على هامش الفيتو الروسي الصيني، دعونا نتذكر لنبني، وندقق فنعي، لا نتجاهل فنهدم، ونعمم فلا نسلم.. الحلقة الأولى
الحلقة الأولى
سألت نفسي سؤالا غريبا مفاده:
ما الذي تعاديه أميركا في سوريا حتى تتآمر عليها هي وعملاؤها المنتشرون في الإقليم، هل هو مساندتها لإيران، أم هو معاداتها لإسرائيل، أم أن الأمرين لا ينفصلان أحدهما عن الآخر، بحيث أن مساندةَ سوريا لإيران تقتضي معاداتِها لإسرائيل، وأن معاداتِها لهذه الأخيرة، تقتضي مساندتَها لإيران، وبالتالي فمعاداة أميركا لسوريا هي بسبب الأمرين معا حتما وبالضرورة؟!
جرَّني هذا السؤال إلى سؤال آخر تالٍ له، مفادُه:
إذا كانت مساندة سوريا لإيران هي سبب معاداة أميركا لها، فإيران الراهنة، هي "إيران الثورة الإسلامية"، وهذه لم يكن لها وجود قبل بدء عقد الثمانينيات، وبالتالي فهذا الجانب من معاداة أميركا لسوريا إن كان حقيقيا، فهو جانب لا يفسر معاداة أميركا لها قبل ظهور "الجمهورية الإسلامية". وبالتالي فهل أن معاداة أميركا لسوريا تأسست أصلا على معاداتها لإسرائيل، وهي المعاداة القائمة قبل ظهور إيران الإسلامية المعاصرة، لتتواصلَ هذه المعاداة بسبب مساندة سوريا لإيران من منطلق معاداة هذه الأخيرة لإسرائيل؟!
الأغرب في المسألة كلِّها، هو أنني وجدت نفسي بعد هذا السؤال مدفوعا إلى سؤال آخر مفاده:
هل هناك دليل فعلي وملموس على أن سوريا خلال الفترة التي سبقت ظهور "الجمهورية الإسلامية" في إيران، كانت معادية لإسرائيل على نحوٍ يبرر معادةً أميركية لها على النحو الذي يقول به الكثيرون. ومن ثمَّ إن كانت سوريا معادية فعلا لإسرائيل، فما هي أوجه هذه المعاداة، وكيف تجلَّت وتجسَّدت؟!
دعونا أولا وقبل كل شيءٍ نُثَبِّت أهم المحطات التي مرت بها السياسة السورية منذ استلم "آل الأسد" السلطة في سوريا، فيما يتعلق بإسرائيل وبالمواجهات ضدَّها، كي نؤسِّسَ بناءً على هذه المحطات لمضمون المعاداة السورية لإسرائيل، ومن ثمَّ لمضمون المعاداة الأميركية لسوريا..
المحطة الأولى.. في عام 1970 حصل الانقلاب التاريخي الذي قاده "حافظ الأسد" وزير الدفاع في حكومة "نور الدين الأتاسي"، والذي عُرف فيما بعد بالحركة التصحيحية..
ونشير هنا للاستئناس إلى واقعةِ أن اتفافا كان قد عُقِد بين قادة المقاومة في الأردن وحكومة "نور الدين الأتاسي" في سوريا، يقضي بالتدخل العسكري لحماية المقاومة من النظام إذا أصبح مصيرُها في خطر.. إلا أن الانقلاب الذي حصل في ذلك التوقيت الحرج، حال دون هذا التدخل، فحصل للمقاومة ما حصل بعد أيلول في كل من عجلون وجرش، حيث تمت تصفيتها تماما..
ولا يمكن لعاقل أن يمر على الانقلاب "الأسدي" مرورَ الكرام، مادام المنقلبون لم يلتزموا بوعد حكومة "الأتاسي" لقادة المقاومة، وتركوها تواجه مصيرها المحتوم، وكأن المنقلبون ما انقلبوا إلا للحيلولة دون تنفيذ النظام الذي انقلبوا عليه لهذا الوعد..
وهذه في تصورنا أول مؤامرة على ثورةٍ تقاوم إسرائيل من قبل نظام "آل الأسد".. ثورة كانت في حينها تمثل ظاهرة غبر مسبوقة في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني..
