الهويتان “الأردنية” و”الفلسطينية” لا يمكنهما أن تتجسَّدا معا إلا إذا كانتا وظيفيتين (!!)
ArabNyheter | 2013/09/07
الهويتان "الأردنية" و"الفلسطينية" لا يمكنهما أن تتجسَّدا معا إلا إذا كانتا وظيفيتين (!!)
"الهوية الفلسطينية" مشروع تحرير فاشل، لأنها هوية بلا جغرافيا (!!)
"إسرائيل" تريد حلا يعيد العلاقة بين "الضفة الغربية" و"الأردن" إلى ما قبل عام 1967، رهانا منها على قيام "النظام الأردني" بدور شبيه بدوره في تلك المرحلة (!!)
والأردن يريد حلا يجسِّد "الهوية الفلسطينية" بأيِّ شكل حفاظا على دوره الوظيفي بدون أيِّ تبعات تجاه "الضفة الغربية" (!!)
لأنه يعلم أن أيَّ إعادة لوضع ما قبل عام 1967، هو دفع للمنطقة باتجاه إنتاج حالة عام 1965، بدون أخطاء ما بعد عام 1968 (!!)كان على النظام الأردني بعد أن استرجعَ "الأردنَّ الوظيفي"، عقبَ طرد الثورة من الساحة الأردنية، إثر مسخها من "ثورة أردنية" كبيرة إلى "ثورة فلسطينية" صغيرة، أن يعيدَ إنتاج الدولة الأردنية بكل تفاصيلِها على أساس الدور الوظيفي له كنظامٍ يُجَسِّد الخريطة "السايكسبيكوية" في المنطقة، جاعلا من الأردن – كما كان دائما وخاصة قبل عام 1965 – دولة قُطْرِيَّةٍ ممانعةٍ لمشاريعِ الوحدة والنهضة، ووظيفِيَّة ممانعة لمشاريع التَّحَرُّر بشقيه السياسي والاجتماعي، ولكن هذه المرة وفق متطلبات مرحلة ما بعد 1970. فبعد أن خاض النظام الأردني، معركةَ وجوده الرئيسة على مدى الفترة 1965 – 1970، ليخرجَ منها منتصرا محققا للمشروع الإمبريالي الصهيوني أكبر إنجازاته الفعلية في معركة وجوده هو أيضا – رغم أن هذا المشروع وكل النظام العربي المساند له كان يترنح ترنُّحا حقيقيا تحت وقع الثورة الأردنية – كان عليه وقد بعثَ الهويتين القُطْرِيَّتين الوظيفِيَّتين "الأردنية" و"الفلسطينية" من برزخهما، باثا الحياة في جثتيها اللتين كانتا قد تحللتا وتفسختا، أن يبدأ بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية للأردن، وبإعادة إنتاج علاقاته الخارجية إقليميا ودوليا، بشكل يُمَكِّنُه من الاستمرار على نهجه القُطْري الوظيفي، ويحول بين دولته التي راح يرسمها من جديد بألوان المرحلة الجديدة، وبين عودة الروح الثورية إلى شعبها وإلى أرضها مرة أخرى، جاعلا من "جدل الهوية" الركيزة الأساس لسيرورة هذه الدولة على مدى الأربعين سنة التي تلت عام 1970.
لقد حرص النظام الأردني على أن يكون الجدلُ الدائر حول "الهويات" – في مرحلة ما بعد أيلول من عمر لعبة "لوغو الهويات" – هو "البوصلة" التي تُحَرِّك الثقافةَ والسياسةَ والاقتصادَ، و"النجم القطبي" الذي يهدي إلى معالم العمل الوطني والقومي، في دولةٍ راح يعيد إنتاجَها على شكلِ حقلِ ألغامٍ، لا يفصل بين لَغمِ من ألغام "جدل الهويات" والآخرَ فيه، إلا حالة من عمى الألوان التاريخي والفلسفي، يأبى أن يرى في الهويات – خلافا لكل منطق – شيئا آخر غيرَ ذواتِها، معلقةً في فراغ، بعيدا عن أيِّ دلالات لها في سياقاتٍ قومية أو نهضوية أو تحرُّرِيَّة، ومعزولةً عن أيِّ ارتباطات تمنحها قِيَمَها الموضوعية، ومردوداتِها التاريخية، وكأنها كائنات أفلاطونية تفيض بها على الواقع نظريةُ مُثُلِ لم تولد ولا ترعرعت ولا ماتت إلا في ذهن أفلاطون وحده، في تجاهل تام لكل العناصر المحيطة بالهويات المتجادَل حولها، وهي العناصر التي تسهم بشكل أو بآخر في تشكيل الدلالات الموضوعية لتلك الهويات من جهة أولى، وفي جعلها هويات متقدمة أو متراجعة بالقياس لسيرورة العمل النضالي ولمردودية هذا العمل في سلم الأهداف القومية من جهة ثانية. فإذا كانت مسيرة "التقديس" التي نجح النظام الأردني عبرها