سعد الله الجابري وحوار مع التاريخ (أوراق مضيئة) ـــ رياض الجابري



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



المقدمة

الحوار مع التاريخ شاق... عسير... فنحن لا نستطيع أن نعيده ونسترجعه لنناقشه، إلا من خلال ما كتب عنه أو قيل.‏

ثم إن التاريخ حركة دائبة هادرة، متغيرة غير ثابتة... تنتابها انفعالات اللحظة الحاسمة التي تسقط فيها خطا الموقف لتسجل في التاريخ.‏

وهكذا يصبح عالم الأمس... عالم الآباء والأجداد، عالماً تتلاشى فيه بعض الحقائق، وتحرّف حقائق، وتطمس حقائق، وتزول الألوان... فالكل باهت، ويزول ما رسمته يد الأيام...‏

بيد أن صدق مواقفنا في واقعنا المتغير، ومن خلال أمتنا العربية وحرصنا على جيل يترعرع في عهد سريع التغير، وإدراكاً لواجباتنا الوطنية وحسّنا القومي الذي يمدّنا بمعنى الانتساب إلى الوطن، كل هذا يحفزنا لدرس أعمال رجالنا الأبطال الذين قضوا وتركوا لنا ما نتعظ به في التاريخ، ثم سبر حياتهم لنزداد إيماناً بحبنا وتعاطفنا مع وطن وشعب، ولنخلق في روح الجيل وضميره إحساساً بالاعتبار والتمسك بالجذور التي تثبت النبتة في أرضها والفرد بقومه وهو يحمل مسؤولية المستقبل، وتراه بأشد الحاجة لمعرفة السبل الرشيدة التي تصل به إلى شاطئ العزة والكرامة الإنسانية.‏

إن تفكيرنا الصحيح في مستقبل الأمة العربية، وحرصنا على مستقبلها الوطني يحفزنا إلى دراسة أعمال رجالنا وأبطالنا وبعثها لنزداد مضاءً في العزم، وثباتاً على المبادئ الوطنية ولنخلق لدى النشء الطالع إحساساً بالقدرة والاعتبار وتواصل العمل النضالي.‏

من هذا المنطلق، نفتش عن أبطالنا في ثنايا تاريخنا، في ماضينا وتراثنا، الذي اكتسب بعض الثبات في المواقف، بينما الحاضر لا يملك هذه الصفة إلا عندما يصبح ماضياً، نفتش في ثنايا التاريخ منذ أن وعيناه جهاداً ومقاومة، أي منذ نهاية الاستعمار...‏

وقد نبحث كذلك، عمن كانت على يده هذه النهاية لنراه في شخص سعد الله الجابري، مع نخبة من أصدقاء الدرب وحاملي المشعل، والذين يُعدون بحق أبطالاً تفخر بهم الأمة العربية من محيطها إلى خليجها...‏

ولما كانت لشخصية سعد الله الجابري صفات القيادة والريادة، والإخلاص المطلق لمبادئه، فقد وقع اختيارنا على هذا الشاب المنطلق، والذي كان الجريء الحلبي الأول الذي لم يتسلل الخوف إلى قلبه مطلقاً، والذي بدأ نضاله الوطني وهو لا يزال على مقاعد الدراسة في الآستانة (تركيا).‏

يقول باتريك سيل(1) Patric Seal:‏

"إن سعد الله كان أشجع رجل في الكتلة الوطنية وأكثرهم استقامة".‏

ولئن كان تاريخ الأمم هو من تاريخ رجالها، فرجل سورية ـ سعد الله ـ قد ارتبط بالحركة القومية العربية منذ نشأتها، ولا ينكر الشعب السوري والعربي على امتداد أبعاده، أن سعد الله الجابري كان صاحب كلمة، وصاحب قرار، وصاحب رأي في المواقف السياسية الحاسمة. ولهذا فنحن في حوارنا مع تاريخ رجل، سنصل إلى رجل تاريخ، تاريخ حيك نسيجه بالوطنية وتشابكت خيوطه بالإخلاص والصبر والثبات، وأهم ما في هذا التاريخ أنه فتح باب القضية العربية بوحدة تخلق القوة وتكون أكثر خلوداً من الحضارات....‏

رياض الجابري‏

حلب/ سورية‏

(1) باتريك سيل ـ الصراع على سورية. Patric Seal - The Struggle of Syria.‏___________________________________________ ______________________


كيف أرسم صورة الجابري؟

1894 – 1947

ما فكر إلا في بلاد الشام وطنه الصغير

وبلاد العرب وطنه الكبير

"ما كان لنا أن نختار عندما فرض علينا الانتداب، ولكن كان لنا الاختيار أن نحاربه حتى نقضي عليه، وقد فعلنا ما يقضيه علينا الواجب الوطني".

