أنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض
بقلم الباحث : عبدالوهاب محمد الجبوري
الوضع المأساوي في العراق ينطبق عليه المثل القائل (أنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض ) وحتى نفهم العلاقة بين هذا المثل والوضع في العراق ســـنتحدث بداية عن قصة المثل كما وردت في كتاب ( مجمع الأمثال ) للنيسابوري :
يروى أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه قال : إنما مثلي ومثل عثمان كمثل ثيران ثلاثة كنّ في أجمةٍ , ابيض واسود واحمر ، ومعهن أسد ، فكان لا يقدر منهن على شيء لاجتماعهن عليه ، فقال الأسد للثور الأسود والثور الأحمر : لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض فان لونه مشهور ولوني على لونكما ، فلو تركتماني آكله صفت لنا ألأجمة ، فقالا : دونك فكله ، فأكله ، ثم قال للأحمر : لوني على لونك فدعني أكل الأسود لتصفو لنا ألأجمة ، فقال : دونك فكله ، فآكله ، ثم قال للأحمر : أني آكلك لا محالة ، فقال دعني أنادي ثلاثا ، فقال : أفعل ، فنادى ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض ، ثم قال علي رضي الله عنه : ألا أني هُنتُ– ويروى انه قال وَهنتُ – يوم قُتل عثمان , يرفع بها صوته , يضربه الرجل يُرزأ بأخيه …
فهذا هو حال العراق بعد الاحتلال الذي عمل على تدميره تدميرا كاملا شمل كل نواحي الحــــــــــــــياة الفكرية و السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية وحل الجيش العراقي ، الذي كان درع الوطن والأمة ضد أعدائهما ، وتفكيك مؤسسات الأمن الوطني وتسريح الوزارات السيادية ...إلى غيرها من إجراءات التدمير والتخريب والفوضى والتأسيس لنظام طائفي قائم على المحاصصة والتمييز بين أبناء البلد الواحد وما افرز ذلك لاحقا من عمليات قتل ونهب وسلب وفساد وتهجير وانعدام الخدمات العامة للمواطنين والبطالة والتدخل الخارجي في شؤونه الداخلية ، حتى أصبح بلد الرشيد مشاعا لكل من هبّ ودبّ دون وجود من يعيد له كيانه وسيادته ويدافع عنه ، ودون أن نرى ضوءا في نهاية النفق ، وبالطبع أدت هذه الأعمال إلى إضعاف البلاد وتهميشها عربيا وإقليميا ودوليا ، وجعلها كعكة يحاول القاصي والداني اقتـطاع جزء منها ( كحق مشروع حسب رأيهم )لما حصل في هذا البلد المبتلى ، وكان من نتيجة هذه المأساة أن كثر تدخل الدول الأجنبية في شؤونه الداخلية تحت هذه الذريعة أو تلك ، ومن ابرز عمليات التدخل الأجنبي في العراق هو التدخل الإيراني والتركي والإسرائيلي ...كل هذا يحصل تحت مرأى ومسمع قوات الاحتلال الأمريكي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة دون أن يتخذوا أي فعل جدي لمنع أو وقف أو تحديد ما يحصل من معاناة للعراقيين الصابرين وثرواتهم التي راحت تنهب تحت مختلف الأساليب وطرق الاحتيال ..
وفي هذه المقالة سأضرب مثلا على التدخل الأجنبي الخطير في العراق ، فقد طالعتنا مؤخرا وسائل الإعلام حول قيام الجيش الإيراني بقصف بلدات وقرى عراقية كردية في محافظتي اربيل والسليمانية بطائرات الهيليكوبتر ( وهذه سابقة خطيرة منذ احتلال العراق عام 2003 ) وبالمدفعية ومازال القصف مستمرا حتى ساعة إعداد هذا المقال ، ، تحت حجة ضرب مواقع حزب العمال الكردستاني التركي ، واثر ذلك طالب مسئولون ومنظمات وبرلمانيون عراقيون من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات والطوائف بوقف هذا العدوان الإيراني المسلح ومطالبة المنظمات الدولية والعربية والإسلامية بالتدخل والضغط على إيران لوقف عدوانها على الأراضي العراقية وعدم تكرار ذلك مستقبلا ، وحول هذا الموضوع نوضح الأتي :
1- إن قرار حل الجيش العراقي ومؤسسات الأمن الوطني العراقية ، الذي اتخذه الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، جاء باقتراح وبموافقة ومباركة القوى السياسية الحاكمة في العراق وباعتراف بريمر نفسه حينما قال قبل مدة في وسائل الإعلام (لماذا يلومونني على قرار حل الجيش العراقي ، لقد طلب مني القادة السياسيون الأكراد والعرب حل هذا الجيش) ..