في تخليق "الهوية الفلسطينية" القُطْرِيَة المُفَرِّقَة، من قلب "الهوية الأردنية" الثائرة المُوَحِّدَة، كما كان عليه حالها في منتصف ستينيات القرن الماضي، ليعيدَ عبر هذا التخليق نفسِه، تخليق "الهوية الأردنية" القُطْرِيَّة الوظيفية من جديد، بعد أن كانت "ثورة الأردنيين" قد نحرتها بصفاتها تلك، فإنه عاد مع انقشاع خريف عام 1970، ليدشنَ مسيرة "تقديسٍ" جديدة، انصبت هذه المرة باتجاه تلك الهوية التي تربع على عرش تمثيلها بانتصاره الساحق في أيلول، ألا وهي "الهوية الأردنية". منذ ذلك التاريخ وحتى الآن غدا "جدل الهويات"، هو ذلك الجدل الدائر على أشُدِّه، ضمنا أو علنا، فكرا أو ممارسة، بين طرفين.. يحاول أحدهما تكريسَ قداسة الهويتين القُطْرِيَّتَين الوظيفيتين "الأردنية" و"الفلسطينية"، وتثبيتَها والدفاعَ عنها، والبحث في مدافن التاريخ ومزابل الماضي عما يؤكدها، بعيدا عن أيِّ مردود قومي أو نضالي أو تحرري أو وحدوي لهما، وذلك على قاعدة أن كلَّ هوية منهما هي في ذاتها ثابتٌ مقدسٌ ومكتسبٌ تاريخي، تهون أمامه ولأجل تجسيده كلُّ القيم القومية والتحررية والوحدوية، إذا كان إنجاز هذه الأخيرة يتطلب بعض التواضع في مزعَم "قدسيَّة ثباتيَّتِه"، وشيئا من الواقعية في ادعاء "تاريخيَّة مكتسبيَّتِه". فيما يحاول الثاني، لملمةَ أشلاء "الوطنية الأردنية" المبعثرة على مذبح "قداسة الهوية"، باستناده – أي هذا الطرف – إلى قواعدَ تَصَوَّرَ قدرتَها على حسم التناقض بين "الهويتين" المُعْتَرَف من قبله بقداستهما معا، بعد أن تمكن النظام المنتصر في أيلول من نشر هذه القداسة، فلسفةَ هوياتٍ أرادها وسعى إليها ودافع عنها ورسَّخها "تيرموميترا" للولاء والوطنية والانتماء لهذه الهوية أو لتلك، حتى لو تعارضت تلك القداسة مع قداسةٍ أسمى منها هي قداسة "الهوية القومية العربية" ومتطلباتها.
ولأن الطبيعة التَّخَلُّقِيَّة والتَّطَوُّرِيَّة للهويتين الأردنية والفلسطينية، قُدِّرَ لها بحسب ما فرضه السياق التاريخي "السايكسبيكوي" لتكوُّنِهما من جهة، ولتبادل الأدوار الوظيفية بينهما في لعبة "لوغو الهويات" من جهة أخرى، أن تكون طبيعةً إحلالية، بسبب عنصر الديموغرافيا في تفاعله مع الجغرافيا، فلم يكن من الممكن أن تنشأ الهويتان معا، وتعيشا معا، لتكونا معا، متحررتين من إطارهما الوظيفي القُطْري. فالهويتان "الأردنية" و"الفلسطينية"، إما أن تكونا معا وظيفيتين قُطْرِيَّتين تعملان ضد اتجاه النزوع إلى التَّحَرُّر والوحدة القومية، خالقتين بوجودهما ذاك حالةً من "توازن تَجَسُّد الهويات" الخادم للعلاقات الإمبريالية والصهيونية في الإقليم، وهو ما بدأ بتجسيده واقعهما منذ ما بعد آذار عام 1968، على مدى الفترة الممتدة حتى عام 1970، ليتكرَّس هذا التجسيد منذ ذلك العام وحتى الآن. وإما أن تكون إحداهما كذلك، والأخرى على النقيض منها، أي ثائرة مُوَحِّدَة تنزع إلى التجاوب مع الرؤية القومية، لينتهي أو ربما ليبدأ أمرها بابتلاع نقيضتها القُطْرِيَّة الوظيفية في جوفها التزاما بمقتضيات تلك الرؤية. وهو ما جسَّده واقعهما في الفترة 1965 – 1968، وما كاد يجسِّده قبلها إلى حدٍّ ما أيضا في عام 1956. أماّ أن تكونا معا موجودتين ومتجسدتين وثائرتين ووحدويتين وقوميتي النزعة، فهذا ما أثبتت مائة عام من عمر "سايكس بيكو"، ومن عمر التجاذب بينهما، بحكم طبيعتهما التكوينيَّة وبحكم الجغرافيا، أنه أمرٌ لم يتحقق، وما كان له أن يتحقق، لأن "السايكسبيكوية" أنشأتهما في الأساس على نحوٍ يحول دون تَحَقُّقِه، جاعلة منهما هويتين تتحركان في الواقع على النحو التنافري المذكور. ولا يمكن للمصنوع أن يتحررَ من رؤية صانعة وإرادته، إلا إذا انسلخ من قوانين الصانع، وأخضع نفسه لقوانينه هو، ليعيدَ إنتاج نفسه في قوالب مختلفة جذريا عن تلك التي أنشأه فيها صانعه ذاك.