ثالثاً- مفهوم الشاهد:
تبيَّن معنا آنفاً أن الشهادة تقوم على ثلاثة أركان، وهي أركان لابدَّ أيضاً من تحقُّقها جميعاً في الشاهد، وهي: العلم، والحضور، والبيان.
وقد يكون الشاهد مَن بذمَّته الحق، فيبيِّنه لإعلان إقراره به واعترافه، من أجل أدائه لاحقاً؛ أو قد لا يكون الحقُّ في ذمة الشاهد، ولكنَّه ممَّن عرف الحق، وبيَّنه من أجل إثبات الحق لصاحبه، وصولاً لأدائه.
بذلك يكون مفهوم الشاهد اصطلاحاً: مَن كان حاضراً وعلِم الحقَّ، ثم بيَّن هذا العلم.
شواهد قرآنية:
فيما يلي أورد أمثلةً من القرآن الكريم عن الشاهد، تُبيِّن تحقُّق الأركان الثلاثة فيه، كما تُبيِّن طرق معرفة الحق التي ذُكرت سابقاً؛ يقول المولى تبارك وتعالى في سورة آل عمران:
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِين َقَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.
الحقُّ في هذه الآية الكريمة يتمثَّل فيما أُنزِل على الرسول (ص) وهو قوله تعالى في الآية 75 من السورة نفسها: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾، وهذا الحقُّ يتطلَّب إقراراً به بعد علمه، من أجل أدائه بالإيمان به والعمل بمقتضاه.
والشاهدون في هذه الآية الكريمة هم القسِّيسون والرهبان من النصارى؛ ونلاحظ أنهم تحقَّقوا بالأركان الثلاثة للشهادة، وذلك لأنهم كانوا:
· حاضرين: وحضورهم كان حضوراً زمانيَّاً ومكانيَّاً، لأنهم كانوا يستمعون لما أنزل الله سبحانه من آياتٍ، وهذا يقتضي الحضور الزمانيَّ والمكانيَّ حال السماع.
· عالمين: وحصلوا على العلم عن طريق السمع: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ فكان سماعهم للآيات القرآنية هو الوسيلة لتحصيل العلم ومعرفة الحق، وكان تأثُّرهم بما سمعوا دليلاً على حصول هذه المعرفة ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾؛ ثمَّ بعد ذلك:
· بيَّنوا علمهم: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا﴾؛وقولهم: ﴿ربَّنا آمنَّا﴾ تأكيدٌ منهم على أن ما سمعوه هو الحق الذي يستوجب الإيمان به، وقد فعلوا؛ وهذا أقوى أنواع البيان.
ولأنهم أكملوا أركان الشهادة فقد دعوا الله ربهم أن يكتبهم مع الشاهدين ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾؛ ونرى أن الله عزَّ وجلَّ قد استجاب لهم دعوتهم، وأثابهم على شهادتهم: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾.
والمثال الآخر الذي ورد في القرآن الكريم جاء في سورة يوسف عن تحصيل المعرفة بواسطة الفكر والملاحظة والاستنتاج العقلي؛ فقد استُدعيَ رجلٌ لم يكن حاضراً في مكان الحدث، ولم يسمع أو يرى مشهد الحدث؛ ورغم ذلك كانت شهادته مقبولةً ومعتبَرة:
﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
الحقٌّ المطلوب بيانه في شهادة الشاهد هنا يتمثَّل في الفصل بين قول امرأة العزيز، وقول سيدنا يوسف على نبيِّنا وعليه السلام، لأن قول كل منهما يترتَّب عليه حقوقاً للآخر في حال ثبوته؛ جاء ذلك في الآية التي سبقت: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾.
ونرى هنا أيضاً أن هذا الشاهد الذي شهد في المسألة قد تحقَّق بالأركان الثلاثة، لأنه كان:
· حاضراً: حضوراً زمانيَّاً فقط؛ لأنه لم يكن حاضراً في مكان الحدث، ولم يرَ أو يسمع ما دار بينهما.
