وصلني من أخي الكريم الأستاذ محمد أحمد بابا ..
جزاه الله خيرا
--------
العام السابع
سلسلة (في النفوس خفايا وعلامات) رمضان 1438هـ
المسألة الأولى (إنها صفية) 1438/9/1هـ
تتعكر النفس حينا دون سابق استعداد في اضطراب تصورات نحو موقف أو حادثة دون أن يتكلم اللسان أو تكون للإنسان مادة إمساك أنه في اتجاه فهم خاطئ ، وتلك عادة وصبغة ربانية حين خلق الله النفوس فسوّاها أصلا ، وجعلها مجال تأثر بالحادثات نحو اليمين أو الشمال ، وواجب طبيعي أن يكون احتمال الارتداد نحو سوء ظن أو قريب منه من توقعات الفاهمين واستراتيجيات المربين وفلسفة إدارة وإشراف القادة أو المديرين ، فما من بد أن يفرغ القائم على تحقيق هدف عال ورؤية سامية جهد بصيرته ليلتقط جرس الإنذار ويحيط بعوامل التأثير حتى يزيل الغباش في الوقت المناسب لتعود النفوس التي يتعامل معها حيث يريدها مطمئنة هادئة تستجيب لما يدعوها إليه من خير ..
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى لرجلين من الأنصار علاج نفسيا سريع المفعول حين قال لهما وهما يريانه في غلس يصاحب امرأة في طريق إعادة (على رسلكما إنها صفية) في حسم موقف محتدم داخل النفوس غير ظاهر البيان إلا لمن ألقى خلاصة السمع والتفكير والفراسة وهو شهيد الحواس مستعمل الخواص التفقدية ، لتكون علامة الاحتمال هي وسيلة الاستدلال ، ومجموع الحال هو فاتحة فصد المكدرات ، على الرغم بأن النفس في هذه الحالة من التشتت نحو الفهم قد لا تصل إلى أقصى حدود سوء الظن ، لكنها إن لم يتداركها الفارهون في تحقيق العلامات صائرة نحو استفحال التطرّف وشيطنة الأفكار ..
لذلك فلعل التدريب والتعليم على مهارات الاستيضاح ومسلكيات السبق في جلاء ما في الصدور حين المخاطبة والمخالطة مع الناس في ميدان قطع الطريق على تسرب فهوم الظالمين أولى الأمور بالرعاية والاهتمام ، فكم من مشهد مقتطع مما قبله و مجتزء مما بعده عرض على الناس فحارت النفوس فيه فهما ولو في إسرار كلام وتمتمة رأي ، ثم بنى أصحاب الضلال وراغبي الفتنة عليه من الاستطراد ما يعيق علاجاً مع الزمن ويجعل المهمة أصعب مع الترك والإهمال ، وما وجدت أسلوبا يفي بهذا الغرض أنجع من ثوابت الحقائق أولاً بأول بدراية العارفين ومراقبة الفطناء الأذكياء بمآلات الأمور واحتمالية العواقب . والله أعلم
المسألة الثانية (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً) 1438/9/2هـ
تحمل الحادثات تعبيراً أو سكوتاً أو تغافلاً أو تفاعلاً محط نظر المستيقظين لمعرفة الانطباعات وقياس وجهات النظر ، وما الحياة الدنيا وما فيها إلا مجال تدبر وتفكر في هدوئها وبرمجة تكوينها وطبيعة سير أنظمتها ، فما بالك إذا انضم إلى كل ذلك فعل أشخاص وتصرفات أناس على أعين متابعين وفي حضرة متربصين أو فاحصين! وعلى ذلك فإننا حين نقوم بالأعمال أو نتفوه بالكلام قصداً ونحن في سدة الرؤى ومنبر الملاحظة لا شك نتوقع ردة فعل بأنواع وأشكال مختلفة تدل على مكنون نفوس من نستهدفهم ، وما بين قناعة مزجاة أو تبعية لا ضابط لها وفلسفة اعتراض دائمة دون مبررات أو تأطير وتصنيف يتبعه إقصاء وحنق وربما كراهية فعداوة فقتال يقف العاقل ممسكا بعلامات تدله على أعين الأشخاص فيعرف جماعته ليقيس بذلك كلمته .
وكم من شيطنة لفئة أو تحريض على قوم أو قول قاله صاحب إذاعة أو تصرف أعلنه ذو شهرة أوقع في النفوس هرجاً ومرجاً قاد الكثير منها للشك أو ضياع التصورات فنتج عن ذلك خلاف واختلاف بني على فوضى تشرذمات .
والقارئ لقصة موسى عليه السلام مع الصالح الذي علمه الله تعالى من لدنه علماً يعرف مدى تأثير الأفعال على مقياس الصبر عند عدم الفهم ، ولعلي أستطيع أن أقول بأن المعرفة المسبقة بحال الواقع تحت تأثير التعليم أو التلقي تجبر الممارس للنصح أو الإفادة على فك أسوار الأسباب عند نقطة معينة كما فعل ذلك الرجل مع نبي الله موسى عليه السلام في آخر المطاف فأخبره بتأويل ما لم يستطع عليه صبراً .