وإذا كانت هذه الفلسفة التجاذبية التنافرية تنطبق من حيث المبدأ على كافة "الهويات القُطْرِيَّة الوظيفية" – التي خلَّقَتها "الخريطة السايكسبيكوية" – من تلك المتداخلة بُنيويا من النواحي الديموغرافية والجغرافية والتاريخية مثل "العراق/الكويت"، و"غرب العراق/شرق سوريا"، و"لبنان/سوريا"، و"السعودية/قطر والإمارات العربية"، و"جنوب السعودية/شمال اليمن"، و"جنوب الأردن/شمال السعودية".. إلخ، فإنها أكثر ما تنطبق على الهويتين الوظيفيتين القُطْرِيَّتين "الأردنية" و"الفلسطينية" وتتجسَّدُ فيهما بسبب ارتباطهما المباشر بالمشروع الاستعماري الصهيوني "إسرائيل" الذي يتَّسم بحساسية بالغة إزاء عامل "الجغرافيا" و"الديموغرافيا". فعندما نشأت "الهوية الأردنية" كحاضنة لسيرورة قُطْرِيَّة وظيفية في حدودها الجغرافية والديمغرافية المقرَّرَة لها، كان يجب أن تختفي "الهوية الفلسطينية"، التي ما كان لتَجَسُّدها في السياق التاريخي المرافق لنشأة كلٍّ من "المشروع الصهيوني" و"المشروع القُطْري الأردني"، إلا أن يكون مناقضا للمحتوى الوظيفي والقُطْري لـ "الهوية الأردنية" المجاورة لها، وهو ما سوف يشكِّلُ خطرا حقيقيا على المشروعين "القُطْري الوظيفي" العربي، برأس حربته "الأردن"، و"الوظيفي الصهيوني"، برأس حربته "إسرائيل". وهذا ما حصل بالفعل، حيث تمت المبادرة على الفور بتغييب "الهوية الفلسطينية" في قلب "الهوية الأردنية" التي اتَّخذَت عبر "مؤتمر أريحا" ومقدماته ولواحقه شكلا مختلفا عن ذاك الذي كانَتْهُ قبل ذلك منذ الاستقلال عام 1946، بسبب أنها "هوية أردنية" أعيدَ تشكيلُها على نحوٍ يُرضي ويستقطب طرفيها: "بقايا فلسطين العربية"، و"المملكة الهاشمية لشرق الأردن"، ظنا ممن فعلوا ذلك، أن التَّضَخُّم الحاصل في هذه "الهوية الأردنية" المستحدَثَة شكلا، سينعكس على شكل تَضَخُّمٍ مرافقٍ في مستوى قُطْرِيَّتِها ووظيفيتها، وهو ما تمخَّضَ التاريخ عن عكسه تماما، فتغيرت لأجله كلُّ المعادلات وفق لعبة "لوغو الهويات".فعندما فشلت "الخطة السايكسبيكوية" في تحقيق المأمول الوظيفي من إذابة "الهوية الفلسطينية" في قلب "الهوية الأردنية"، بأن أسفر التلاقح التاريخي غير المسبوق عن جنين جديد تجسَّدَ في "هوية أردنية" ثائرة مُوَحِّدَة، قومية النزعة، تحررية الأيديولوجيا والسلوك. أي عندما أسفر التلاقح عن انسلاخ "الهوية الأردنية" القُطْرِيَّة الوظيفية، عن قوانين الصانع السايكسبيكوي، لتخلقَ لنفسها قوانينها هي، بشكل بدا متناقضا مع ما أُنْشِئَت لأجله في الأساس، كان لابد من إعادة إنتاج الهويتين بشكل مختلف يعيد التوازن إلى المَرْكِب السايكسبيكوي الذي بدأ يترنَّح.إن علاقة التجاذب والتنافر بين الهويتين "الأردنية" و"الفلسطينية" منذ ما بعد حرب 1948، قائمة على حقيقة أن أيا منهما إذا تمكنت من خلق مشروعِها الوطني المنسلخ عن الوظيفية والقُطْرِيَّة السايكسبيكوية في سياقاتٍ وضمن ظروفٍ مُحَدَّدة لتَجَسُّدِها، مثلما فعلت "الهوية الأردنية" في منتصف الستينيات، فإن الأخرى لا يمكنها أن تَتَجَسَّد لتحقيق الغرض نفسِه، بل لتحقيق الغرض النقيض، مثلما فعلت "الهوية الفلسطينية" في الحقبة نفسها، بسبب أن إحداهما ستخلق مشروعَها هذا على "الجغرافيا" وهي "الهوية الأردنية"، فيما الأخرى لن تخلقه سوى في الوهم والفراغ وهي "الهوية الفلسطينية"، التي أفشلَ قادةُ المقاومة في الستينيات مشروعَها بالكامل عندما غرقوا في متاهة تخليقها عبر منازعة "الهوية الأردنية" سيادتَها على "الجغرافيا الأردنية"، بدل أن يسيروا تحت عباءتها – وإن يكن مؤقتا – لتحرير "الجغرافيا الفلسطينية" القادرة وحدها – لاحقا – على تجسيد "الهوية الفلسطينية". فأن تكون فكرة "الهوية الفلسطينية" في ذاتها مُقَدَّمَةً على تجسيد الجغرافيا في تفاعلها مع الديمغرافيا كحاضنة لها، وأن يكون الحرص على عدم إذابتها في أيِّ هوية أخرى مقدما على "مشروع التحرير" نفسِه كمنجِزٍ وحيد وفعلي لها، هو مؤشر خطير على قابلية هذه الهوية للنزوع إلى أعتى أشكال الوظيفية والقُطْرِيَّة، ومناجزة لا وظيفية ولا قطرية الهوية الأخرى.ومن خلال متابعة تاريخية دقيقة نستطيع تلمُّس هذه العلاقة الإحلالية بين "الهويتين". فعندما كانت "الهوية الأردنية" مُمْعِنَة في وظيفيتها وقطريتها منذ نشأتها ولغاية سقوط فلسطين، كانت "الهوية الفلسطينية" على مدى تلك الفترة تناضل الإنجليز والصهاينة لتتجسَّد مشروعا نقيضا للوظيفية والقُطْرِيَّة التي تمثلها "الهوية الأردنية"، من خلال وجود معالم واضحة لعنصر "الجغرافيا الفلسطينية" وهي تحضن فعل وطموح "الديمغرافيا الفلسطينية"، وبالتالي فقد كان بالإمكان لتجسُّدها أن يكون هو النقيض "اللاقُطْري" و"اللاوظيفي" لحالة القطرية والوظيفية التي مثلتها "الهوية الأردنية" آنذاك. وعندما أصبحت "الهوية الأردنية" هي التي تناجز الإمبريالية والصهيونية منذ منتصف الستينيات، من خلال الديموغرافيا والجغرافيا الأردنيتين، فإن "الهوية الفلسطينية" بدأت تتجسَّد وتتخلق، لا لتكون رديفا للمشروع الوطني القومي التحرري الأردني الذي مارسته "الهوية الأردنية"، بل لتكون مناهضا لذلك المشروع، انطلاقا من قاعدتنا السابقة التي نؤكد بموجبها على استحالة تَجَسُّدِهما معا لتمرير مشروع وطني قومي وحدوي تحرُّري واحد، بسبب استحالة تجسُّدهما معا على جغرافيةِ إحداهما وهي "الجغرافيا الأردنية"، بعد أن فقدت الأخرى وهي "الهوية الفلسطينية" كلَّ أفق لتجسيد نفسها على "الجغرافيا الفلسطينية". الأمر الذي جعل أيَّ شكل من أشكال تجسُدها غير المسنودة بعنصر "الجغرافيا الفلسطينية"، شكلا إحلاليا – وبالتالي وظيفيا وقُطْرِيا – ينازعُ الشقيقةَ الأخرى جغرافيتها وديموغرافيتها. وهذا ما حصل بالفعل في تلك الحقبة من الزمن. فما كان انتصار النظام الأردني في استعادة "الهوية الأردنية" القُطْرِيَّة الوظيفية من قلب "الهوية الأردنية" الثائرة المُوَحِّدَة القومية النزعة، عبر إعادة إحياء "الهوية الفلسطينية" الميتة منذ مؤتمر أريحا، إلا مُتَجَلِّيا في واقعةِ أنه تمكَّن من استعادة "الهوية الفلسطينية"، ولكن بلون "قُطري وظيفي" جديدٍ نظيرٍ للقُطْرِيَّة والوظيفية التي أعاد إحياء "الهوية الأردنية" في مستنقعاتها، لتتعايشَ الهويتان منذ ذلك التاريخ، هويتين قطريتين وظيفيتين متنازعتين، عجزت أيٌّ منهما عن أن تكون "لا قطرية" و"لا وظيفية"، بسبب أن الأخرى ماثلة أمامها تنازعها السيادة على الديموغرافيا والجغرافيا والقضية.وبالتَّتَبُّع التاريخي الدقيق نجد أنفسَنا بإزاء ثلاث مراحل من حالة التجاذب بين الهويتين "الأردنية" و"الفلسطينية" في لعبة "لوغو الهويات" منذ بدأت اللعبة عقب احتلال فلسطين عام 1948.. 