ونقول للأسف الشديد أن القوى السياسية الحاكمة في البلاد وزعمائها لم يفكروا بالمستقبل وحساباته (الجيوسياسية) تفكيرا سليما وهنا ينطبق المثل ( أنما أكِلتُ يوم أكل الثور الأبيض) ، فالمتتبع للسياسة العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية في بداية القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر يجد أن هناك قلة من الساسة العراقيين من كان يجيد ( فن القراءات الخاطئة ) وقد أثبتت الأحداث والتطورات التي مرت على العراق وأخرها ما حصل خلال وبعد الاحتلال الأمريكي أن هناك قادة سياسيين عراقيين هم الآخرين غير قادرين على إجادة (فن القراءات الخاطئة) وإننا عندما نسوق هذا الكلام لا نقصد إلا كشف الحقائق التي طمستها الأحداث الجسيمة التي يمر بها العراق الجريح وإننا بكل تأكيد نخشى على هذا البلد من حصول الأخطر والأكثر مأساوية خلال المستقبل المنظور ..
2- إن هذا القرار الذي أتخذ لأسباب معروفة، أثبتت الأحداث خطأه الإستراتيجي، حيث أصبحت حدود العراق مكشوفة أمام التدخلات الأجنبية وأنشطة وفعاليات أجهزة الأمن والمخابرات الأجنبية وكل حسب أجندتها التي تخدم مصالحها واستراتيجياتها، وحرم البلاد من قواتها المسلحة التي لو كانت موجودة ومتكاملة العدد والعدة لفكّر الآخرون أكثر من مرة قبل الإقدام على أي خطوة تمس امن وسيادة العراق ولما تجرّأت القوات الإيرانية أو التركية أو غيرهما من تكرار العدوان المسلح على العراق ولا تمكنت من التوغل شبرا واحدا داخل أراضيه دون أن تقطع اليد التي تمتد للنيل من تربة العراق الطاهرة ..
3- في ضوء تقييم القوى السياسية الوطنية والشخصيات المستقلة العراقية وتحسبها لهذا الأمر فقد تم المطالبة أكثر من مرة باستدعاء الجيش العراقي السابق المشهود له بالضبط العسكري والكفاءة والخبرة المهنية العسكرية الطويلة في الدفاع عن قضايانا الوطنية والقومية، إلا أن هذه المطالب لم تلق استجابة من أي جهة حاكمة في العراق والأسباب معروفة ولا داعي للتطرق إليها أو شرحها ..
4- مع تقديرينا العالي لإخوتنا في الجيش العراقي الجديد ، فان قواعد تأسيس هذا الجيش – الذي تأسس بعد الاحتلال - بنيت في معظمها على أسس طائفية وعرقية وجهوية، كما لم يتم تسليحه حتى الآن بالأسلحة الثقيلة المتطورة ، كالطائرات والدبابات والصواريخ والمدفعية الثقيلة وغيرها ، بما يجعله قادرا على الدفاع عن حدود العراق ضد التهديدات الخارجية ، ولم يكلف حتى ألان سوى بمهمات الأمن الداخلي وبمساعدة القوات الأمريكية المحتلة في معظم الحالات ، فكيف نطلب من هذا الجيش التدخل لحماية حدود العراق الشرقية أو الشمالية وهو غير قادر أساسا على ذلك ؟ ناهيك عن أن الظروف والعلاقات غير المستقرة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان لم تسمح ، حسب مسئولين عراقيين ، بدخول الجيش العراقي للمرابطة على الحدود الشرقية أو الشمالية في مواجهة إيران وتركيا ؟
5- إننا عندما نبهنا أكثر من مرة ، إلى موضوع إعادة تأسيس الجيش العراقي – على أسس عسكرية مهنية وقواعد الضبط العسكري المعروف بها هذا الجيش منذ 88 عاما - وليس على أسس المحاصصة والوساطة - وعودة منتسبيه السابقين وعناصر الأمن الوطني والمشهود لهم بالولاء المطلق للوطن ومن ذوي الكفاءات العسكرية والمهنية والعلمية والخبرة القتالية والعسكرية والمهنية العالية ، كنا نتوقع حدوث مثل هذا الخلل في منظومة الدفاع العسكرية العراقية تجاه المخاطر الخارجية التي تهدد أمن العراق وشعبه وثرواته وحرماته..
وإزاء ما يحصل الآن من تدخل في شؤون العراق الداخلية من قبل قوى إقليمية وعدم وجود قوة ردع عسكرية عراقية تدافع عن البلاد مما أفقدتها هيبتها وكرامتها وأهانت شعبها – تحت مسمع ومرأى قوات الاحتلال الأمريكي - فان هذا الشعب يحمل كافة القوى السياسية الحاكمة في البلاد، رئاسة وحكومة وبرلمان ، المسؤولية التاريخية الكاملة تجاه ما يحصل وسوف لن يرحم التاريخ والأجيال القادمة أولئك الذين باركوا الاحتلال وإجراءاته الجائرة والوحشية بحق الشعب العراقي وجيشه وأطياف مهمة من أبنائه ..
ان أبناء شعبنا العراقي المجاهد باتوا على علم ويقين بكل حقائق المشهد العراقي ومداخلاته وتناقضاته وتطوراته وسوف لن يتساهلوا أو يتسامحوا مع كل من فرط ويفرط بمصالحهم السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية والمصيرية ، لحساب مصالح أجنبية أو ذاتية أو حزبية ضيقة.....