ففي النفوس خفايا الاعتراض ودقائق الاستغراب والاستعجاب وربما التكذيب أو التخوين والتهوين وهي لا تبديه انصياعاً للإذعان حسياً أو معنويا ، لكن علامات الفهم أو التقبل بادية لمن ركز في وجوه القوم أو عالج بالتحليل قليل كلامهم ليبادرهم بالسبب فيقتنع السامعون أو يكون لما أنكروه مجال تفاهم وأخذ ورد .
وحسبك من الخطأ أن تملك زمام أمر في مجموعة عمل أو طائفة ولاية أو حال وصاية ونحو ذلك وتتأبط الفعل دون بيان جاعلاً السكوت علامة الرضا وهزّ الرؤوس علامة الاقتناع ، فصبر الصامتين ينفذ ليخرج منهم يوماً من يهدم بهرجة البرامج باعتراضات الضعفاء . والله أعلم
المسألة الثالثة (وكرهت أن يطلع عليه الناس) 1438/8/3هـ
مجاهدة الحال كي يظهر وفق راغبة من اختاره عملية فائقة الاعتبار لا يحسنها كثير من الناس ، ولو نجح بعضهم في إخفاء التبعات قصداً لأن تبقى الأمور عادية الظهور فإنهم ما إن يفرغون بذواتهم إلا وبلغ بهم الأسى مبلغ اللابس لثياب صوف في زمن حر ينتظر نزعها حين فرصة ، ومن إشغالات النفوس المؤثرة على الفراغ لأية مهمة أصلية أن ينصرف الإدراك والعقل إلى إحاطة الصورة بغلاف زور أو إطار تغطية ، وما عمل الفرد منا حينذاك إلا ناقص جودة وقليل تمام لأخذ الحواس قسطا كبيراً من مناطها نحو مراقبة الخروقات حذراً من ملاحظة الأعين وتقييمات الجلساء .
وحديثه صلى الله عليه وسلم مورد لعلامة تدل على الإثم من حيث هو بقوله (وكرهت أن يطلع عليه الناس) بالغ الإضاءة في هذا الصدد ، ليكون مقياس الإفصاح مصب التقدير ابتداء من الحكم الذاتي العمومي قبل الغوص في فرعيات الاستفتاء عن الحرام والحلال ، ومن ينتقد وجود ركن متين في خواص الأحكام متعلق بالعقل الجمعي الذي يمثل الآخرين ربما لم يدرك العلامة حيث هي خالية من الشوائب بريئة من خلفيات اعوجاج الفطرة السليمة .
وفي كل نفس من خفيات المخالفة الفعلية والقولية والقلبية ما يجعل انتقاء شكليات التواجد مع الخلطاء فوارق العباد بين بعضهم البعض ، ومن يلمس في نفسه علامة كره اطلاع قرينه أو رفيقه أو غيرهما على حالة فعل لا علاقة لها إلا بالمنع أو السماح فليعرف بأن ذلك دال على قليل متنامي من حمى الإثم الذي أوصى الشرع الحكيم بعدم الاقتراب منه في غالب الشئون والأحوال .
ولقد وجدت الخجل الذاتي من رائحة الإثم في كل شيء تقود للإسراف في استخدام عطور المذيبات في كل حين حتى تبدو الأمور على ما يرام ، بينما ذلك مع توارد الاستخدام أصبح هو بذاته علامة إثم نفسي خفي ، وعلى ذلك يقيس الأتقياء . والله أعلم
المسألة الرابعة (عدلتَ فأمِنت فنِمت) 1438/9/4هـ
سلطان العدل منطلق من النفوس المعتدلة تربية وقناعة ومزاجاً ، ومن لفت انتباهه ما وضعه الفقهاء من ضوابط في التعامل للقضاة حين النظر في الخصومات وميزان الاعتبار للخصمين حتى في الجلوس والتخاطب يعرف قيمة العدالة للبذل الإنساني من خفايا النفوس بعلامات البراءة من الانحياز أو الظلم ، وحيث جعلت أغلب القوانين انفكاك الحاكم من سيطرة الأهواء وإحاطة المحسوبيات وسوار المحاباة أساس الفصل ، فإن نظافة النفس من درن المردود الشخصي صفاء للنفس وعلاج لسخط المستفيد .
ودوران مسألة العدل النفسي داخل القلوب خفيّ الالتقاط إلا لمن أدرك علامات الفوارق في التعامل الإنساني ، وإن نظرة سوية واحدة في مسطرة العدل بمعرفة الحقوق الواجبة على الفرد والواجبة له تجلب نفع الحوار الموضوعي المنطقي عند اختلاف وجهات النظر ، ومن تفحص هذا الطريق في هدوء نفس وحيثيات بحث عن الحقيقية وجد نفسه ذَا راحة بال أن حكَم عدلاً وأدّى حقاً وإن اجتهد فأخطأ ، لأن استعمال الأدوات اللازمة دون ترك ولا إغفال ربما هو فيصل اللائمة في احتماليات الحيف .
لذلك وجدت وصف حالة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد توسد تواضعاً وأخذته إغفاءة الإنسان العادي من أبلغ علامات النفوس التواقة للعدل والإنصاف في قوة تطبيق وشفافية أسباب وصراحة إخطار وإخبار قلّ نظيرها بعده .
