ضمور القطاع العام وأثره على التحولات الاجتماعية
في أزمنة سيادة العشيرة على تنظيم الحياة العامة، كان زعيم العشيرة يقوم بمهام الحكومات الآن، فكان هو المخطط للذود عن العشيرة، وكان هو من يتفقد فقراءهم ويؤمن لهم قوتهم بالطلب من أغنياء العشيرة بإعطاء (منوحة) أي بعض رؤوس من (الحلال) للفقير كي يحلبها ويغذي أسرته منها، وكان هو من يفصل بالخلافات بين المتخاصمين من أفراد عشيرته بالتعاون مع الحكماء من عشيرته، وكان هو مصدر المعلومات الثقافية من خلال ما يسمع بالمشافهة أثناء زياراته لما هو أبعد من حدود حمى العشيرة. باختصار كان هو وزير التموين والحرب والثقافة والعدل الخ.
مع تطور فكرة الدولة في البلدان العربية، استندت إدارات الدول الى مفاهيم دينية وتراثية فصاغت أساليبها لتنبري لمهام كثيرة، منها التموين والدفاع والإعلام والمواصلات والتعليم، وأطلقت على المؤسسات التي تقوم بتلك المهام اسم القطاع العام، وإن كان هذا الاسم قد استحدث مؤخرا، لكنه كان يؤدي دوره منذ العهد الراشدي، ( إن تعثرت بغلة في شمال العراق فأمير المؤمنين عمر ابن الخطاب مسئولا عن ذلك).
في المقابل، نشأ في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية، والمستعمرات الغربية تقاليد تجيز منح امتيازات لمن يقوم باستصلاح أرض أو مد طريق أو خط سكك حديد، فسيكون مردود هذا العمل لمن قام به.
ومع ظهور أفكار تلزم الدولة بتأمين العمل والصحة والتعليم والسكن والغذاء للمواطن، ودُعيت تلك الأفكار بالأفكار الاشتراكية، ظهر مقابلها ما يحلل الدولة من ذلك الالتزام ويجعل تلك القطاعات المذكورة مجالا للتنافس بين من يريد أن يستثمر بها، ودعيت تلك الأفكار بالرأسمالية ثم ألحق بها مصطلح الليبرالية، وقد تطورت الأنظمة في الغرب والدول المتقدمة لتكيف نفسها بالتعامل مع تلك المفاهيم.
في حين ظهر الكثير من التشوهات الإدارية في الدولة العربية، والتي كانت تتبنى فكرة الخط العام بالفطرة دون أن تهيئه ليكون نظاما اشتراكيا، حتى لو أطلقت عليه إداراته في بعض الأحيان هذا الاسم. وتعامل المواطن العربي مع هذا الشكل من الأداء كمسلمة لا يجوز الحياد أو التخلي عنها.
عندما أحست الدول العربية، أنها لا تستطيع أن تواكب الزيادة في سكان مواطنيها، وتأمين المدارس والمعاهد والجامعات والمستشفيات والطرقات والسجون والغذاء. ومع ازدياد مظاهر المديونية والفساد في الإدارات، ونصائح البنك الدولي وانحلال النظم الاشتراكية في العالم، ابتهجت تلك الدول لتنفض عن كاهلها مسئولية الالتزام بتأمين تلك القطاعات والاستمرار بها.
فأخذت تبيع مؤسسات القطاع العام أو تخصخصها (المصطلح الحديث)، فاستشرت الظواهر السيئة التي تهدد المجتمعات العربية والتي يمكن تلخيصها بما يلي :
1ـ حصر التعليم العالي بالقادرين على دفع نفقاته.
2ـ حصر العلاج بالقادرين على دفع نفقاته.
3ـ انفلات الرقابة على سياسة الأسعار، مع ظهور فئات لديها الكثير من الأموال والقادرة على الشراء، بعد ضمور الطبقة المتوسطة، وازدياد الفقراء، وتكديس الأموال بأيدي 7% من السكان بأحسن الأحوال.
4ـ ارتباط الطبقة الميسورة بنظم الحكم والرضا عنها، فأصبحت تلك الطبقة هي التي تمد الدولة برجال حكم وأعضاء برلمانات قادرين أن يصرفوا على حملاتهم الانتخابية، وتهميش شرائح عريضة من المجتمع، لا يستبعد أن تخرج منها عينات من المجرمين أو الحاقدين على تلك النظم ويترجمون حقدهم بأعمال يتفق الجميع على وصفها بالإرهاب، إلا الشريحة التي خرجت منها تلك العينات، وما أوسعها!
5ـ تكييف القوانين لحماية الطبقات العليا من المجتمع، وتمرد صامت مع عدم رضا من الطبقة الأوسع.
وقد يتبع هذا الوضع، خصخصة الطرقات والماء والنفط وغيرها مما تبقى للمواطنين من حق للمشاركة فيه.
لقد أحس المواطنون الذين هيأتهم دولهم على نمط احترام القطاع العام منذ منتصف القرن الماضي، لتتركهم الآن هم وأقدارهم، كمن عاش في كنف أبيه المكتفي نوعا، وبعد أن يتزوج ويكون أسرة يطرده والده ليلقى مصيره!