ونحن هنا نناقش الموضوع من هذه الزاوية فقط، وليس من زاوية واقع وهوية وأخطاء وممارسات المقاومة على الساحة الأردنية من حيث المبدأ، فهذا موضوع آخر مختلف، ليس هذا مكان مناقشته..
المحطة الثانية.. في عام 1976 حصل التدخل السوري في لبنان تحت غطاء الموافقة العربية لإعادة التوازن إلى لبنان الذي أصبح تحت سيطرة التحالف بين فصائل المقاومة الفلسطينية وفصائل القوى الوطنية اللبنانية المناهضة للصهيونية وللاستعمار ولتوظيف لبنان في الاتجاه المعادي لقضايا الأمة العربية.. وارتكبت القوات السورية المجزرة التاريخية المعروفة في مخيم "تل الزعتر" الذي كان معقلا يُعَبِّر تدميرُه عن كسرِ شوكةِ الرفض الفلسطيني اللبناني للتدخل السوري..
وبالفعل فقد عاد التوازن إلى البُنية السياسية والعسكرية في لبنان، بأن تم إنقاذ القوى المناهضة للمقاومة والمساندة للحلول التصفوية، والمعروفة بعلاقاتها مع إسرائيل وعلى رأسها "حزب الكتائب" وميليشياته المعروفة بـ "القوات"..
أي أن التدخل السوري في لبنان في ذلك التاريخ، كان يُعبِّر عن دورٍ على الأرض، يتعارض مع أيِّ مبدإ من مبادئ مقاومة إسرائيل، مادام قد صب في خانة تحجيم وحصار من قاوموها، وإعادة الحياة إلى من ساندوها وحالفوها..
وهنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى التَّذكير بانقلاب عام 1970 من جديد، متسائلين بمنتهى البراءة:
"أليسَ من المحتمل أن يكون الانقلاب "الأسدي" الذي أسقط نظاما وطنيا في ذلك العام، كي لا يحمي المقاومة في الأردن من مصيرها المحتوم هناك، انقلابا بدأ يُعِدُّ العُدَّة لاحتواء الساحة اللبنانية من التداعيات التي ستشهدها بعد انتقال المقاومة إليها من الأردن عقب أحداث أيلول عام 1970، وهو الانتقال الذي بدأت بنتظيم أعمال المقاومة في ضوء حيثياته ومنذ وقت مبكرٍ اتفاقية القاهرة المعقودة عام 1968"؟!
المحطة الثالثة.. جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، في ظل التوازن النسبي الذي حققته القوات السورية في لبنان منذ تدخلها بغطاء عربي عام 1976، وبعد تحييد مصر وتكبيلها باتفاقيات "كامب ديفيد" عام 1979.. إسرائيل أنجزت مهمتها وأخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد أن حاصرت بيروت واحتلت الجنوب اللباني كاملا، وكانت قد احتلت شريطا منه في وقت سابق، دون أن تفعل القوات السورية شئيا لمنع ذلك، أو لمساندة القوى المقاومة المدافعة عن لبنان.. إلخ، لا في المرة الأولى، ولا في هذه المرة الأكثر تدميرا وإهلاكا وتغييرا للمسارات السياسية في الإقليم..
وهنا نتساءل:
هل يمكن أن نَتَفَّهَم أو أن يتفهم أيُّ وطني متوازن وعاقل ومحايد وموضوعي، تدخلَ سوريا في لبنان لحماية القوى الرجعية المتحالفة مع الصهيونية فيه من أن تبتلعَها القوى التقدمية المقاومة والثائرة عام 1976، ووقوفَها موقف المتفرج وإسرائيل المحتلة لأرضه والمحاصرة لعاصمته، والمدمرة تدميرا ممنهجا لكل مخيمات اللاجئين ومعاقل اللمقاومة فيه، تعمل عام 1982 على قلب كل المعادلات والتوازنات لصالح تلك القوى المتحالفة معها؟!
ونتساءل أيضا:
هل يعقل أن إسرائيل التي لم تتجرأ على اجتياح لبنان إلا بعد أن ضمنت الحياد الحقيقي لمصر، رغم أن دور مصر في دعم المقاومة في لبنان حتى لو حصل، ما كان سيكون ذا مردود شبيه بذلك الذي كان يمكن لسوريا أن تقدمه إن قدمته، لأكثر من سبب ليس بأقلها أهمية، التواجد السوري المباشر على الساحة اللبنانية بكثافة عسكرية وبقوات وأسلحة تشكل ترسانة حقيقية.. نقول.. هل يعقل لإسرائيل التي تدرك ذلك قطعا، أن تجتاج لبنان لو لم تكن موقنةً أن اجتياحها لن يستفز سوريا ولن يدفعها إلى التدخل لحماية المقاومة وللدفاع عن لبنان؟! وهو ما حصل فعلا..