وحين بحثت عن نفس آمنة من تلفيات الانتقاد ومحبطات التشكيك عثرت على نفس الفاروق رضي الله عنه هكذا تسير ، بعد أن جعلت قاعدة العدل منطلق الأحكام ورؤية الرضا غاية ولي أمر في مصلحة مجتمع أو منظومة سياسة ، وعلامة ذلك أن لا خوف من انتقام خارج عن القانون أو فوضوية رفض أو إباء ليكون الحال على ما هو عليه بنوم أو راحة أو مشي في الطرقات كسائر الناس دون خصوصية ثقافة نفسية واجتماعية تهزم العدالة ببهرجة الشكليات .
وحين تنبع من النفوس قوة العزيمة على جعل العدل دين التعامل لا شك بأن الإنسان بطبعه العادي قادر على تمييز علامة الهدف من فرضيات الغايات .
فاعتقادي بأن عدالة النفوس مع ذاتها بحق مستحق لربها تجاه خلقه قائدة قطعاً لعدالة الممارسات حتى ينتج عن ذلك مجتمع يصدق فيه قول ربي: أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ، فتظهر من نفوس العادلين خفايا الرغبة بعلامات الأمان حيث هم . والله أعلم
المسألة الخامسة (يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) 1438/9/5هـ
من خلق النفس هو الله تعالى وهو باعث فيها دوافع للفعل أو الإحجام أو التردد بينهما ، لذلك سمح الشارع الحكيم للإنسان ما أهمه للفعل في نفسه ما لم يفعل أو يتكلم ، فما يجول في الخواطر بحر متلاطم من الأمور لا يطلع عليه إلا من قال : (يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) وهذه صيغة تحذير عالية الدقة والسيطرة والإحاطة لخفايا النفوس وهي تخفي أو تعلن أو توارب بين هذا وهذاك ، ولعل النفوس مطلوب منها مطابقة الحال قبل الفعل للفعل حين هو فعل صادر منها ، وما ذلك إلا لأن الأعمال بالنيات التي هي من أفعال القلوب .
وهنا يبرز الواقع بأن ما في النفس باق فيها ما لم تغيره ذات النفس بتدريب التحفيز ودفع الباطل بالحق كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم بشكل تدريجي حين يعلمهم صلى الله عليه وسلم الحكمة ويزكي نفوسهم بالحكمة والموعظة الحسنة .
وما يبقى في النفس من أثر سيّء ومكنون معطّل مؤثر لا محالة في تفاعله مع واجباته وتعاملاته مع الناس حتى لو أبدى براءة أو لطافة منتظراً حين غرة ليكون ممتثلاً لهوى نفسه يفعل ما يأمره به متناسياً أن الله حذره بأنه بما في نفسه عالم وخبير ومحيط .
وعلامات ما في النفوس من غير الحق أو التربص بالشر مفضية لخفايا ما فيها بالفطنة والاستدلال على الحال بالمقال وعلى الغائب بالشاهد وعلى الاحتمال بالواقع .
ومن الحذر المنطقي بين أفراد المجتمع مما في النفوس أو يزيد طغيان الاعتداء وسلطان النيل من بعضهم البعض خاصة فيما يتعلق بالجريمة الاجتماعية فيرتفع بذلك منسوب الحقد والرغبة في مبادلة السوء بمثله أو أعلى منه فلا يصدّق أحد أحداً حينها إن باح له بحب أو مودة لأن الأجواء المحيطة مخبرةٌ بانفجار عظيم مرتقب .
لكن من جعل قائده ربه تعالى والتمس طريقاً يحذر فيه من الرقيب الذي يعلم السر وأخفى تعامل مع كل ذلك ببيضاء نقية محجة ناصعة ليلها كنهارها لا تريد من الناس جزاء ولا شكوراً وإنما من رب العالمين رضا وجنة لنفس هو مولاها . والله أعلم
المسألة السادسة (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) 1438/9/6هـ
من منطوق الترغيب الإلهي نحو الإبصار في النفس نفهم مقاصد جمة تتجدد بتجدد الإبصار تكراراً وتغايراً من نفوس لأخرى ومن أزمان لما بعدها ومن أمكنة ألى مقاطن غيرها ، وحيث جاء النسق القرآني بالتساؤل عن العجز أو القعود عن الإبصار في النفس دلّ ذلك ربما عن كون هذه المهارة مطلوبة حثيثاً من كل نفس قائمة على نفسها بالتقويم والارتياد الرباني ، وحسبي أنني فهمت من جعل الإبصار داخلاً في النفس لتكون هي ظرفية مكانية له بما يعنيه حرف الجر (في) أن ذلك تجوّل داخل النفس تكويناً وإمداداً وتقلباً في مناحي الأمزجة والأحاسيس والعقل والإدراك ودوافع الأفعال والأقوال .
ومن ترفّق في تفكيره وحاول إرقاق حدسه في ماهيّة (الإبصار) سيجد مراغماً كثيرة وسعةً في محاولات كل إنسان أن يتمدد نظره في نفسه .
وحتى لو كان النص البياني يدل على محسوسات الخلْق والإنشاء من العدم حيث الحركة والحواس ونحو ذلك من عظمة الصانع إلا أن الحيْدة بالأمر كآلة تدبر نحو مراقي النفوس في التعلق بالأمور أو هجرها أو تفاعلات النيات بداخل كل مخلوق يتجه كل ذلك في نهاية عمل المطمئنين بشكر وحمد الله أن النفوس بيد خالقها ملّك حامليها بعض أمرها بأن هداهم النجدين وبين لهم الطريقين .