سعد الله الجابري

إذا كانت الأنثروبولوجيا الحديثة، تحاول رسم صورة الشعوب والأشخاص، بخطوطها الكبرى عبر التاريخ، فسأحاول في دراستي هذه أن أرسم صورة الجابري عبر تاريخه لأبيّن معالمها وأخرج مواقفها شفافة صافية، وأحاورها بصدق في ضوء الأحداث الوطنية التي عاشها، والمرحلة الحاسمة والفاصلة بين استعمار واستقلال...

وسوف أدخل على الجابري من باب التسلسل الزمني لحوادثه، علّني أشرح التوافق البطيء أو التنافر بين الأشياء والزمن، وسأواجه سعد الله من خلال منعطفات حياة تركت بصماتها في نفسه وأثرت في سلوكه وتجلّت في تعامله مع الناس، وبرزت صريحة واضحة في مواقفه الوطنية، وتلك نتيجة طبيعية لوجود وشائج قربى شبكية بين الجابري ونشأته.

وهذه الدراسة تدعوني لأن أشرح بعض المواقف والظروف العائلية والنفسية التي تهم الموضوع، والتي أحاطت بالجابري وأنشأته على إحدى الصور، ولهذا تعد هذه الدراسة خارطة نفسية للمشاعر الوطنية التي حفرت فيها قنوات ورسمت الطرق التي سلكها سعد الله، ثم اقتادته بحكم إرادة الوجود، وخلال السهول والجبال الشاهقة التي يتألف منها مجرى التاريخ الخالد، وذلك منذ ولادته وحتى وفاته عام 1947، وما رسمته من تخطيط وطني تجلّى في انتزاع الاستقلال من براثن الاستعمار.

ولهذا سيكون حواري مع التاريخ سنة إثر سنة حيث تتواصل الحوادث لتكشف عن جذور الحدث في تمددات الواقع الذي يبتدئ قبيل القرن التاسع عشر وحيث كانت البلاد العربية، كلها، عالماً غير مستقر، كما يشير التيليسكوب التاريخي الكبير، والذي هزّ العالم العربي كلّه، لأن هذا الوطن كان بوابة العالم ومصدر الطاقة.

من هو الجابري...؟

في يوم من أيام 1894 استيقظ حي (السويقة)، في قلب مدينة حلب في سورية، على صرخة طفل جميل، سماه والده (سعد الله).

وإذا كان الطفل عادة يولد مرتين: الأولى ولادة بيولوجية عضوية، والثانية ولادة ثقافية، يتحوّل فيها إلى كائن ثقافي وأخلاقي، فنحن سوف ندرس الولادة الثقافية والأخلاقية من خلال المناخ الأسري الذي عاشه ومن خلال المناخ البيئي الذي أثر في إكسابه جزءاً من شخصيته.

وإذا كان الأطفال يرضعون الحليب منذ أول صرختهم. فهم يرضعون من ثقافة الأسرة، والأم خصوصاً، كما يرضعون من ثقافة المجتمع شيئاً فشيئاً ومن خلال امتصاصهم التاريخي بعض عناصر البيئة.

وتأثرت (أنا) سعد الله بالبيئة الاجتماعية بجميع أطرها المتداخلة وذلك من الإطار الحضاري العام إلى الإطار الأسري الخاص.

المناخ الأسري:

حبا سعد الله الطفل في جو عائلي جيد، فالنسيج التربوي والثقافي المتمثل بعناصر عائلته، ثم الحقائق والآراء والأفكار والأحاسيس والاتجاهات قد انتقلت في معظمها إليه، بعد أن اختار منها ما يناسب نفسه ويرضي منطقه، على مدى الأيام.

ونما سعد الله في ظلال وارفة، عطف أبيه الحاج (عبد القادر لطفي الجابري) مفتي حلب، ووالدته السيدة (حسنى ملك) وهي شركسية الأصل، والتي حضنته حباً وأكسبته رهفاً في المشاعر، كما أسهم والده في إغناء شغفه بوطنه وإحساسه بقومه.