1 – مرحلة انتصرت فيها "الهوية الأردنية" القُطْرِيَّة الوظيفية بعد أن هزمت "الهوية الفلسطينية" الثائرة المُوَحِّدَة قومية النزعة، وابتلعتها في جوفها ابتلاعا تاما. وهي المرحلة التي تُغطي الفترة الزمنية الممتدة من مؤتمر أريحا ولغاية اندلاع الثورة الأردنية في منتصف ستينيات القرن الماضي، دون إنكار أن هذه الهوية حاولت التحرر من "قطريتها" و"وظيفيتها" خلال الفترة من 1952 وحتى 1956، لكنها انتكست لأسباب لا يختص بذكرها هذا المقال.2 – مرحلة انسلخت فيها "الهوية الأردنية" التي تمَّ إنتاجها بعد مؤتمر أريحا، عن قطريتها ووظيفيتها، مُتَحَوِّلة إلى "هوية أردنية" ثائرة وموَحِّدَة وقومية النزعة، وهي المرحلة التي تغطي الفترة الزمنية الممتدة من عام 1965 وحتى ما بعد آذار من عام 1968 بقليل، حين تمَّ البدء في إعادة التوازن من جديد للمشروع السايكسبيكوي بتجسيد "الهوية الفلسطينية"، هويةً قُطْرِيَّة وظيفية، ما كان لها إلا أن تكون مجاورة لهوية قُطْرِيَّة وظيفية أخرى، هي "الهوية الأردنية" التي كانت عودَتُها على هذا النحو أمرا طبيعيا ومفهوما، ولا مجال لتجنبه في السياق التاريخي الذي حصل فيه. 3 – انتهت هذه المرحلة بنجاح "الهوية الفلسطينية" القُطْرِيَّة الوظيفية في قتل "الهوية الأردنية" الثائرة المُوَحِّدَة القومية النزعة، بعد أن تمكن النظام من استحضارها لإنجاز هذه المهمة، لنصبحَ أمام مرحلة ثالثة استمرت من عام 1968 حتى الآن، وتحديدا حتى مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهي المرحلة التي تعايشت فيها الهويتان تعايشَ التجاذب والتنافر ضمن معادلة توازنٍ عجيبة وحذرة، أبقت على الاثنتين لتؤديا معا أدوارا وظيفية قُطْرِيَّة، وإن كان دور كل واحدة منهما يختلف في الكثير أو في القليل، عن الدور القطري الوظيفي الذي تمارسه الهوية الأخرى. ولأن الهوية القادرة منهما على أن تمثلَ المشروعَ الوطني التحرري قومي النزعة، هي تلك التي تستطيع أن تنشئَ هذا المشروع على جغرافيتها التاريخية، أو على جزء من تلك الجغرافيا على الأقل، فإن "الهوية الفلسطينية" منذ فشلت في التجسُّد على جزء من جغرافيتها التاريخية عقب صدور قرار التقسيم أولا، وعقب نتائج حرب عام 1948 ثانيا، وعقب نتائج وتداعيات مؤتمر أريحا ثالثا، وإن يكن بالتآمر، فليس هذا بذي أهمية في سياق ما نود التوصل إليه.. نقول.. منذ حصل ذلك لـ "الهوية الفلسطينية"، فإنها لم تعد صالحة لأن تكون هي الهوية الحاضنة لمشروع التحرير والوحدة في سياقاتهما القومية، لأنها لم تعد تملك أيَّ جغرافيا تستطيع أن تجسِّدَ عليها مشروعا للتحرير والوحدة. وبالتالي فإن الخيار المتمثل في أن تكون "الهوية الفلسطينية" هي الهوية النضالية الأم التي تمتلك حق ابتلاع الهوية الأخرى – الأردنية – إذا كانت الأخيرة مُعرقلةً للنضال وللمشروع النضالي، لم يعد خيارا ممكنا ولا محتملا، مادامت هذه الهوية قد فقدت كل مُقَوِّمات التَّجَسُّد الفاعلة والمُنتجة لعناصر الحالة النضالية والتحررية، التي تمتلك مبررات السيادة على الهوية الأخرى واحتوائها وتجيير مُكَوِّناتها لصالح مشروع التحرير والمقاومة والوحدة، خاصة بعد أن ترسخت الحالتان، الإمبريالية الصهيونية من جهة، والقُطْرِيَّة الوظيفية الأردنية من جهة أخرى. وهي – أي الهوية الفلسطينية – وبعيدا عن كل معاني القداسة الموهومة التي مُنِحَت لها بغير وجه حق، لا يمكنها أن تكون – كما هو حالها الراهن – إلا هويةً معرقلة ومجزِّئَة ومُفَرِّقَة، وليس مُحَرِّرَة أو قومية النزعة، أي لا يمكنها إلا أن تكون هوية قُطْرِيَّة وظيفية. في حين أن "الهوية الأردنية" التي يمكنها أن تُجَسِّدَ مشروعَها الوطني المحرِّر والثائر والمقاوم وقومي النزعة، على كامل جغرافيتها المُقَرَّرَة والمرتبطة بها منذ نشأت، قادرة من حيث المبدأ على أن تكون، إما هوية قُطْرِيَّة وظيفية إذا لم تنجح في تجسيد ذلك المشروع، وإما هوية ثائرة مُوَحِّدَة ومقاوِمة وقومية النزعة إذا نجحت في تجسيده. وأن تكون "الهوية الأردنية" هذا النموذج أو ذاك، رهن بما يمكن للهوية الفلسطينية أن تكونَه.