ومن الإبصار في النفوس أن يلتمس القلب والعقل علامات الخفايا كما ورد عن صحابته صلى الله عليه وسلم حيث جعلوا تأكيد الله في قوله (لنبلونّكم) مقياس المعاهدة أنهم على الصراط المستقيم .
وفي كل دواخل المرء ما يخفى عليه هو ذاته ويظهر لغيره ممن ينظر بروح الإبصار لا بمادة التبصّر .
ووجد كثير مثلي أن إعمال الإبصار في النفوس بين الحين والآخر من بحث عن أسباب شعور أو مسببات إحساس أو وسائل راحة أمراً تستلذ به القلوب نعمة ربها وصبغة إلهها في مساق تأديب له من علوّ المكانات ما يعرفه الذاكرون لله كثيراً والذاكرات والمهاجرون للحي الْقَيُّوم والمهاجرات . والله أعلم
المسألة السابعة (وإذا خلوا إلى شياطينهم) 1438/9/7هـ
جبلت دواخل الأرواح على الصلاحية لأي تمرد على الفطرة أو الطبيعة بما أُودِع فيها من إمكانيات الكذب أو النفاق أو المداراة ، ومن المشاهد في شواهد الحاضر وإرث الماضي أن طريق الخروج بالسلامة الحسية الوقتية من سيطرة الولاية أو القوة أو التجديد عند البعض هو أسلوب المراوغة وميوعة الموقف ولو بالإقرار اللفظي اللحظي على حساب تصرفات في الخفاء تنتظر ساعة مقتل لتعلن عن سوء نفسها حيال شيء أو أمة أو تصورات .
والفاعل في كل هذا الشتات النفسي لدى من يتبنون هذه الفكرة هو تلبّس النفس صورة الضحية والضعف والاستظلام حتى تسوّق تلك الأحاسيس للنفس الماكثة تحت هيمنة الشيطنة أن هذا التخالف بين الداخل والخارج له من المسوغات ما يجعل خارطة طريق لعمل أو استراتيجية ثقافة لمنهج .
وكثير من علامات الموافقة الظاهرية ماثلة للعيون المحضة حين تكشف المواقف بالأحداث أو المستجدات أو الطوارئ ، وما تكنه النفوس يخرج يوماً ولو في ساعة خلوة مع شياطين الإنس والجن فهم يوحي بعضهم لبعض زخرف القول غروراً للمريدين أو التابعين .
وفلسفة تكرار الولاء للقاهر فوق تابعيه موجبة لتأكيد التبعية حين الخلوة النفسية بما تضمره القلوب ليكون من كل نفس هكذا ترى مثلها يقول لها إني معك إنما كنت مع غيرك مستهزئاً ولاعباً وموارباً .
ومن المحاذير في اعتقادي أن نخشى من خلوة رجل بامرأة أجنبية كما نخشى من الأسد ولا نخشى من خلوة شيطان إنسي بزبونه حيث لا وارد من معلومات إلا منه فينتهي الاجتماع بتأصيل الولاء النفسي الحقيقي ، مع التصريح والترخيص بالنفاق الطاهري كمهنية تعامل مع غير ذلك الشيطان وأمثاله حتى تنجح المؤامرة الكبرى ويزيد المتربصون .
وأزعم بأن استهداف النفوس ببث أسلوب التخفي بالمضمر من السوء أعظم خطراً من الاستهداف الظاهر من التحريض والمنكر ، والبحث عن مهارات وقدرات ومسالك علمية عملية لمعرفة العلامات على خفايا النفوس المارقة مهمة جديرة بالاهتمام والدراسة ، وبذلك أعتقد لو نجحنا سيقول أولئك يوماً إذا خلوا إلى شياطينهم إنَّا منكم بريئون فقد هدى الله نفوسنا للحق القويم . والله أعلم
المسألة الثامنة (أقول لها وقد طارت شعاعاً) 1438/9/8هـ
مخاطبة الذات بمثل مخاطبة الآخرين بدت ناجعة تسجيعاً وتقريعاً ودعماً أو تأديباً ، فجمّ وافر من الأشخاص في التاريخ ورثنا عنهم ما كتبوه أو فعلوه مما هو في هذا السياق ، حتى وجدنا تلك الحالة ملحمة نفسية كبيرة لها بدايات وفصول ونتائج ، والبارعون في استكشاف لغة يخاطبون بها نفوسهم استحثوا غيرهم ليحذوا حذوهم حيث امتهنوا ذلك علاجاً لمشكلات مثل الخوار أو الجبن أو الفزع والخوف وربما الشك والاضطراب ، ولعل ثقافة الدين ومرامي الأيدولوجيا فائزة على غيرها من الميادين الفكرية البحتة من حيث التركيز على حوار يدور بين النفس وصاحبها في ثنائية طلب عجيبة .
وشاع في الناس مدلولات على ذلك بصورة جمل وكلمات تعطي قريباً من هذه الفكرة ، فعندما يقول أحدهم لآخر: راجعْ نفسك ، أو يقول معاتب لآخر: اسأل نفسك ، ينصرف الذهن لكثير من تصورات الانفصال عن الالتصاق بالوحدة حيث التحزئة تأتي بالخير المنشود جدالاً وكلاماً فحكماً وتغيير ميسر .