ونتساءل أيضا:
هل من الصعب علينا التأكيد على أن موقف الجيش السوري في لبنان عام 1982، حقق الأهداف السياسية نفسها التي حققها تدخله عام 1976، والتي كان قد حققها النظام نفسه في الأردن بانقلاب عام 1970، بلا أدنى اختلاف في جوهر تلك الأهداف؟!
ورغم أنوفنا نتساءل قبل الانتقال إلى المحطة التالية:
لماذا يدعم النظام السوري حركة مقاومة لبنانية مثل "حزب الله"، بل ويسعى إلى إنشائها ودعمها منذ البدايات، بينما هو كان يواجه بشكل دموي لا يرحم ولا يلين، حركة مقاومةٍ أكثر أهمية وعالمية وقوة وتعبيرا عما يمكنه أن يكون طموحا قوميا يتناسب مع العباءة القومية العروبية التي يطرحها هذا النظام نفسه، مثل "المقاومة الفلسطينية"؟!
المحطة الرابعة.. النظام السوري، يدعم في عام 1983 أكبر وأوسع عملية انشقاق في حركة فتح، كبرى فصائل المقاومة الفلسطينية، في أوقات حرجة كانت فيها المقاومة أحوج ما تكون إلى من يلملم جراحَها ويساعدها على امتصاص صدمة الشتات الجديد، لا بل قد أعقب النظام السوري مساندته لذلك الانشقاق الذي ما كان ليحدث لولا دفعه باتجاهه قطعا، بمساندته الكاملة لاقتتالٍ فلسطيني داخلي أدى إلى فقدان المقاومة لآخر معاقلها في مخيمي "البداوي" و"نهر البارد"، برعايةٍ كاملة منه للفصائل التي كانت تتبنى مواقفه وسياساته في هذا الاقتتال الذي ذهب ضحيته المئات من أبناء المخيمات..
مع تأكيدنا على أن هذا الاقتتال ما كان ليحدث لولا دفع النظام السوري باتجاهه لتتحقق من خلاله الأهداف التي أرادها فتحققت..
لا أحد يستطيع تصديق أن الجيش السوري ومن ورائه النظام نفسه كانا محايدين في صراع داخلي ما كان ليتم بدون الموافقة والرعاية، بل والدفع السوري باتجاهه!!
وهكذا تفقد المقاومة مجددا آخر المعاقل اللبنانية عام 1983، بالطريقة نفسها التي فقدت بها آخر المعاقل الأردنية في جرش وعجلون عام 1971..
المحطة الخامسة.. النظام السوري، ومنذ ظهرت بوادر خلوِّ الساحة اللبنانية من المقاومة الفلسطينية، وفصائل القوى الوطنية اللبنانية المتحالفة معها، وبعد سلسلة من الاغتيالات طالت الرموز الوطنية اللبنانية، بدءا بمعروف سعد "الحزب الناصري"، ومرورا بالزعيم الكبير "كمال جنبلاط"، رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وليس انتهاء بـالزعيم الشيوعي "جورج حاوي"، وبعد أن أصبحت هناك قوة إقليمية جديدة هي "الجمهورية الإسلامية" في إيران، التي بدا أنها متحالفة مع سوريا منذ اللحظة الأولى، حتى ضد الشق البعثي الآخر في بغداد، في مفارقة غير مفهومة إلا للسياسيين السَّحَرة..
نقول.. بعد كل ذلك، ظهر "حزب الله" بصفته حركة مقاومة لبنانية إسلامية على ولاء تام لإيران، وتطرح برنامجا معاديا لإسرائيل يتضمن رؤية واضحة لتحرير الأرض اللبنانية المحتلة من قبل إسرائيل، ليحظى بكل الدعم من سوريا التي بحكم وضعها الجيوسياسي بالنسبة للدولة اللبنانية، كانت أقدر من إيران على خلق حالة التماس النضالي معه بشكل مباشر..