وتربية الطفل عادة تنبع من نبعين اثنين: الفطرة، والتربية أو الوراثة والاكتساب، بيد أن العامل الفطري عند سعد الله، واستعداداته النفسية الأولى، قد تغلّب على الاكتساب، وبمعنى آخر، إذا كان الماء يأخذ شكل الإناء، والإنسان يطبع بالمكان، فإن المكان الذي درج فيه، قد كان لـه مفعوله، ولكن طغيان العناصر الذاتية، كان أشد وضوحاً عنده.

وبرزت عناصر الصدق والأمانة والإخلاص في مسلكه، ونشأ وهو يحمل شعوراً غنياً بالحب لقومه وشعبه وعروبته منذ صغره. وهذا دليل على أن روحه قد أشبعت وامتلأت بحب الله والوطن وغمر جوانحه ونفسه، ثراء العاطفة ومسؤولية المستقبل والمصير، لأنه منذ إيقاع حياته الأولى عبّر عن مشاعره وهواجسه الوطنية، كما سنرى.

تروي قريبة لـه، (وهي مصدر ثقة كبير) أن سعد الله كان في السابعة من عمره عندما كان يتقد وطنية ويتفجّر، قالت: "في يوم كانت أمه تحتضنه في حجرها حباً ورعاية، فما كان من سعد الله بعد صمت طويل وهو يتأمل وجهها سوى أن تأوّه من أعماقه وقال: "(أماه ليتك كنت عربية)".

في السابعة وهو يحمل هذا الشعور المتقد وطنية، وهذا الوجدان الملتهب حماسة في السابعة حيث الطفولة تسيطر على كيان الطفل، ولا تترك متسعاً من الوقت إلا للعب واللهو، كان سعد الله يطرق باب عالم آخر هو عالم الرجال، عالم عاشه قبل الأوان. وراح اليافع ينمو... ويترعرع... ومظاهر النباهة والزعامة القيادية والاستقامة تسيطر عليه في أكثر مواقفه، وبين رفاقه، حتى إن أكثر انفعالاته قد استخدمها استخداماً بناءً أفاد منها فيما بعد تجاه وطنه، وذلك عندما احتقر الشهوات، وجابه الألم والحرمان، وهو يتطلع إلى هدف وغرض رفيع...

كان والده عبد القادر لطفي الجابري رجلاً عصامياً، يعمل بشكل متواصل ليستطيع أن يعيش جيداً ويؤمن حياة أولاده التسعة وزوجتيه الاثنتين...

ودارت الأيام... ومات والده ووالدته... وعاش وحيداً في داره، منعزلاً متفرغاً إلى قراءاته واتصالاته مع شلة من الأصدقاء، كان يرى فيهم بريقاً وطنياً وطموحاً لتحقيق استقلال البلاد التي كان يحسها تئن وتتلوى تحت نير الاستعمار العثماني...

وإذ يخلو إلى نفسه كان يتوجه بكل قلبه إلى النور الذي ملأ وجوده إلى نور الله حيث يصلي ويطلب الرحمة لوالديه، والكرامة والعزة لشعبه ووطنه. وكان يقرأ القرآن الكريم الذي كان يدعو الناس إلى النظر في الأرض والسماء، في الأحياء وفي أنفسهم... بحثاً عن آلاء الله.

كان مؤمناً بصدق وإخلاص رغم تكيّفه مع عصره وولوعه بأحدث الأزياء توخياً لأناقة اشتهر بها.

لم يتزوج، وكأنه منذ صغره يثير (قلق) مطلب السعادة الأعمى، مطلب إرضاء الغرائز الحيوية الضيقة، حتى قال فيه أصدقاؤه الشعراء:

قال الشاعر بدر الدين الحامد:

لم تُلقِ بالاً إلى الدنيا وزخرفها
ولم تُرِد متعاً من لذةٍ ودَدِ

كما قال الشاعر عادل غضبان:

ذهب الذي وقف الحياة على هوى
وطنٍ نماه، فعاش في العزّاب

وكأن سعد الله كان يوازن في (شعوره ولا شعوره) في إعطاء كيانه ووجوده إلى وطن وأرض أو إلى أسرة وأولاد، وغلبه حب الوطن وشغله عن كل أمور الشباب من لهو ومال ونساء... فليست حياة اللذة والاستمتاع بالعالم كلَّ شيء في الدنيا. وانصرف إلى تعبئة نفسه لإعطائها كاملة إلى الوطن، وربما كانت أكثر أمواله التي ورثها عن أسرته تصرف على قضية وطنه، فالوطن هو الكرامة وهو الحرية وهو الحب.

من هذه الينابيع الأعمق، التي تتيح لكل فكر أن يلقى معناه وتبريره، استمد سعد الله الجواب عن المسائل الأساسية في الحياة والتي تتوجها (عزة الوطن).