فلكي تحافظ "الهوية الأردنية" على قُطْريتها ووظيفيتها التي انصبغت بها منذ أربعين عاما أعقبت السنوات الخمس التي شهدتها حالة الثورة الكبرى في الستينيات، يجب أن تبقى "الهوية الفلسطينية" متجسِّدَة بهيئتها القُطْرِيَّة الوظيفية، التي ما عرفت هذه الهوية منذ تجسدت شكلا آخر غيرها، بمستويات تزيد أو تنقص بحسب الظروف الإقليمية والدولية. ولأن هذه الهوية تتهاوى وتؤول إلى الاضمحلال بشكل متسارع منذ مشروع "أوسلو" وتداعياته، فإن النظام الأردني يخشي من هذا التداعي والاضمحلال على مستقبله وعلى مستقبل الهوية التي يمثلها، لا من حيث إمكان ذوبانها في "الهوية الفلسطينية" كما يتم الترويج لذلك بخرافة "الوطن البديل". فهذا أمر مستحيل لا يمكن لهوية متهالكة أن تضطلع به. ولكن من حيث أنه لا يريد تكرار نموذج الستينيات، عندما اختفت "الهوية الفلسطينية" التي كانت ثائرة – قبل الاختفاء – في قلب "الهوية الأردنية"، لتثور باختفائها "الهوية الأردنية" الوظيفية. أي أن النظام الأردني يدافع بـ "الهوية الفلسطينية" القُطْرِيَّة الوظيفية المتجسِّدة بأيِّ مستوى من مستويات تجسُّدها، عن "الهوية الأردنية" القُطْرِيَّة الوظيفية التي يمثلها، فتمنحه شرعيته بهذا التمثيل. ولهذا السبب يحرص النظام الحالي في الأردن، على نجاح "الهوية الفلسطينية" في أن تتجسَّد بأيِّ شكل، هناك على "الجغرافيا الفلسطينية"، كي يتمكن من الإبقاء على وظيفيته وقُطْرِيَّتِه ناجزةً ومتواصلة هنا على "الجغرافيا الأردنية". بينما تحرص الصهيونية والإمبريالية على إعادة الحالة القُطْرِية والوظيفية لـ "الهوية الأردنية" إلى النحو الذي كانت عليه قبل اندلاع الثورة الأردنية في منتصف ستينيات القرن العشرين، بإعادة إخفاء "الهوية الفلسطينية" في جوفها، ضمانا لأمن إسرائيل، حتى لو اضطرت هذه الأخيرة إلى القبول بترتيبات جغرافية مع النظام الأردني في ما يتعلق بأراضي الضفة الغربية، تعفيها من مغبة التعامل مع "هوية فلسطينية" قائمة إلى جوارها. أي أن التناقض القائم بين النظام الأردني والصهيونية بشأن التعاطي مع "الهوية الفلسطينية"، هو تناقض شكلي وليس جوهريا، ومرده إلى خلاف على نمط "القُطْرِيَّة والوظيفية" التي يراد للهوية الأردنية أن تضطلعَ بها. فالنظام الأردني يريد لقُطْرِيَّتِه ووظيفيته أن تقومَ وتتواصلَ على قاعدةِ توازنِ مضمونِ النتائج بينها وبين قُطْرِيَّة ووظيفية "الهوية الفلسطينية" المتجسدة على الأرض الفلسطينية أيا كان شكل تَجَسُّدِها، مادام ذلك سيعفي – بحسب أوهام النظام – "الهوية الأردنية" من مخاطر الانزلاق إلى ما يشبه فترة ستينيات القرن الماضي. بينما إسرائيل التي لا ترغب في التنازل عن الأمن والأرض مقابل أيِّ شيء، تسعى إلى وظيفية وقُطْرِيَّة أردنية شبيهة بتلك التي كانت قائمة إبان اختفاء "الهوية الفلسطينية" في جوف "الهوية الأردنية" عقب مؤتمر أريحا، وتعمل جاهدة على ذلك، وتبدو مستعدة لطرح البدائل القادرة على تحقيق هذا الحل. يبدو النظام الأردني في هذا الشأن أكثر إحساسا بالمستقبل وآفاقه من إسرائيل، لأنه يعي جيدا أن "الهوية الأردنية" عند غياب "الهوية الفلسطينية"، وأيا كان شكل هذا الغياب، سوف تعيد إنتاج نفسها – كما فعلت في الماضي – لتضطلعَ هي بالدرو الوطني المقاوم والمُوَحِّد والمجابه للعلاقات الإمبريالية في الإقليم كلِّه، لتكون فُرَصُها في النجاح أكثر بكثير من فرص "الهوية الفلسطينية"، بسبب أن إعادة إنتاجها لنفسها سيكون متجسِّدا على "الجغرافيا الأردنية" القائمة والموجودة بالفعل، بينما أثبتت "الهوية الفلسطينية" على مدى الأربعين سنة الماضية، أنها ذلك النوع من "الوظيفية" و"القطرية" الأكثر قدرةً على خدمة مشروع التجزئة وتعطيل مشروع النهضة والتحرير من "الوظيفية" و"القطرية" الأردنية، بسبب الافتقار إلى الجغرافيا القادرة وحدها على تدعيم تجسيد الهوية. مع التأكيد على ألا علاقة بين هذا الاختفاء الإحلالي، وبقاء حقوق "العودة" و"تقرير المصير" و"إقامة الدولة المستقلة" للفلسطينيين قائمة بدون مساس، لأنها حقوق قامت واستمرت وتواصلت على الصعيد القانوني والشرعي عبر القرارين "181" و"194"، حتى عندما كانت "الهوية الفلسطينية" ذائبة في جوف "الهوية الأردنية" خلال الفترة ما بعد 1948. وبالتالي فإن كل ادعاءٍ بالخوف على تلك الحقوق وعلى مستقبلها كحقوق غير قابلة للمساس بها، من مشروع إعادة تثوير "الهوية الأردنية" عبر إخفاء "الهوية الفلسطينية" في جوفها من خلال التأكيد على أردنية "الضفة الغربية"، مادام تثوير "الهوية الفلسطينية" غدا أمرا مستحيلا بدون جغرافيا، هو ادعاء غيرُ مُبَرَّر، ولا يهدف إلا إلى الحفاظ على كافة عوامل تحييد "الهوية الأردنية" وعزلها عن القيام بدورها القومي في الوحدة والتحرير، وهو على وجه التحديد ما يجعل تلك الحقوق المُتَباكَى عليها مجرد حبرٍ على ورق. كما أنه لا وجه للشبه لا من قريب ولا من بعيد، بين هذا الاختفاء الإحلالي الذي نتحدث عنه، وبين المشروعات الصهيونية التي تحاول حل القضية الفلسطينية، على حساب الأردن كما يعتقد الكثيرون. لأنه اختفاء إحلالي يحسم جدلَ الهوية، المُعَرقلٌ للتنمية المستقلة رافعةِ النهضة، والمُعطِّل لإرساء قواعد الدولة الديمقراطية المرتكزة إلى مبادئ المواطنة المُنطواة في فكرة "الوطن الأردني الواحد"، وإلى "ثقافة مصلحة الفكرة" المُفَجِّرَة لكل الطاقات الشعبية التي تقتلها وتنحرها "ثقافة مصلحة العصبية"، ولأنه فوق هذا وذاك جدلٌ خادمٌ لوظيفية الدولة ومُكَرِّسٌ لقُطْرِيَّتِها. وفي دولة أردنية ديمقراطية عروبية غير وظيفية من هذا النوع، ستتسنى إعادة إنتاج الأولويات على أسسٍ جديدة، تجعل من الجهد التحرُّري المُنْصَب باتجاه "الضفة الغربية" – باعتبارها أرضا أردنية – بندا أساسيا في سَلَّة الأولويات الأردنية، ليغدوَ هذا التحرير شأنا أردنيا يتحمل مسؤوليتَه الأردن على المستوى المبدئي والأساسي، دون أن يعني ذلك أن المسؤولية القومية ليست هي الرافعة الحقيقية لإنجاز مشروع التحرير في نهاية الأمر. وعلى هذا الأساس سيعاد وضع المؤسسات الفلسطينية الرسمية والتي تقف على رأسها "منظمة التحرير الفلسطينية" على السكة الصحيحة، عندما يُعاد توجيه أنظارها النضالية والسياسية والقانونية إلى فلسطين المحتلة عام 1948، عبر الدفع باتجاه التركيز على تحرير تلك الأرض، لتقوم العلاقة بين الأردن ومنظمة التحرير على قواعد التنسيق والتعاون، وليس على قواعد تنازع الهويات التي لا مكان للحديث عنها قبل التحرير، لأنه – أي قبل التحرير – حديث عقيم بلا أيِّ معنى أو قيمة.من هنا فإن كل من يعمل في الاتجاه الدافع نحو الإبقاء على "الهوية الفلسطينية" متجسِّدة بأيِّ مستوى وبأيِّ شكل في "الضفة الغربية" مع تجاهل "فلسطينية" الأرض المحتلة عام 1948، إنما هو في واقع الأمر، يعمل في الاتجاه الدافع – من حيث يدري أو لا يدري – إلى الإبقاء على البعد القُطْري والوظيفي لـ "الهوية الأردنية". لا يمكن للأردن أن يتحرر من وظيفيته وقطريته على نحو جاد وصحيح، بينما "الهوية الفلسطينية" تقف له بالمرصاد، مهدِّدَةً "أردنية" أكثر من نصف سكانه، مرة بدعوى "اللجوء"، ومرة بدعوى "النزوح"، ومرة بدعوى أن "الضفة الغربية" أرض فلسطينية وليست "أرضا أردنية"، كما حاول قرار فك الارتباط – غير القانوني وغير الشرعي – أن يقول. كما أنه – أي الأردن – لا يمكن له أن يتحرر من هاتين الصفتين الملازمتين له حاليا وهما "الوظيفية" و"القطرية"، وينهضَ ديمقراطيا لإعادة إنتاج مؤسساته وبناه السياسية والمجتمعية بشكل يحرره من الفساد والإقصاء والتفسُّخ، بينما "جدل الهويات" ما يزال يثير على ساحة الأردن ديمغرافياً وجغرافياً وبكل رعونة وإسفاف، مقولات مثل "الأردني الخائف على هويته" و"الفلسطيني المحايد سياسيا بسبب هويته".