واستمر حزب الله منذ ظهوره في تلك المرحلة الانتقالية الحرجة التي تم استبدال المعادلة الوطنية المقاومة في لبنان به تحديدا، باعتباره معادلة مقاومة جديدة وإن كانت مختلفة الأهداف والإستراتيجيات، هو "بيضة الكشك" بالنسبة لسوريا، وهو الورقة الرابحة لها ولإيران معا في أي مواجهات يخوضانها، وفي أيِّ سياساتٍ تريدان تمريرها في الإقليم..
وإننا استهلالا منا لعرض تحليلنا الخاص لتلك الصيرورة بعد العرض السابق، نُثَبِّت المبادئَ التالية..
1 – نتجاوز بعد حقبة ظهور الجمهورية الإسلامية ولغايات النقاش في لب الموضوع الذي نحن بصدده، كافة المواقف التي اتخذها النظام السوري ضد العراق، سواء في صراع هذا الأخير مع إيران، أو في صراعه مع التحالف الغربي عقب احتلاله للكويت.. إلخ.
2 – إن كافة الذين يعتبرون النظام السوري نظاما ممانعا، يأخذون في الاعتبار جانبا من سياساته بعد دخول الجمهورية الإسلامية وحزب الله على خط سياساته عقب خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان وانهيار القوى الوطنية اللبنانية بفعل سياسات النظام السوري، ولا يستطيعون أخذ مرحلة ما قبل عام 1982 بعين الاعتبار للتدليل على تلك الممانعة بأيِّ حال، فسجل هذا النظام في ممانعة الممانعة حافل بما لا يحتمل التأويل.
3 – ومن هنا فإننا نتساءل عن السِّر الحقيقي الكامن وراء استبدال مقاومةٍ بأخرى، ووراء الدعم المطلق لحزب الله كنموذج للمقاومة، ومعاداة المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية كنموذج آخر للمقاومة أكثر تجذرا وأصالة وآفاقا من حزب الله بكل المعايير؟!
فإذا كانت القضية قضية دعم مقاومة تواجه إسرائيل كما هو حال دعم النظام السوري لحزب الله، فإن المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية هي أيضا كانت تقاوم إسرائيل، فلماذا تعادَى وتحارب، ولماذا يتم دخول الجيش السوري إلى لبنان بغرض تحجيمها، ولماذا يتم السكوت على محاولات إسرائيل لطردها من لبنان وعلى تمزيق لبنان بغيابها؟!
هل أن مقاومة حزب الله لإسرائيل أكثر جدوى وفعالية وإخلاصا وشمولا ونقاء من مقاومة هؤلاء، أم أن هناك سرا آخر هو وحده القادر على تفسير الأمر؟!
هذا ما دفعتنا إلى التفكير فيه تلك المحطات التي نعتبرها أخطر ما في السيرة الذاتية للنظام السوري من مثالب تدفع إلى الوقوف مطولا عند مقولة أنه نظام ممانع، وأن التآمر عليه إنما هو بسبب ممانعته، بمعنى معادته التاريخية لإسرائيل ودعمه المطلق لمقاومتها..
وهذا ما سنحاول فهمه في ما تبقى لنا من سطور في هذا التحليل..
لن ننطلق من التشكيك في دواعي انقلاب عام 1970، وفي قومية وعروبية ووطنية من نفذوه وقادوه حتى الآن، بل سنحرص على ألا نستنتج من تتابع الأحداث إلا استنتاجات منطقية ومحايدة، ونترك للقارئ والمتابع أن يبنى السيناريوهات التي يراها تتناسب مع الحدث من جهة، ومع دلالاته من جهة أخرى.
فقد جاء ذلك الانقلاب إلى قمة هرم السلطة في سوريا بفئةٍ من حزب البعث الحاكم آنذاك، قادها "آل الأسد" وأقرباؤهم ومقربوهم، أدخلَت أجندةَ النظام في سوريا إلى برنامج قومي عروبي مختَزَل ومُوَجَّه، لا يتناسب مع الفضاءات القومية والعروبية والوطنية التي جسَّدتها الحقبة الناصرية، التي كان من مفارقات القدر أن يحدث ذلك التوافق التزامني والتوقيتي العجيب بين غياب رمزها – أي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر – وبين ظهور رمز الانقلاب الذي ورثها في سوريا، أي الزعيم الجديد "حافظ الأسد". فالمدة الزمنية التي فصلت بين وفاة الأول وتولي الثاني رئاسة الدولة السورية من خلال الانقلاب لا تزيد عن أسابيع قليلة.