المناخ الاجتماعي:

تنفذ آثار البيئة إلى النفس وتؤثر في نضجها ونموها وسرعة ارتقائها، كما أنها تعين إيقاع ارتقائها إلى الصفات العامة للشخصية.

وكان أن وُلِد سعد الله في أحضان القلق الاجتماعي والاضطراب السياسي والذي كان وراء آلام معاناة شعبه الأعزل المقهور.

وكبر سعد الله وصحا على ما كان يحيطه من اجتماعات واتصالات تقوم بها عائلته لاسيما أخوه الكبير فاخر الجابري، حيث كان يجتمع مع رجالات البلد في داره في الأنصاري أو في (قناق) الشيخ عبد الحميد الجابري في السويقة، حيث كان (الليوان) يضم الوطنيين كما أن تنقلات أخيه الكبير إحسان الجابري وسفره مع بعض رجالات السياسة من أجل قضية الوطن قد أغنت مشاعره الوطنية وعبّأتها.

شهد سعد الله كيف كان (الليوان) يضم العديد من بيت الجابري في حلب "إذ إنها كانت أكبر عائلة حلبية وأوسعها سلطة"([1]). وكان أكثر أفرادها رجالاً ونساءً يحملون في قلوبهم الشعور الوطني الصادق. وفي اجتماعاتهم اليومية كانوا يتداولون في أمور البلاد وما آلت إليه الحال من استبداد السلاطين وملاحقة الوطنيين والمفكرين.

كان سعد الله يحضر معظم هذه الاجتماعات، ويصغي بانتباه شديد إلى ما يدور فيها ويلتقط كل خبر، ويمتلئ بذلك إحساسه بالقهر الشديد من حلم جائر، في الوقت الذي يزداد فيه قوّة ومضاء في سبيل خدمة وطنه.

وكان ينزعج أشد الانزعاج للسياسة التي يطبقها السلاطين في حق الأفراد السوريين والعرب، وامتلأ قلبه الكبير بالتصميم على محاربة الظلم بأية وسيلة كانت، وتلوّنت اتصالاته الجماهيرية بمواقف التفاعل بينه وبين أفراد عائلته التي تشهد الاجتماعات الوطنية، وبين عدد كبير من الأشخاص، وفي هذه الاتصالات كلّها كانت قضية تحرير الوطن تتوج هام الجهاد.

المناخ السياسي:

كانت سورية واحدة من أعظم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، وكانت ملتقى الحضارات ومهد الديانات، وفي نهاية القرن العشرين اعتراها التغيّر وتطورت أوضاعها السياسية منذ تقلبها في أحضان استعمار عثماني ثم فرنسي، وكادت تفقد هويتها وتنسحق ذاتها لولا مبادرة بعض الوطنيين من رجالها.

كما كانت سورية جزءاً من الوطن العربي، الذي كان يرزح تحت اجتياحات الدول الأجنبية منذ انهيار الخلافة الإسلامية، فقد انحسرت كل حضارة، وأصبحت في عصر انحطاط علمي وسياسي وثقافي، تفاقم التخلف الحضاري ووقفت عجلة الازدهار والكسب وتقوقع كل تقدم.

وساد الاستعمار العثماني الذي اشتهر بضغوط كثيرة سوف نراها، وكان استعمال القسوة والسحق والنفي والتشريد ووسائل القمع الفردية والجماعية، حتى استكان الشعب للهوان.

وراح العرب يسعون إلى تأليف جمعيات سرية داخل وخارج نطاق الوطن العربي في بغداد واستنبول والقاهرة وباريس... لإنقاذ البلاد، بعد أن لجأ الأتراك إلى سياسة التتريك في كل مظاهر الحياة بأساليب قمعية وجائرة وقام كتاب وطنيون يجاهدون من خلال قصائدهم لاستثارة الحماس وإلهاب المشاعر وتقوية الحماسة والروح الوطنية.

وهكذا انصرف سعد الله في هذه الأجواء نحو الجهاد.

دراسته:

في هذه الأجواء المحيطة القاتمة التي ذكرت؛ راح سعد الله يدرس في مدرسة الرشدية الثانوية، وقد لاحظ كيف انحبست الروح الوطنية في صدور بعض المدرسين الوطنيين الذين لم يستطيعوا أن يعلنوا عن نواياهم في سبيل الجهاد ضد موجة التتريك المنتشرة في جهاز التعليم.