ومن أجود أنواع ما أقصده أن يقتنص الفرد بلاغة نفسية وبياناً روحياً يخاطب به نفسه لتكون المنادمة أدعى لتحقيق المأرب ، وللشعر والسحر الكلامي والغناء والترنيم دور عظيم في الوصول لمكنون النفوس حين تتحدث مع نفسها مخرجة أدباً واضعة حداً للانفلات من قيم وقواعد التوجهات .
ومن شعر قطري بن الفجاءة الذي سمعناه ونحن صغار حيث أخبرنا أنه (يقول لها وقد طارت شعاعاً) نكتشف بأن انتقاء الوقت المناسب في سرعة تثبيت للفكرة هو العامل الأساس أن تنصاع النفس لحق القصد ولو خافت منه أو فزعت .
ومن الصالحين من ورد في سيرتهم مثلك ذلك وهم أنفسهم متكلمون ومحاورون منتصرون بذلك أو مهزومون ، وهذا يدفع لغالب الظن بأن علامات على ما في النفس إيجاباً أو كرهاً حتماً ستُظهِر خفايا تهرب في أوقات الفحص والتدبر والحوار .
ومن عام كلامنا حين يقول أحدنا: قلتُ لنفسي ونحو ذلك ، والباحث في هذا يجد النفس ترد وتأخذ وتخالف أو توافق ، لتأتي بعدها مرحلة اتفاق أو تردد أو انفصام كلنا منها نائلون نصيباً قلّ أو كثُر ، ولعل مدحنا لمن يحسن التصرف وله حكمة وحنكة تعلمنا بأنه مع نفسه دائم المحاورة والحديث والجدال . والله أعلم
المسألة التاسعة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) 1438/9/9هـ
أمّ الفضائل على الكون أن بعث فيه ربنا تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للرسل والأنبياء مكملاً للدين مرضياً له إسلاماً وسلاماً حتى يوم القيامة ، فكيف إذا كان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم موصوفاً بأنه (من أنفسنا) في قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والخطاب هنا أصل في العموم وقاعدة في الشمول وأساس في الاستمرارية والدوام ، حتى يكمل التصور والإيمان الحق بالله ورسله وكتبه ، وحيث إن واجهة الامتنان علينا من خالقنا أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا فإن ذلك يفسر قول الصحابي مخبراً عنه صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ابتعث فينا ، وجاء في بعض آي القرآن: بعث فيكم ، ونحو ذلك من التعبيرات البيانية المعجزة ، فما أعجب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذات النفس مبعوث في ذات النفس بحال يجعلنا نوقن أنه صلى الله عليه وسلم مستحق لفضل على سائر الأنبياء والرسل بل والخلق بتقدير الله لهذا الشأن وهذه العلاقة الطردية بين الابتعاث ابتداء والابتعاث اتجاهاً .
ومن النفس تبدأ روحانيات الإحساس بالنبوة والبركة النبوية المصحوبة بالإيمان الواجب به صلى الله عليه وسلم والشهادة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي النفس تدور عمليات ربط ذلك الإيمان وتلك الشهادة بما هو مطلوب منا حباً وإحساساً واجباً له صلى الله عليه وسلم ليكون هو صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا وأولادنا والنَّاس أجمعين ، ولا وصول لهذه الدرجة والرتبة إلا باستعمال خفايا النفوس المهارية المربّاة على روحٍ من الله تعالى أن في الحب منه صلى الله عليه وسلم وله صلى الله عليه وسلم وبه صلى الله عليه وسلم وإليه صلى الله عليه وسلم عبادة قائدة لعيادات .
وفي حرف الجر (من) السابق لقوله (أنفسكم) مساحات تفكير وتحليل وتركيب يُبحر فيها الهائمون بحب النبي صلى الله عليه وسلم على نسق ما وصل له صحابته صلى الله عليه وسلم وهم بذلك عاملون .
وما علامات ما يخفى في النفس من حب له صلى الله عليه وسلم إلا سلوكيات الأوامر واجتناب النواهي واتباع السنة باصطحاب الحب والنية حيث الله قال: إن كُنتُم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم من ذنوبكم .
فمن اللطائف أنّ من التمس في تكوين النفس وجود نبي كريم اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم بشّر به سائر الرسل والأنبياء عليهم السلام قبله عرف أنّ إخبار الله لنا بأنه قد جاءنا رسول من أنفسنا من أبهى نعم الله التي لا تُحصى فيما يخص رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم .
واستشعار ما في النفس من الشوق والحب واللهفة والإبهار والإعجاب والانتماء له صلى الله عليه وسلم موردٌ في الإدراك علامات الإيمان وحلاوة التبعية حتى يدخلنا الله تعالى بإذنه ومشيئته جنته معه صلى الله عليه وسلم أتباعاً نفوسهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . والله أعلم
المسألة العاشرة (والنّفس كالطّفل) 1438/9/10هـ
على فرص أن تشبيه النفس بالطفل مجال لنفسي ونفس كل حالم ليكون وجه الشبه غير ما ذكره صاحب البيت الشهير من مداومة القسر وعدم إغفال القهر فإنّ في ذلك سير نحو خفايا النفس وعلامات البراءة في لطافة تعبير ، ومن الأمور التي لا يمكن أن تغيب عن أماني العالمين أنهم في مراحل من العمر يحلمون لو كانوا في حواصل طير أطفالاً نفوسهم من قطنيات سحاب ونعومة مرمر ، ولذلك فإن في النفوس طفولة البقاء على البراءة الأصلية حيناً ، وفي النفوس طفولة الفضول والتساؤلات السببية أحياناً ، وفي النفوس طفولة الضعف عن الاستمرار في جهاد المنع في أوقات ، ونفس كطفل مثل ورود كعطور وجنة بربوة وقمر بضياء ، ونفوس الناس تحتضن نفسها حيث الأطفال يحتضنون استلهام الدفء من تخيلات الأمهات ، والنفوس غاية في احتياج المتابعة دون كلل وملل كأطفال إن لم نتابعهم أهلكوا أنفسهم لولا عناية رب العالمين بهم ، وفي النفوس أصوات بكاء لقليل أثر ، وفي النفوس أنانية استئثار طفولية دون تبرير ، وفي النفوس عناد رفض فوري كما في الطفل تجاه ما يحب ، وتوحُّد الأطفال من أمراض العصر حيث لا يفهم ما يصيبهم إلا الممارسين العارفين ، وكذلك في النفوس توحد مرضي مع الذات حتى لا يفهم ما يختلجها إلا من هداه الله للخفايا بعلامات الاستدلال الطفولي حينها .
وحيث فهمنا من مبدأ الطفولة فطرة فطر الله الناس عليها نستطيع الوصول إلى أن النفوس من تلك الفطرة التي هي سنة الله في خلقه التي لن نجد لها تحويلاً ولا تبديلاً والإنسان يغير تلك النفس نحو معوجّات النواحي كما الأطفال مع الأبوين .
ثم إن سمات النفس التي تهوي إلى احتياجات الخلان والإخوان والمجتمع وخصوصيات العلاقات الاجتماعية هي ذاتها علامات الطفولة في النشء الذي لم يبلغ الحلم وهو من غير أسرته وأقرانه ضائع ومكتئب .
فالنفس كالطفل عوداً على بدء من الله وإلى الله خلق النفس من ضعف وجعلها في ضعف وإلى ضعف سائرة ولو تقمصت شدة وحديداً أو خلقاً مما يكبُر في الصدور . والله أعلم
المسألة الحادية عشر (عين الشاري حمرا) 1438/9/11هـ
في مثل لإحدى اللهجات العربية جاء قولهم: عين الشاري حمرا ، والمعنى بأن عين الراغب في الشراء حمراء اللون في دلالة على صدق رغبته في الشراء ، ومن هنا وجدت بأن علامات على النفوس الراغبة في خلق أُطر التعامل البناء تظهر في نظرات أعين حاملي تلك النفوس لمن جعل التركيز في العيون طريق فهم وإصغاء ، ومن ذلك حين تمتلك الإنسان فكرة ذات تنفيذ للحصول على أمر معين شديد الإلحاح له ففي عينيه تلك الحاجة والرغبة ظاهرة نظراً وإيماء واحتياج تحقيق ، ومن علامات ما تخفي النفوس حين المنشط أو المكره ما تبديه أطراف عيونهم في غياب الرقيب أو توقع عدم انتباه الآخرين ، والعيون شواهد القلوب تعاملاً ولغة وإبداءً لما تكنه النفوس في الحالات الطبيعية للإنسان المتجرد عن ذكاءات التورية والنفاق ، ومع كل هذا فهناك صعوبة بالغة حتى لمن تمرّس الإخفاء أن يجيد تقمص شخصية الخالي من رغبة وهو لها مذعن حقيقة في نفسه سواء كان في طريق خير أو شر .
وربنا إِذْ قال: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ، ملفتاً لنا بأن في العيون علامات على خفايا النفوس الراغبة في الخير وإن لم تجد ، وفي قوله تعالى: إلا من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، إيماءة إدراك لذلك استكشافاً واستعلاماً .
ومن الملاحظ بأن كل جهد يُغلَب إن طمع في تغطية ما في النفوس بالكلية بحيث لا يُعلَم لأحد مهما استعمل روح استجلاء ، فإن ذلك لم يُمَكّن حتى له صلى الله عليه وسلم وهو الموحى له من الله فقال له ربي: وتُخفي في نفسِكَ ما الله مُبديه .
ليبقى أن نستطيع القول بأن عيون من اشتروا رضا ربهم بالإحسان لعباده الذين خلقهم حمراء بنور الله الذي ينير به دروب الآمنين . والله أعلم
المسألة الثانية عشرة (وما أُبرّئ نفسي) 1438/9/12هـ
بعد ظهور الحقائق عادةً يبحث الاجتماعيون عن بقية دلائل وحبال تواصل مع أسباب خفية لوقائع ربما تعود لطبائع النفوس وجِبلّيات الأرواح ، وتأخذ خذه المرحلة من التحليل شكل الندامة حيناً وصورة التفتيش عن شماعة تعليق لأخطاء حيناً أخرى ، لكن القانع بأن الإنسان نفسٌ سوية الأصل في الخلق الابتدائي يعرف بأن الخالق تعالى أودع في مكنون النفوس جاهزية الخير والشر علو حد سواء ، إلا أنه أنزل علامات الهداية في جانب الحق لمن اهتدى وأصلح ونقّى النفس وزكاها ، وعلى ذلك جاء نص الذكر الحكيم قائلاً: وما أُبَرِّئ نفسي ليفتح مجالاً بأن في كل نفس نفس تهمة تشجيع على حيف تقلّ أو تكثر .