ولقد عبَّرت عن اختزال البرنامج القومي العروبي الناصري وتوجيه فضاءاته نحو أضيقها، سياساتُ النظام السوري منذ عام 1970 وحتى الآن.. ولكن ما الذي نقصده بالاختزال والتوجيه؟!
إن الرؤية القومية للنظام السوري البعثي بقيادة "آل الأسد"، قامت في جانب مواجهة الصهيونية بعد حرب أكتوبر عام 1973 على ست ركائز أساسية، مثلت مجتمعةً "أيديولوجية البعث الأسدي" في هذا الصدد، وهذه الركائز الست هي..
1 – لا مواجهة عسكرية مع إسرائيل قبل إحداث التوازن الإستراتيجي معها من الناحية العسكرية..
2 - ومع ذلك فالمواجهة مع إسرائيل ليست حتمية، وقد يتم حل الصراع معها بوسائل غير عسكرية..
3 – خلال مرحلة انعدام التوازن الإستراتيجي، لا مواجهات مباشرة مع إسرائيل من أيِّ نوع، والاكتفاء بسياسة الحرب والقتال بالوكالة، لا بهدف التحرير بل بهدف تلجيم الأطماع الإسرائيلية وتمرير المواقف الإقليمية..
4 – لا مكان في مواجهة إسرائيل، لأيِّ أجندة مقاومة لا تتحرك ضمن الخطة السورية، وترفض أن تكون جزءا لا يتجزأ منها..
5 – رفض الحل المنفرد مع إسرائيل، لأن من سياسة هذه الأخيرة الانفراد بأطراف الصراع العربية، للحصول من كل واحد منفردا على مكتسبات أكبر وأوسع من تلك المقدور على تحصيلها من العرب لو كانوا مجتمعين..
6 – حل الصراع في نهاية المطاف تحسمه الأنظمة العربية القومية، إما بالحرب النظامية إذا كان الحل عسكريا، وإما بالتفاوض الجماعي إذا كان الحل غير عسكري، ولن يكون حله شعبيا تخوضه الجماهير بكفاحها المسلح..
بسبب الركيزة الأولى، لم تخض سوريا منذ حرب أكتوبر وحتى الآن أيَّ حرب، ولم تصطدم أيَّ صدام، ولا هي دافعت عن نفسها ضد أيَّ هجوم، أو واجهت أيَّ اعتداءٍ إسرائيلي من أي نوع، بما في ذلك الاعتداءات التي كانت تتعرض له قواعدها العسكرية والصاروخية في لبنان، بل ومنشآتها العسكرية داخل سوريا ذاتها..
وبسبب الركيزة الثانية، وافقت سوريا على مرجعية مؤتمر مدريد، وشاركت في فعالياته وجلساته، وما تزال مستعدة لقبول حل الصراع مع إسرائيل في ضوء مبادئه وقواعده، حتى وهي تعلم أنها قائمة على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وكل الأطراف العربية المشاركة فيه..
وبسبب الركيزة الثالثة، أبقى النظام السوري على جبهة الجولان مغلقة في وجه كل أشكال المقاومة الممكنة والمحتملة، ولا هو سمح بإطلاق رصاصة واحدة من سوريا تجاهَ إسرائيل على مدى أكثر من أربعين سنة، هي مدة حكم "آل الأسد"، وخاض النظام ما يريده من مناوشات و"طوشٍ" ضد إسرائيل عبر المقاومة الإسلامية اللبنانية ممثلة في "حزب الله"..
وبسبب الركيزة الرابعة، واجه النظام السوري بكل ما أوتي من قوة، "فصائل المقاومة الفلسطينية" و"القوى الوطنية اللبنانية"، ومنعها من التعبير عن نفسها ثوريا ووطنيا، ومن تجسيد مشروعها للمقاومة والتحرير، وتسبَّب في طرد الأولى وتشتيتها، وفي تمزيق الثانية وإضعافها، مع أنها كانت من الناحية العملية أكثر تعبيرا عن تَقَمُّص المشروع القومي العروبي من حزب الله، وأكثر قدرة على التمدد العالمي باتجاه مناجزة الإمبريالية والصهيونية من حزب الله الذي يمثل حالة مقاومة منكمشة قطريا بلبنانيتها التي جسَّدها وعبَّر عنها باستمرار في كل المناسبات..