إن "الهوية الفلسطينية" بحكم قُطْرِيَّتها ووظيفيتها – ضمن ظروفها الخاصة جدا في علاقتها بمحيطها العربي وخاصة الأردني – هي مشروعُ تحريرٍ فاشل، ثبت فشله منذ أن انسلخ عن أردنيته مع نهاية ستينيات القرن الماضي. والسنوات الخمس والأربعون الأخيرة أثبتت ذلك. ولهذا السبب فإن كل من يراهن على التحرير وعلى الوحدة، من خلال تجسيد هذه الهوية، إنما يراهن على الوهم، لأنه في واقع الأمر يدفع باتجاه منع "الهوية الأردنية" من أن تستقر وتتوازن مُكَوِّناتُها وتختفي تناقضاتها، لتجسِّد بعد ذلك مشروعَها التحرري القومي الشامل من على الجغرافيا الأردنية.إن ظاهرة "جدل الهويات" أو لنقل "جدل الهوية"، رافقت حالة التجاذب الذي سبغ العلاقة بين الهويتين الأردنية والفلسطينية على مدى الأربعين عاما الماضية. وهي الأعوام الأربعون التي تمكن النظامان الأردني والفلسطيني خلالها من الإبقاء على حالة توازن في مخرجات ومدخلات ذلك الجدل حول الهويات. إن هذا التوازن الذي أعجزَ حالةَ الجدل تلك عن أن تحسمَ موضوعةَ الهوية لصالح الأقدر منهما على إنجاز مشروعها التحرري والوحدوي ذي النزعة القومية، كان له أكبر الأثر في تشكيل معظم مُكَوِّنات الصراع في الإقليم في بعده الذي أطلق عليه "الصراع العربي الإسرائيلي" أو "القضية الفلسطينية".
ولقد ساعدت على ذلك، التَّغَيُّرات الكبرى التي شهدها الإقليم بالتزامن مع ما كان قد حققه النظام الأردني في حدود الجغرافيا الأردنية بمجزرة أيلول. فغياب الرئيس العروبي الكاريزمي "جمال عبد الناصر"، وتحوُّل النظام القومي المصري الأشد ممانعة في عهده، إلى نظام قُطْري وظيفي معادٍ لكل أنواع الممانعة في عهد خلفه أنور السادات، وخلف خلفه "محمد حسني مبارك"، خاصة بعد حرب أكتوبر، حال دون تعرض "الملك حسين" ونظامه لأيِّ نوع من الضغوط من تلك التي كان يمارسها ضده من حين لآخر نظام "جمال عبد الناصر"، لولا أن مبادرة "روجرز" اضطرت الرئيس الراحل الكبير إلى الوقوع في مقايضة وطنية كبرى، نجزم بأنه لم يكن راضيا عنها في قرارة نفسه، مع أن ذلك لا يعفيه من المسؤولية التاريخية إزاء ما حدث في الأردن. كما أن ظهور النظام الرمادي في دمشق بسياساته اللبنانية اللاعبة على كل الحبال، والتي تسبَّبت في محاصرة الثورة الفلسطينية هناك، وأدت في النهاية إلى طردها من جديد لتدخل مرحلة تيهٍ أدت بها إلى الانتحار في نهاية المطاف، حال دون "الملك حسين" واضطراره لمواجهة آفاق عودة ثورية سِرِّيَّة واسعة النطاق إلى الأردن، ما خفَّف عنه عبء مواجهة الوطنيين وفلول الثورة في دولته التي راح يرسم معالمَها القُطْرِية والوظيفية بهيئة غير مسبوقة. وأخيرا فإن تَجَلِّي الدور الإستراتيجي الخطير للبترودولار الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية، عَقِبَ أزمة النفط العالمية التي رافقت حرب أكتوبر، في إدارة إعادة إنتاج الإقليم سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وإعلاميا، بعد زوال أخطر عنصرين مهددين للمشروع الإمبريالي الصهيوني، وهما نظام الرئيس "جمال عبد الناصر" و"الثورة الأردنية"، ساعده على نحو غير مسبوق على تحقيق مخططاته في تكريس الدور الوظيفي للدولة الأردنية.