وكرّس جهوده في دراسته حتى استطاع أن يبرز ويتفوق ويتخرج مبكراً وبعد الدراسة الثانوية ذهب إلى الآستانة (استنبول) والتحق بالكلية الملكية السلطانية ليدرس الحقوق. وإلى جانب دراسته، كان يراقب بعين بصيرة وعن كثب، ما يدور في أجواء السياسة التركية، والتي كانت وراءها جماعات يهودية غنية متمكنة من قوتها المادية وحنكتها السياسية، والتي كانت تحلم بشراء الأراضي العربية... وراح سعد الله يتابع هذا الموضوع، وهو مقهور الشعور، وعلم أن المستشرق الهنغاري (أرمينوس فامبيري) وكان صديقاً حميماً للسلطان عبد الحميد الثاني، هو الذي رتب لـ(تيودور هرتزل) لقاءه مع السلطان عبد الحميد سنة 1901، حيث عرض عليه فكرة شراء فلسطين وهجرة اليهود إليها، كما نصح القوميين الأتراك بضرورة التخلي عن الإسلام، لأنه ينزع عنهم شخصيتهم القومية.

وهكذا لمس سعد الله الأجواء لاسيما تلك التي خلقتها جمعية الاتحاد والترقي منذ عام 1908، والتي كان وراءها اليهود الذين عبثوا في أمن البلاد وتدخلوا في شؤونها سراً، وشكلوا جمعيات كثيرة، حتى أن اليهوديين: (نسيم روسو، ونسيم مازلياح) كانا من العناصر المؤسسة والفعالة في حركة (تركيا الفتاة) التي عرفت بأنها (حصان طروادة الماسوني)([2]).

على الرغم من القهر من السياسة (التركية اليهودية) والتي تستهدف البلاد العربية وفي مقدمتها سورية، فقد مضى في دراسته بجد ومثابرة، ولعل أقرب الأشخاص إليه هو الذي يستطيع أن يصفه بتجرد وكان هذا الشخص صديقه العراقي (توفيق السويدي) زميله الذي وصفه بموضوعية بعيدة عن كل غاية يقول: "عرفته عام 1910 وكان شاباً يلتهب حماسةً ويتدفق فطنة، كان يميل إلى الدعابة ويستلطف النكتة، ولكنه كان منصرفاً بكليته إلى الدرس والمطالعة. وشغوفاً بالأدب عامة وبالشعر خاصة، وكان ميالاً إلى التجدد في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وعلى قدر عظيم من الكياسة على الرغم من صغر سنه، كما كان طموحاً إلى العلا، فكأنه أدرك، منذ صغره، أنه مدعو لتحمل عبءٍ عظيم بعد ذلك في سبيل وطنه".

في عام 1912 وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره، اتصل بالشباب العرب وأسسوا (الجمعية الفتاة) وأقسموا اليمين للعمل على استقلال البلاد العربية، ولاسيما وهم يرون نزاع (الرجل المريض) ويرون كيف برزت أطماع دول في غزو واستلاب بلاده وأرضه الواسعة الأبعاد وكيف انكشف قناع الاستعمار وتعرى باطله.

ومضى مع رفاق الطريق، وزاد في حماسته موقف أخيه الكبير إحسان الجابري، الذي كان يحضر المؤتمر العربي في باريس عام 1913.

وبقي تحرير البلاد العربية هو الأمل الأول عنده، بل هو الحلم والهدف الأسمى...

عاد إلى حلب بعد تخرجه من المدرسة الملكية الشهيرة، وراح يعيش في قلب العواصف السياسية الكبرى، ولمس بمشاعره رغبة المستعمرين سواء أَكانوا أتراكاً أو فرنسيين أو بريطانيين، في السيطرة على بلاده الخيرة والغنية، أمام ضعف السلطة وتخاذل المسؤولين.

ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 1922 كان يجري التلاعب بمصير الوطن العربي، ومن جانب تركيا بشكل خاص، ولاسيما بعد توديع استنبول آخر سلطان عثماني.

وأراد سعد الله الجابري أن يشكل نواة من القوى الوطنية لمحاربة الاستعمار، فجدد اتصالاته بمن كان معه في الكلية، ومنهم شكري القوتلي وغيره من العناصر الوطنية، ولم يهرب سعد الله من واقعه، إنه فكر حر لا يتيح للمرء أن ينطوي على ذاته.

وفي هذا العمر، وقد تفتحت شخصيته ونضجت؛ وتوازنت مقوماتها وسمت، وثبتت دعائم طباعها واستقرت، نستطيع أن نرسم بوضوح أطر الكيان الخالص، الروحي والنفسي لسعد الله وانعكاس ذلك في سياسته.