وبسبب الركيزة الخامسة، رفض اتفاقيات كامب ديفيد، وعادى الرئيس السادات في توجهه للصلح المنفرد مع إسرائيل، ومحاولته فرض منهج تفاوضي على العرب بدون مشاروتهم أو التنسيق معهم، فيما قَبِلَ الذهاب إلى مدريد بصفته مرجعية جماعية بالنسبة للطرف العربي..
وبسبب الركيزة السادسة، لم يسمح النظام السوري بالتعامل مع حركات المقاومة أيا كانت، وعلى رأسها "حزب الله" الأكثر التصاقا بالأجندة السورية، خارج هذا الاعتبار التَّبَعي، الذي ليس من حقه أن يفكر أو يخطط خارج فضاءات أجندة النظام السوري، ولا من حقه أن يتصور أيَّ أفق للشعوب قابل للتحقق والتجسُّد، حتى وهي تبدعُ ثوراتها، خارج نطاق الحاضنة السورية النظامية..
عندما نكون بصدد نظام سوري وقف ضد مقاومةٍ وحاربها وناجزها بكل ما أوتي من قوة في لبنان ومنها، فيما دعمَ مقاومةً أخرى وساندها ونماَّها وقواَّها في الساحة اللبنانية نفسِها، فمن الحماقة والرعونة أن نتجاوز هذا التناقض الظاهر بين الموقفين، بذلك القدر من التسطيح الذي يريد أن يفرض علينا أن النظام السوري ممانع فقط لأنه يدعم "حزب الله"، دون الولوج في أعماق التباين القائم بين المقاومتين شكلا ومضمونا، لنتعرف على الأسباب التي جعلت ذلك النظام يقف ضد ذاك بالأمس، ومع هذا اليوم..
إن من يريد أن يفرض علينا أيديولوجيةَ أن النظام البعثي السوري "الأسدي"، نظامٌ ممانعٌ لأنه يدعم المقاومة ممثلة في "حزب الله" في لبنان وممثلةً في "حماس" في فلسطين، فإنه سيقف عاجزا عن إثبات هذه الممانعة من هذا الوجه، عندما نواجهه بتاريخِ موقفه من المقاومة الفلسطينية واللبنانية قبل حزب الله وقبل حماس!!
كما أن من يريد أن يفرض علينا أيديولوجية أن هذا النظامَ ممانعٌ، لأنه النظام العربي الوحيد من أنظمة الطوق الذي رفض حتى الآن توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، حاميا حتى لبنان من الوقوع في هذا المستنقع الآسن، فإنه سيكون تسطيحيا إلى أبعد الحدود، إذا ساق لنا هذه الواقعة في معرض الحديث عن بطولات النظام السوري الأسدي وعن مواقفه المبدئية، دون أن يذكر لنا معها أن سوريا "البعثية الأسدية"، التي عجزت عن أن تقود العرب إلى حرب 1973 كما فعلت "مصر الساداتية" التي أثبتت أنها السباقة، ما كانت لتقبل بأن تكون تابعة لمصر السادات في الحرب وتابعة لها في السلام أيضا..
فإذا كانت كاريزما عبد الناصر من جهة أولى، والظروف الموضوعية التي تجسَّدت حياته السياسية من خلالها من جهة ثانية، أكبر من أن تتيح لأحدٍ منازعته على الريادة حربا وسلاما، فإن السادات يختلف.. وبالتالي فمصر السادات تختلف عن مصر عبد الناصر، ولقد كانت الحقبة الساداتية فرصة للضباع كي تتنازع على ريادة الغابة في ظل غياب الأسد الملك..
لقد كانت سوريا "الأسدية" تريد أن تفرض على العرب أن يسيروا إلى سلام مع إسرائيل تكون هي رائدته، وليس مصر السادات التي كانت رائدةً في خوض الحرب.. ولهذا السبب كانت ضد التسوية الساداتية، وتهافتت على التسوية المدريدية، لأن الأولى جاءت ولسان حالها يقول: السادات بطل الحرب والسلام معا، وهو ما لا تحتمله الأيديولوجية السورية الأسدية التي ناضلت كي ترث التركة الناصرية.. بينما جاءت الثانية ولسان حالها يقول: صحيح أن الحرب بدون مصر ما كانت لتُخاض، لكن السلام بدون سوريا ما كان ليبدأ..