لكن العجيب هو أن المدرك وهو يبحث عن علة أو علامة تسوق إلا أن نفساً متهمة وأخرى بريئة سيجد من خفايا النفوس مت يعجزه عن الجزم بمادية معينة لواقع النفوس المتهمة وحال النفوس البريئة .
وفي غالب الحال تبقى النفوس هي مركوب الواقعين في الأخطاء يجعلونها علة لما وقعوا فيه مستندين إلى أن النفس والهوى والشيطان أعداء الاعتدال وجواذب الشر حيث كان بقول الشيطان يوم القيامة: لا تلوموني ولوموا أنفسكم ، لكنّ الغالب على الظن بأننا نمد نفوسنا بأسلحة التأثير حين نغفل عن حماية النفس بالإبقاء على الأصل لتصبح مظنة الاتهام دوماً خالية الوفاض من البراءة ترتيباً على ما نمارسه من مخالفات .
وفي علامات النفوس المتهمة ميدان كبير من عادات وخلفيات مجتمع وتعليم وحالة اقتصادية وسياسية تؤثر بشكل مباشر في مادة الدعم نحو الخطأ عجلةً أو إبطاءً فتجعلها كذلك مرجعية الاتهام في ديدن حياة الناس .
والذي يخفى في النفس أنها حين تؤزّ مؤشر الظلم وتثبت عليها تهمة التحريض تعود خانعة الحال متمسكنة القوى أنها إنما على ذلك جُبِلت ولذلك خُلِقت ، وهذه الأعذار في النفوس شبيهة بأعذار المعاندين لدين الله تعالى حين قالوا: لو شاء الله ما إشركنا وآباؤنا .
فالرفق بالنفس على أنها بريئة حتى تثبت إدانتها منطقية عدل مع خفايا إن لم تتحق علاماتها شاعت في النفس فوضى الشخصيات . والله أعلم
المسألة الثالثة عشر (الطيبون) 1438/9/13هـ
من داخل القلوب تخرج فواحات الخير تسكن استشعار المتعاملين مع بعضهم البعض فيقول أحدهم عن الآخر: إنه ذو نفس طيبة ، وحكم الناس على النفوس بالغ الحساسية والواقعية حين يكون بناء على راحة نفسية يجدونها في قوم دون قوم ، والله تعالى حين قال: الطيبون للطيبات أوحى لنا وصف الطّيب ملتصقاً بالنفوس أكثر منه بشواهد الأنظار .
وفي النفس الطيبة ما يتسع للكون بأجمله لأن البارئ جعل النفوس إذا طابت ملكت كل من لا قتْه إعجاباً وتودداً وحب بقاء ، وفي طيب النفس مجالات بحث يعرفها من يميز إحداثيات الروحانيات في وجوه الناظرين بما يهبه الله تعالى من نوره ينير به نفوساً نعمةً منه وفضلاً وإمتناناً .
وفي خبايا نفوس الطيبين حب للخير ولو افتقروا ، وفي دواخلهم دعاء للعالمين ولو سكتوا ، وفي أعينهم أنهار حنان يحتوي بالنظرات آلام الشعوب ، فالطيبون وقد امتثلوا طهارة النفس من أدران الحقد والحسد والغل والشر بل وحتى المعاقبة بالمثل جنوحاً للعفو والمغفرة هم ثمار الأديان وكرامة الأوطان ونعمة الرحمن .
وقد وجد كثير علامة الصدق دلالة على طيب النفس ، وابتسامة الوجه ولو انغلق الفم طريق النفس الطيبة تأخذ بتلابيب العيون ، وخفة الوجود والمنادمة وسعة التعاون مع الآخرين مسلكاً لتلمس نفس طيبة فيها روح وريحان وخيرٌ يحذيك منه صاحبه أو تذهب منه بطيب يعلق في منافس اعتبارك .
الطيبون نفوسهم عامرة بضيافة المتكلمين ، وقلوبهم حافلة بصدقات الدعاء وأمنيات الطّيب للناس ، وهم للطيبين أمثالهم وقود ازدياد ومتانة استمرار في ملكيّة لامٍ عبر عنها القرآن بقوله : الطيبون للطيبات تجعل عموم الفهم باحات للتدبر والتأمل .
وحتى لا يكون التعبير بأن فلاناً طيباً مدعاة لمز بسذاجة ونحو ذاك فإن اتهام المصطلح بهكذا منحى مخالف للنفس الطيبة ، وزمن الطيببن متواصل وباق ولم ينقض ما دامت السماوات والأرض . والله أعلم
المسألة الرابعة عشر (فسلّموا على أنفسكم) 1438/9/14هـ
في التحايا خبايا وخفايا كثيرة معجزة ممن شرّعها بين الناس مفاتيح للقلوب ورايات للسلام ، والسلامة والسلام والسلم والمسالمة كلها مترادفات وإن اختلفت التعبيرات آخذةٌ من اسم الله تعالى السلام تأثير البركة والصّنع والتقدير حيث هو جل جلاله قائل للشيء كن فيكون ، ولعل ما جاء به النص الحكيم من أمرٍ بالسلام على النفوس يعطي مساحة للتفكير والتدبر أن يجد ملاذاً لماهية السلام شعاراً للمسلمين .
