، وكانت الخيبات المتتالية من الحكم العلماني تدفع بالجيل إلى مزيد من الآمال بدولة الخلافة التي تملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وفي واحدة من أكثر تقاليد السلطنة العثمانية وحشية ودموية فقد جرت العادة أن السلطان ما إن يجلس على كرسي السلطنة حتى يقوم بقتل إخوته جميعا، وبالأمس بالضبط كنت أستمع إلى دكتور في الشريعة الإسلامية يتحدث في قناة قطر الفضائية، حيث ذهب الرجل إلى التأكيد بأن محمد الفاتح حين ولي السلطنة قام بقتل كل إخوته الذكور بدون استثناء، وليس المدهش في سرد الرواية التي يمكن الطعن فيها، ولكن المدهش أن الرجل راح يتحدث بكل حماس عن حكمة السلطان ووعيه وإيثاره لمصلحة الأمة واستقرار الدولة على حقوق أهله وأسرته الخاصة!!! ببساطة لقد اعتبر ذلك القتل الإجرامي المتوحش لوناً من التفاني الوطني في خدمة الخلافة وخدمة الدولة والإخلاص للشعب!!.
لقد مارسنا التبرير لكل الخلفاء حتى تبقى صورة الخلافة ناصعة، وهناك من كتب عن الحجاج أشهر سفاكي الدماء في العصر الأموي على أنه سيف الحق المجاهد، والإمام المفترى عليه، كما فعل محمود زيادة وأحمد تمام رغم أن عمر بن عبد العزيز قال: والله يا بني أمية لو جاءت الأمم بذنوبها وجئتم بالحجاج لغلبتم سائر الأمم.
وحين تغني فيروز في أمجاد الخلافة الأموية: أمويون فإن ضفت بهم ألحقوا الدنيا ببستان هشام فإن من العقل أن نتذكر أن هشام بن عبد الملك هذا الذي حكم عشرين عاماً بدأ حكمه الرهيب بصلب زيد بن علي بن الحسين حفيد الإمام الحسين في الكوفة عارياً، ولم يكن صلبه لزيد بن علي ليوم أو يومين كما تفعل داعش بل صلبه سبعة عشر شهراً، وفي قول ابن حبان صاحب السنن فإن زيد بن علي ظل مصلوبا عشر سنوات حتى انهارت الدولة الأموية وجاء بنو العباس.
نحتاج إلى ثورة في العقل المسلم تعيده إلى القيم الأصيلة في الإسلام للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وتتجاوز منطق القداسة في نظام الخلافة، وتفرض العودة إلى اعتباره أحد أنماط الحكم السياسي، يتم تصنيفه إيجاباً أو سلباً بحسب ما يقدمه للناس من عدل وخير.