فتحققت لها معادلة الريادة في الحل السلمي الذي لن يتم عربيا على صعيد المجموع بدونها، بعد أن فقدت الريادة في الحرب التي لم تخطط لها، ولا كانت ستخوضها أصلا..
والخلاصة، أن إتحافَنا بجعجعةٍ لا يتجاوز طَحْنُها القولَ بأن ممانعة سوريا تتجلى في الامتناع عن توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل حتى الآن خلافا لكل انبطاحيي العرب، دون أخذ حيثيات التحليل السابق في الاعتبار، هو قول لا قيمة له، ولا هو يؤسِسُ لفكرة متماسكة، لأنه يفصل الأحداث عن سياقاتها الموضوعية، فلا يمكنها من ثمَّ – أي تلك الأحداث – أن تُفْهَمَ فهما صحيحا يؤصِّل لأيديولوجية حرب أو سلام من حيث المبدأ.. والأجدى بهؤلاء أن يصمتوا وأن يتعلموا قبل أيِّ جعجعة أبجديات الصيرورة التي حدثت وما تزال تحدث في الإقليم..
إذن فحجم التناقضات في الممارسة السياسية للنظام السوري البعثي الأسدي، أكبر وأوضح من أن ينجحَ المطبلون للنظام ولممانعته في القفز عليها لإثبات أوهامِ تلك الممانعة بشكل موضوعي ومتماسك..
وهنا نجد أنفسنا مدفوعين قسرا إلى البحث في طبيعة الاختلافات بين مقاومتين هما "حزب الله" منذ عام 1982 و"حماس" حاليا من جهة، و"فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية" قبل عام 1982 من جهة أخرى، لنضع أيدينا على السِّرِ الذي جعل النظام السوري الأسدي يدعم اليوم ما عاداه بالأمس، علَّنا نفهم سِرَّ ما يحدث في هذه الأيام في الساحة السورية وحولها إقليميا ودوليا..
بالتدقيق نستطيع أن نتبين الفروق الجوهرية التالية بين مدرستي المقاومة اللتين دعم النظام السوري إحداهما وعادى وحارب الأخرى..
1 – برنامج مقاومة "حزب الله" لبناني فقط.. بينما برنامج المقاومة الفلسطينية واللبنانية قبل عام 1982، لبناني فلسطيني قومي إنساني إلى حدِّ بعيد..
2 – برنامج مقاومة "حماس" وإن كان يشترك مع برنامج مقاومة ما قبل عام 1982 في أنه فلسطيني.. إلا أنه يختلف معها في مسألة هامة، هي أنه برنامج يفتقد إلى أيِّ عمق إستراتيجي يُمَكِّنُه من خلق القاعدة الآمنة التي تحرره من سطوةِ الغول السوري الأسدي وأجنداته الاحتوائية التحكميَّة، حتى بعد إثبات جدارته في مقاومة الحملة الصهيونية على قطاع غزة في شتاء عام 2008.. بينما المقاومة ما قبل عام 1982، كانت تمتاز بالتحرك فيما يشبه مشروعَ قاعدةٍ آمنة قيدَ التَّحَقُّق، ما يجعلها مقاومةً قادرة على خلف عناصر تحررها من ذلك الغول ومن أجنداته الخاصة.. وحتى رغم فشلها في تخليق هذه القاعدة بسبب الجهدين المتوازيين السوري الأسدي والإسرائيلي، فإن منبع قوتها وخطورتها بالنسبة للأجندة السورية الأسدية والصهيونية أيضا، هو سعيها لتحقيق هذا الأمر وإنجازه..
3 – برنامج مقاومة "حزب الله" برنامج تابع وليس برنامجا أصيلا.. ولا يغير من هذه الحقيقة أيُّ شيء، بما في ذلك صموده الأسطوري في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية في تموز عام 2006، بل ودحره لها إلى ما وراء الحدود اللبنانية الفلسطينية.. فهو قد نشأ تابعا في قلب أجندة النظام السوري الأسدي، وبالتالي فهو برنامج ورقة قد يكون بمثابة "جوكر" أحيانا، ولا يمكنه أن يكون برنامجا حليفا يشارك في صنع الأجندات والسياسات التي لا يريدها النظام السوري حتى داخل الساحة اللبنانية، على اعتبار أن ما يقع خارج تلك الساحة لا يقع أصلا ضمن برنامج مقاومة "حزب الله".. بينما برنامج المقاومة ما قبل 1982، هو برنامج مستقل وأصيل من حيث حرصه الدائم والدؤوب على التحرر من عباءة كل الأجندات العربية، التي لم يخضع لها ولا هو استسلم لبعضها إلا مجبرا بعد هز أركانه وخلحلة أساساته في لبنان من قبل النظام السوري نفسه..
