في هذه الصباحات الباردة من شهر شباط/فبراير، عادة أصحو في أبكر الصباح، أحتسي قهوتي وراء النافذة، أنظر إلى الشارع العريض، والأبنية المكتظّة، وصفوف الأشجار، وعرائش الياسمين، والمدفأة تبث دفئها الجميل، أسرح بكثير من الرضا والسعادة مع قطوف التلاميذ وإقبالهم المحبب، يحملون حقائبهم المثقلة بالكتب، ووجوههم المشرقة باحمرار النسائم الباردة، يجدون الخطوات إلى مدارسهم، عيونهم طافحة بالنور والإشراق، أذكر، كنت أرافق والدي «رحمه الله» إسعافاً إلى المستشفى، على إثر هجمة احتشاء في القلب، كان الصباح كما هذا، بارداً وباكراً، وأنا أدوس بدال السيارة كي أسرع بإنقاذه من حشرجة التنفس، فجأة سكت صوت أنينه، نظرت إليه جزعاً، فرأيته يشبّ بنظره هادئاً ساكناً منتظماً عبر نافذة السيارة، ينظر بشوق وحب إلى وجوه الفتيات والفتيان وهم يسعون إلى مدارسهم، قال: عد بنا إلى البيت فمن يخفق قلبه حباً لهؤلاء، وإقبالهم على الحياة، لن يشكو من اصطخاب في قلبه.


هؤلاء الصغار، فتيات وفتيان، أطفال ويافعون، ما الذي يفتح أمام رؤاهم، في هذه الأوقات بالذات، آفاق مستقبل يسعون إليه لكي يكون أفضل.؟
ونحسب أن الحياة، وسط ما يجري، قد أغلقت صنوف أمنياتها، فتقول لنا خطواتهم الصامدة الصلبة إن الأمنيات المشروعة لن تخبو، ونحن المستقبل الآتي، نحن صنّاع الحياة، يدور شريط الذكريات، يصل بي إلى أحداث الحرب العالمية الثانية، وإلى المملكة المتحدة «بريطانيا» على وجه التحديد، يوم كان السير ونستون تشرشل رئيساً لوزرائها، كان النازيون يعملون على تدمير نسيج المجتمع الإنكليزي بالكامل، قصف من الجو ومن الأرض لا يتوقف على مدى أربع وعشرين ساعة في عملية إبادة جماعية موصوفة، حتى وصل الحال بالبريطانيين إلى اختيار عشرين شخصاً بين فتاة وصبي، وتسفيرهم إلى الدول الاسكندنافية للحفاظ على النوع بعد أن أصبح مهدداً بالفناء.
علت أصوات بعضّ المتخاذلين تطالب تشرشل أن يعلن الاستسلام، لكنه، وفي جلسة لمجلس العموم البريطاني، وقف خطيباً وقال: (النازيون قادمون، سيأتون من البحر، سنقاتلهم في البحر، سينزلون على شواطئنا، سنقاتلهم عند الشاطئ، سيدخلون مدننا وقرانا، سنقاتلهم في المدن والقرى، سيدخلون لندن، سنقاتلهم في شوارع لندن وحاراتها، سيدخلون إلى هنا، وسأقاتلهم بهذه «ورفع مطرقة المجلس الخشبية»)، وانتصرت بريطانيا والحلفاء، وهُزم المشروع النازي البغيض، ودفعت ألمانيا ثمناً غالياً من سيادتها وناسها وبُناها.
في تلك الأيام العصيبة التي مرّت على بريطانيا إبان الحرب العالمية، والاجتياح النازي، والخوف من فناء النوع الإنكليزي، وفي جلسة لمجلس الوزراء البريطاني لمناقشة الأحداث وتداعياتها وطرائق التصدي والصمود، كان الهم الأساس الذي يشغل فكر رئيس الوزارة، «ثعلب السياسة البريطانية»، عندما خرج بعد انتهاء الجلسة، ليقول بكل ثقة وإيمان: إن بريطانيا بخير، وعندما سألوه ما الذي يوحي له بذلك وسط كل السواد والإحباط والهلاك المحيط، قال: ما دامت مسيرتنا التعليمية والقضائية بخير فنحن بخير.
هؤلاء الفتيان، في مسيرة التعليم الواعدة، يحملون حقائبهم، والأمل الكبير يشعّ من عيونهم المتطلّعة إلى مستقبل هم يصنعون وضاءته، هؤلاء الذين يأتون من مدن وقرى ومحافظات أخرى، شباباً بعمر الورود، يعانون من وحشة الطريق والخوف من قنص القتلة، وبُعد الشقّة، ومتاعب السفر، وقلق الأهل، لكنهم يأتون في كلّ يوم كي ينهلوا من العلم، ويقدموا فروض الدرس والامتحانات، يحفرون بصمودهم وتصميمهم على جدار الزمن أننا نحن الباقون أبداً.
يأتون في كل يوم، لا شيء يقف في وجه طموحاتهم المشروعة، وأملهم الواعد بأن الغد، دائماً سيكون أفضل.
نقول: نحن بخير، وسنبقى بخير، وهذه الوجوه المتوثّبة، هي، بشائر النور الآتي.
(*)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ «سورة القيامة آية 22».