صفاته الشخصية:

1ـ مظهره: كان جميلاً حسن الهيئة أنيق المظهر، يصفه بعض معارفه: أن سعد الله كان أنيقاً في الكلام واللباس. وعلى الرغم من مظهره الجاد أو (الجاف) أحياناً، فقد كانت الحيوية الفياضة تشع من حركاته، فإذا تكلّم تكلمت الحياة فيه.

2 ـ ذاته: من أبرز صفاته التي تنبع من نفس شفافة صدق وطنيته وإخلاص جهاده ورائع شجاعته، إذ لم يكن يخشى شيئاً ولم يحس بالخوف في أي موقف في حياته، لأن الخوف شعور بالموت المعنوي، ولذا لم يجد الخوف منفذاً إلى أعماله أو طريقاً إلى كلامه أو سبيلاًَ لتعامله. وكان ذا حساسية مرهفة جعلته يرى الأخطاء حوله ويحس بالالتواءات الاجتماعية ويرى الاعوجاج في كثير من المواقف، ويتجلى تذبذب الأشياء بين القيم لتضارب ما يرى وما يشعر وهنا كان القلق يتجسد في نفسه تجاه وطنه ومعاناة شعبه من ظلم المستعمرين وبطش السلاطين منهم، وهذا ناتج عن وعيه بمصير بلاده العربية.

يصفه محمد علي علوية باشا: "أما الخلق فكان مثال الرجولة في الوطنية، والتواضع وعزة النفس وعفة اليد واللسان، كان هادئاً لين الطبع، لا هدوء الكسل ولا لين الاستخذاء، بل هدوء الشفيق الرحيم ولين الوادع الكريم"([3]).

أما عفة اليد والنزاهة، فيذكر أنه قد أعاد إلى خزينة الدولة مبلغ /6/ ستة آلاف ليرة سورية زادت عن مصروف الوفد السوري الذي ترأسه إلى الإسكندرية لاجتماع وتأسيس الجامعة العربية، في الوقت الذي مرض فيه وهو على رأس عمله، فدخل مستشفى المواساة في الإسكندرية، وخرج مديناً بما يزيد عن /12/ ألف ليرة سورية، ولم يسمح لنفسه أن تمتد يده إلى المال الذي فاض عن حاجة الوفد.

إنها كبرياء النفس..... وقد قال فيه عمر أبو ريشة:

في محاريبك الوضيئة تغفو
كبرياء الآباء والأجداد

3 ـ جرأته: لم يسكت عن الحق، وهذا ما جعله جسوراً في تنفيذ خططه، ونظيفاً في رأيه ومخبره، ونظافة النفس واليد والسمعة تكسب الجرأة في كل موقف.

وكان في جميع المحافل الأجنبية مثال الرجل الجريء في صراحته، القوي في حجته، الصلب في حق وطنه وأمته: "وبجرأة سعد الله وإقدامه وصراحته وتضحيته استطعنا أن نسترد الاستقلال من غاصبيه، وتمكنا من السير بالقضية العربية، خطوات إلى الأمام"([4]).

وتلك الجرأة أودت بسعد الله إلى المنفى والسجن، كما حصل في محاكمة الزعيم هنانو، تلك الجرأة كلفته غالياً عندما نفي في سبيل عقيدته، وفي سبيل إيمانه بضرورة تحرير البلاد من كل ضغط أجنبي ونير استعماري.

والواقع... كان سعد الله يعيش بصدق في مركز الحوادث السياسية، حيث تلعب فيه مشاعره وتتفاعل، وترفعه من مستوى الحياة اليومية إلى مستوى من المعاناة الجماهيرية الصعبة لتنسكب في سلوك مقدام جريء لا يهاب شيئاً.

4 ـ تفكيره: إنه صاحب عقيدة، ثابت الرأي، واثق الخطوة. يقول فيه الشاعر خير الدين الزركلي:

عرفت فيه القوي الإيمان يوم تغلبت الشكوك

والثابت على العهد يوم زلّت الأقدام

والصريح الصادع بالحق يوم عقدت الألسنة

نعم كان صريحاً جداً حتى قال فيه مصطفى النحاس:

"ولعل أبرز ما في صفات الجابري، أنه صريح إلى أبعد حدود الصراحة، صراحة مقترنة بصلابة وممتزجة ببسمة خلابة لا تفارقه في أحلك الساعات وأشد الأزمات، تجذب إليه رائيه لأول نظرة، وتحبب فيه من يحدثه أول مرة"([5]).