· وعَلِم: بوسيلة معتبَرة هي ما يُطلَق عليه اليوم دليل القرينة، أي معرفة الحقيقة بحقيقةٍ أخرى، والحقيقة الأخرى هنا هي الأثر الناتج عن الفعل، ويتمثَّل بقدِّ القميص من قُبلٍ أم دُبرٍ؟
· وبيَّن علمه: بقوله ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
نلاحظ هنا أن العلم الذي بيَّنه، والذي توصّل إلى معرفته بدليل القرينة، هونتيجة خبرته الفكريَّة؛ وهو – أي الشاهد -بهذا ينطبق عليه ما يسمّى اليوم بالخبير لدى المحاكم، وخبرته هذه تُقيمه مقام الشاهد الذي سمع أو رأى؛ وهذا ما وصفه به ربنا جلَّ وعلا ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾.
إذاً، أركان الشاهد – كمصطلح قرآني - هي ثلاثة أركان: الحضور؛ العلم؛ البيان.
رابعاً- مفهوم الشـهـيد:
لا شكَّ أن المفهوم الاصطلاحي للشاهد معروفٌ بشكلٍ أو بآخر قبل تحديده السابق، لكن الإشكال الحقيقي القائم هو في مفهوم الشهيد !
وقد وجدتُ – بفضل الله ومنَّته – أن الشهيد هو من يتحقَّق فيه ركنان فقط من أركان الشهادة، وهما: الحضور والعلم.
والآية الكريمة التالية من سورة البقرة توضح ذلك بجلاء:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَايَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَادُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
نلاحظ في هذه الآية الكريمة أن الله عزَّ وجلَّ قد أطلق صفة الشهيد على مَن يُدعى لحضور عملية المداينة كي يعلم شروطها وتفصيلاتها، وذلك بقوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾، أي ادعوهما ليكونا:
· حاضريْن: ليشهدا عملية المداينة. وليكونا:
· عالميْن: بشروطها وتفصيلات الحقوق فيها.
ثم أكَّد على هذه الصفة بقوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَادُعُوا﴾ أي إنَّ صفة الشهيد تبقى ملازمة لهم بعد حضورهم وعلمهم، وذلك لحين دعوتهم لبيان شهادتهم (علمهم).
فالشهيد في هذه الآية قد تحقَّق بركنين فقط من أركان الشاهد، وهما الحضور والعلم.
وفي هذه الآية الكريمة أيضاً، يُبيِّن لنا الله عزَّ وجلَّ أمراً مهماً جداً فيما يتعلق بالشهداء، وهو حمايتهم من أي ضرر قد يلحق بهم جرَّاء علمهم بموضوع الشهادة، وهو ما يُطلَق عليه اليوم: برنامج حماية الشهود؛ وذلك بقوله جلَّ وعلا: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَاشَهِيدٌ﴾ أي يجب عدم إلحاق أي ضرر بهم، سواء قبل أداء الشهادة أو بعدها. والتحذير من ذلك - إلحاق الضرر- واضحٌ وخطير: ﴿وَلَايُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي خروج عن شرع الله ومنهجه القويم.
في سورة المائدة، يقص علينا ربنا عزَّ وجلَّ على لسان سيدنا عيسى عليه السلام كيف أنه وصف نفسه بأنه شهيدٌ على أمته، وذلك لأنه كان حاضراً بينهم، عالماً بما يصنعون، ولم يُبيِّن بعدُ شهادته يوم القيامة: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
وبذلك يكون مفهوم الشهيد الاصطلاحي:
مَن كان حاضراً وعلِم الحقَّ، ولم يُبيِّن بعدُ ذلك العلم.
من هذا التحديد لمفهوم الشهيد، نرى أن الصحيح أن نسمّي مَن يُستدعى لحضور عقد زواج أو عقد بيع أو ما شابه، الصحيح أن نسميه شهيداً وليس شاهداً كما هو دارجٌ ومألوف. لأنه لا يصبح شاهداً إلا بعد بيان شهادته.
(يتبع)