حين تدمع عيون الآلهة
تسلل الأنين عبر نافذتي ,كان حادا وحزينا,ينقطع كلما انهمر المطر غزيرا يصفع الإسفلت والجدران...
الليل مظلم وموحش,الزقاق ملأته البرك المائية...
ارتديت معطفي وساقني الأنين إليها.لم أألفها مقيمة بهذا الركن...
شرع السيل يجرف كل شئ,قطع الكرتون التي كانت تفترشها ,أطراف ثوبها الرث التي تتلوى كشرغوف وسط سيل يصر أن ينتزعها.
برزت نحافتها عندما تبلل ما عليها,غائرة العينين ,ناتئة الوجنتين, وجهها قطعة من ألم يحمل وشما غائرا يمتد من الذقن عبر تجاعيد العنق ليرتبط بعروق الصدر البارزة...
دنوت أساعدها كي تغير مكانها.
عاد المطر غاضبا كالسياط.
تشمعت أطرافها, ساقاها بدتا لمومياء زمن غابر...حركت جفنيها ببطء شديد,رموشها جمعها البلل ...بلل دموع أغلب الظن...
أجفلت لما دنوت,للا رحمة ,تلك التي كانت تدرع الأزقة وعلى كتفها زرابي وأغطية صوفية,صوتها يجلجل الزقاق حين تلجه...
توقف المطر وتوقفت الريح كذلك,سرى دفء بعد هذه الزوبعة...
كدت احملها وقد تجمد جسدها البارد ,كأن الروح فارقته,أجلستها فوق عتبة مرتفعة تظللها سقيفة خشبية تمسكها سارية ضخمة زينتها نقوش بارزة انتهت بنحث دقيق لصبية عراة مجنحين.
عادت صورتها تطن في رأسي...
امرأة يجذبها الطول,في الأربعينيات من عمرها على شئ من السمنة وقوة الجسد,مشمرة على ساعدين زينتها أساور من فضة.
تنتعل حذاء مطاطيا أسود زاد بياض الساقين سحرا,بياض تنافر قليلا مع السمرة التي علت الوجه...
تقلب هنا زربية على وجهها الآخر,هناك تعرك لحافا صوفيا خشنا وسط نصف برميل حديدي,بينهما ,فوق صخرة مستوية السطح, وفي يدها عصا ناعمة الملمس ,غليظة الرأس تضرب بدقات محكمة وإيقاع ينسي عناء القرفصاء,كومة صوف جزت حديثا...
عدت بعد لحظة أجلب ما قد يدفئها...
للارحمة امرأة لم تخلف,الفتاة الوحيدة التي تبنتها,تركتها مبكرا يوم علمت حقيقة نسبها...فانكسر في دواخلها وهم الأم...
الرجل الذي جمعتها به حنفية الساقية الوحيدة أول الأمر,حيث كان يملأ برميل الحديد ليجوب الأزقة بدوره مقابل قليل من السكر أو الدقيق أو ثمن زهيد...كان في أحيان كثيرة يعينها على رفع الزرابى المثقلة بالماء...
وكانت تعينه على دحرجة البرميل الحديدي...تعلو ضحكتها حين يتعثر...
اقتربا وهما يرفعان أثقل الزرابي...
دنيا وهما يتناولان وجبات اقتسماها...
والتحما تحت سقف في ألفة أسطورية...
حزنت كثيرا يوم فارقها ذات خريف,وتوشحت البياض...
جلست قبالتها الليل في منتصفه أو يزيد قليلا,توقف المطر,تمددت دون أن تلمس الغطاء,أمسكته من طرفه ودثرتها ,أضفت قطعة بلاستيكية سميكة وشفافة...
اسندت ظهري الى السارية الضخمة,قطرات أحدثت صوتا رتيبا فوق الغطاء البلاستيكي,
ظننته ماء تسرب من شقق السقيفة الخشبية..رفعت بصري...كانت عيون الصبية العراة المنحوتة برأس السارية تدمع....
.................................................. ..........................