كان سعد الله شديد الميل إلى الحياة (الجادة) ولذلك كان قليل المجاملة، قوي الإرادة ثاقب الفكر شديد الإخلاص لرأيه وموقفه بين الناس.

يصفه بعض إخوانه: إنه محدث من الطراز الأول، وسريع الانتقال وذكي الفؤاد وحاد الذهن. ووصفه أحد أصدقائه: "كان يجمع إلى علو كعبه في ثقافة عصره تمسكه بثقافة دينية مؤدياً للفرض والنفل في طاعة ربه، فكان بذلك حجة قارعة على من أسرهم التقليد الأعمى بزخارف المدينة"([6]).

والخلاصة، إن نفسه مليئة بالصفاء والروعة. ولا يمكن إدراكها بمجرد التفكير، فإنه مرهف ولا يدركه إلا الحكيم.

5 ـ صفاته الاجتماعية: تتجلى الصفات الاجتماعية عادة بمعنى التعامل مع الناس ولعل أول ما لمسه الشعب عند سعد الله هو التواضع الحقيقي الذي صبغ أعماقه النفسية، وارتبط بسلوكه الأخلاقي الذي ينقّي الحياة كلّها. ورغم أن بعضهم يصفه بالتعجرف والكبر، فهذا الكلام مرفوض أصلاً، ولأنه في الواقع يميل إلى (الجد) في أكثر تصرفاته، فقد ظنّ الناس أنه يتصف بالفوقية والتعالي.

ويصفه السيد مصطفى النحاس([7]) بقوله: "أنست بصداقته، وسُعدت بأخوّته، فأعجبت بخلقه الجذاب وروحه الوثاب، ونفسه الصافية وقلبه الكبير".

وكانت معاملاته الاجتماعية تتجلى بالسمو والصدق مع كل الأفراد، أي أنه كان يحقق جوهر إنسانيته، ويتضاعف عطاؤه لكل من يطلب مساعدته.

كان يعطي حتى لو كان في ضيق، كما كان يوزع راتبه الذي يتقاضاه عندما كان وزيراً للداخلية، على مستخدمي أوتيل (أوريان بالاس).

يروى عن سعد الله أنه كان راكباً سيارته، ماراً فوق جسر فيكتوريا، فرأى السيد (س) يمشي مطرقاً مفكراً، فطلب من السائق أن يقف وينادي السيد (س) ليجلس قربه. سأله ما بك يا سيد (س)؟ أراك على غير عادتك. فقال (س): علي أن أدفع مبلغ /5000/ل.س قبيل الساعة /12/ ظهراً وإلا فالموقف صعب جداً. فما كان من سعد الله إلا أن قال لـه: تعال إلى الأوتيل قبيل الساعة /12/ على أن تسعى الآن لتجمع ما تستطيع... وقبيل الوقت المحدد جاء السيد (س) ومعه /1500/ل.س فقط، فأعطاه سعد الله مبلغ /5000/ وقال: أعطني ما عندك: وذلك ليشعره بجدوى سعيه وعدم الاعتماد الكلي على غيره. أخذ (س) المبلغ وهرول إلى حيث يدعوه الموعد.

كان ـ رجل الساعة ـ لمواطنيه... وصديق الساعة لكل من حظوا بأن يكونوا لأول مرة من عارفيه.

وإذا كانت الصداقة تقاس بمقياس الزمن عادة، فإن سعد الله كان يهب صداقته لأي امرئ يقابله وهباً مخلصاً لدرجة أنه يبعث في نفسه شعوراً بالود والمحبة يلازمه طوال حياته.

كان يصمت أحياناً مع محدثيه... ولكن الحياة كانت تنفرج من بين بسماته أو عمق نظراته، وإذا ما ضحك فملء فؤاده، حتى يبعث المرح والطهر بين خلانه.

وصديق عراقي كريم من أصدقائه يصفه ويقول: "كان سعد الله الجابري مجموعة فخمة من السجايا والفضائل، ينافس بعضها بعضاً فإذا نشدته كإنسان وجدت بين ضلوعه من نزعات الكرم والنبل والأريحية والتسامح والرحمة وطيب العنصر ما يشبه أوصاف الأولياء، وإذا بلوته رجل دولة لقيت الشجاعة والمروءة وبعد النظر والصلابة في موقفه، والحنكة وسعة الإطلاع، مما جعله في مصاف كبار الرجال في أمتنا العربية، بل في عصرنا الحاضر، وإذا نشدته قومياً عربياً لقيته من هؤلاء الذين أنشؤوا القومية وراضوها، فقد كانت جنيناً في حلم الدهر، يحذق فهمها، ويتعصب لها ويغالي بولائها ويقامر في سبيلها، ففي بلاد الشام والأردن وفلسطين والعراق ومصر والحجاز وغيرها من بلاد العرب، في كل هاتيك البلاد، لم تخل زاوية من آثاره في خدمة القضية الكبرى".