في ظل هذه الفروق بين المقاومة التي دعمها النظام السوري وغذاها وقواها، وتلك التي حاربها وعاداها، نستطيع أن نفهمَ وجهة الممانعة التي يقف على أعتابها ذلك النظام، كي نضعَه في المربع الذي يستحقه، وكي يدرك المطبلون لممانعته المفروضة علينا مفهوما هلاميا مائعا لا يفهمونه حتى هم أنفسهم، أن أوان التوقف عن التهويش والتطبيل والتزمير قد هلَّ، وعلى الجميع أن يضع الأمور في نصابها والنقاط على حروفها..
النظام السوري الأسدي عندما دعم المقاومة "حزب الله" وعادى "مقاومة ما قبل عام 1982"، إنما عبَّر عن جوهر أجندته المتمثل في رغبته في مقاومةٍ شعبية قُطْرِيَّة لا تتجاوز حدود لبنان، كي تتيح له اللعب بها كورقة في ساحةٍ هي ساحته.. وإذا كان لابد من أن تظهر بعض جوانب "فلسطين" في المقاومة التي يدعمها، فلتكن من النوع العاجز عن تحويل هذه الفلسطينية إلى قاعدة آمنة، فكانت "حماس"..
أي أننا عندما نورد القُطْرِيَّة اللبنانية كمبرر لدعم النظام لحزب الله، فإن الرد علينا بدعم حماس لا يفي بالغرض المضاد، لأن دعم حماس هنا يُكْسِبُ النظامَ نقاطا على محور الإحداثيات الفلسطيني، دون السماح لهذا المحور بالخروج عن الأجندة الخاصة به، مادامت حماس شأنها شأن حزب الله ستبقى عاجزة عن اتخاذ القرار المقاوم الحر بعيدا عن عباءة النظام السوري..
في ظل يقينٍ إسرائيلي ومن ورائه يقين أميركي بأن حزب الله ليس أكثر من ورقة سورية محصورة في البعد اللبناني ومحررة من أيّ برامجية أقليمية أو قومية أو إنسانية، تهدد أمن إسرائيل في هذه الأبعاد، خلافا لما كان عليه حال المقاومة الفلسطينية واللبنانية قبل عام 1982، فإن حزب الله كذراع لبناني مقاوم ومسلح بغرض المقاومة، ليس بذي أهمية في ذاته من هذا الباب، مادامت مبررات الإبقاء على حزب الله أو إنهائه بصفته تلك الورقة، في يد إسرائيل عندما تقرر حل مشكلة "مزارع شبعا" كأرض لبنانية..
لا أحد يستطيع تخيُّلَ أن حزب الله قد يبقى قادرا على التماسك الأخلاقي والبنيوي والقانوني والسياسي، لو أن إسرائيل قررت أن تنسحب من مزارع شبعا.. أي إذا قررت ألا تبقي على أرضٍ لبنانية محتلة.. إن هذا الحل يربك حزب الله داخليا، فلا يعود يجد له مبررات للتواجد كقوة مسلحة خارج نطاق الجيش اللبناني النظامي، ولا يجد أمامه إلا أن يتحول إلى حزب سياسي لبناني..
وفي حال رفضه التجاوب مع متطلبات هذا الحل، فلن يكون أمامه إلا أن يعلن – كي يبرر لنفسه الإبقاء على نفسه تنظيما مسلحا ومقاتلا – أنه أعاد بناء مشروعه المقاوم على أسس قومية وإنسانية، وهذا ما يتعارض مع الأجندة السورية، وهو ما يجعل النظام السوري الأسدي يفقد القيمة الأخلاقية التاريخية لدعهم لتنظيم لبناني مقاوم..
هذا إذا افترضنا أن حزب الله قادر أصلا على تبني مشروع المقاومة الإقليمية والقومية التي ما أُعِدَّ ليتبناها أساسا!!!
... يتبع