تلك الأوصاف جليلة القيمة ندر وجودها آنذاك في العصر الذي عاش فيه وذلك لكثرة الضغط الذي كان يقهر أشد النفوس، ولهول المعاناة التي ضيقت الخناق على أصحابها، والقهر والإذلال اللذين يسيطران على المناخ الفكري والنفسي في ظل الاستعمار.

وفي الواقع إن المعاناة قد خلقت سعد الله الجابري خلقاً جديداً، ونفخت في روحه، مما جعله مارداً في وجه الفرنسيين.

ويصفه رشيد الحاج إبراهيم، رئيس اللجنة القومية في حيفا سنة 1948 ويقول: "وكما تصمد قمة جبل الشيخ للعواصف والزوابع والرياح والثلوج، فلا تزيدها الزعازع إلا ثلجاً ونقاء، كذلك كانت الخطوب، ما كانت لتستطيع زعزعة قدم سعد الله عن كل ما كان يؤمن به، فينصرف إلى تنفيذه، بالقوة والإيمان والصمود والإقدام".

([1]) حلب الحلم، انترانيك زاروكيان.

([2]) صالح زهر الدين ـ اليهود في تركيا. ص22.

([3]) محمد علي علوية باشا ـ في كلمته التأبينية.

([4]) نجيب الراوي، وزير العدل العراقي، في كلمته التأبينية.

([5]) مصطفى النحاس عن كتاب أحمد الجندي. ذكرى سعد الله الجابري.

([6]) الأستاذ الشيخ أحمد رضا في كلمته التأبينية.

([7]) رئيس حزب الوفد المصري، في كلمته التأبينية.

([8]) من كلمة حكومة العراق في تأبينه.

__________________________________________________ _______________


أخلاق السياسة

جهاد....‏

ونضال ....‏

لو أن الإنسان يتقيد بالأفكار (الحق) لبزغ فجر الخلاص على الأرض....‏

ولكن...! هل للسياسة أخلاق؟ ألم يحسم التاريخ هذا السؤال؟ ألم يكشف التاريخ على أن الأخلاق في السياسة هي (المصلحة)؟ ألم يقل لنا (ميكافيلي) إن الكذب والمخاتلة والدس والدهاء والاحتيال كلها فضائل في ميدان السياسة من أجل المصلحة؟‏

نعم... إن كل سنبلة في تاريخ السياسة عليها طلّ من دهاء... أفلم يكن شراء الضمائر والجرائد أهدافاً مبررة تباح للحاكم المستعمر ولماذا؟ في سبيل سحق الشعب... إذن ما جدوى أن تطلع شمس ولا حرية يملكها هذا الشعب؟‏

وتترنح حضارة الأخلاق... ويصبح الوصول إلى (عدم إنسانية) في سياسة الناس مسألة زمن فحسب... وهنا قد تتلامس أبعاد الأشياء فلا يبقى من شيء...‏

ويلخص لنا تاريخ البشرية أن الصفة المسيطرة على حياة الشعوب، هي عدم مراعاة حقوق الإنسان، بل طمسها في بعض الأحيان، وفي قرن العلم والنور ازدادت ضمائر الدول الكبرى إفلاساً وتقهقراً، وازدادت تصرفاتهم سحقاً وتجبراً، وبذلك ابتُلعت الحقوق، ولم تبق مسألة نوالها سهل، بل أصبح من أصعب القضايا استرداد الحق سلوكاً وحواراً وجهاداً.‏

وراح سعد الله، أمام تلك الجدران السياسية الصماء، راح يجاهد منذ أن كان على مقاعد الدراسة، وفي رؤاه المستقبلية المستشفّة. كان يرى أن أي شيء ذا قيمة وكرامة إنسانية لن يتحقق إلا بالنضال والتضحية بالنفس فأقسم بينه وبين نفسه ألا يسكت عن الحق، لأن الحقوق الإنسانية هي ضرورات فطرية للإنسان، من حيث هو إنسان.‏

لن يسكت عن الحق، وإلا فسوف يولد في الصمت انفجار...‏

__________________________________________________ _______________



- يتبع -