وفي النفوس مكامن وقوع حين سماع التحية الإسلامية الربانية لا ينكرها أحد وقت سماعها ولا بعد التفاعل معها ، وكثير ما بدت علامات إطفاء الشر والبغضاء ببداية سياق السلام بين الناس ، وغالباً ما كان السلام فرصة لاستعلام من النفوس المنكرة أو المشاحنة أو الكارهة ، وفي الغوص في قوله تعالى: فسلموا على أنفسكم ما يغري بأن نفهم بأن التنصيص على إضافة الأنفس للجمع بكاف الملكية كفيل بأن يهدي الناس إلا أن خفايا النفوس بعضها من بعض فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض .
وإخراج السوء حيث الإهلاك ، وإجلاء الخير حيث التمحيص والظهور بدايته السلام بذلاً وقولاً وعطاء ومبادرة سلام تكفي كل العالم ليكون في محبة وسلام من الله السلام بمسالمة المسلمين الذين أسلموا دينهم لله تعالى بحسن قول لعباده وقوله في أرضه وكونه .
والمشاهد العاقل سوف يرى من النفوس مرآة النور والسرور ولو خَفِيَ وهي تُلقي السلام أو ترد تحيةً بسلام أو تسلم حتى ولو مع عدم موجودين حاضرين فالسلام على خلق الله تعالى ظاهراً وباطناً من لواقح اليُسر والتيسير بين الناس لتكون تلك تحيةٌ من الله مباركة .
وقد نظرتُ قي فوارق بين قوم سلم بعضهم على بعض ابتداء ثم انصرفوا لشئون حياتهم وبين قوم نسوا ذلك أو مافعلوه فوجدت اختلافاً كثيراً في مقياس اطمئنان بعلامات خوف وتردد عند التاركين في مقابل مائدة حسن نية بادية في الوجوه عند الفاعلين ، والنفس السالمة من عوائق الإحسان مُسلّمة لا محالة ، والنفس المأسورة في حبال الشحناء باخلةٌ بالسلام تعبيراً وتعزيراً لا مبرر له وفي ذلك علامات على الخفايا . والله أعلم
المسألة الخامسة عشر (وعزّة نفسي منعاني) 1438/9/15هـ
هي مقولة شهيرة جاءت في أغنية للسيدة أم كلثوم تعبر فيها عن عزة نفس ربما منعت طلب المبتغى أو التوجه نحو المرجوّ من الاحتياجات العاطفية الروحية ، لكن الذاهب بهذه الجملة السببية بعيداً حيث خفايا النفوس سيلاحظ بأن في ذلك ربط مع حوار داخلي بين حقيقة النفس وترجمة الحال إلى واقع ، ليكون المنتصر في آخر المطاف أيهما أجرأ على الاستحواذ بحواس الإنسان الخمس خلسة أو جهراً ، فكثير ما يوقن القلب بأمر تخفيه التصرفات ، وكثير ما تبدي التصرفات نقيض ما يخفي القلب ، لتكون علامات عزة النفس بادية حين الاختبار والبحث والتعرض لمواقف اتخاذ القرارات المصيرية .
والنفوس متصفة بالعزة على طرفي نقيض غالباً ، فغزة الحق واحترام الإنسان لنفسه ومبادئه إن طغت في غير تقدير للمحالّ التي تكون فيها ربما كانت تطرفاً في استخدام الحقوق مانعة من لين الجانب وإتاحة الفرصة للمصالحات ، وعزة النفوس في الكِبْر والخيلاء واستعظام النفوس هي (العزة بالإثم) التي نص عليها القرآن الكريم ، وهي كذلك الظلم والجور الذي جاء في الذكر الحكيم مفارقة بين المُبَطَن والمستبطن حيث يقول ربنا (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً) وصدق الله العظيم .
ومن يعرف في نفسه منعاً من عواطف الحب والاحترام والتذلل للمؤمنين والأحباب والأرحام والذرية والوالدين فإن عزة نفسه مانعة له من أساس الخير وجنة الدنيا ، وربي قال (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) ، فالقلوب التي لا تتعاهد قدراتها ومهارتها على جعل الحب واقعاً بالملامسة والكلام والفعل والتزاور والتهادي والعون ونحو ذلك ستقف على نفسها يوماً جبالاً صماً لا روح فيها ولا مشاعر .
وقد وجدت المبادرة في كسر النفس عن عزة مصطنعة أو مخمورة بخيال الشيطان علاجاً لكل سوء تفاهم بين اثنين ولو عظُم ، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن المتخاصمَيْن: خيرهما من يبدأ بالسلام .
نحن جميعاً نهوى ونحب ونشعر ونتعاطف وتمنعنا عزة نفس موجبة أو سالبة من فرصة استعمال فنخسر الكثير دون أن يكون للتعويض مجال تفكير .
وأزعم بأن علامة ذلك ما يشاهده كثير من نوعية تعامل بعضنا مع من يعنون له شيئاً في استغراب من يراه ، ولو كان وحده ربما سترى من دموع قلبه ما لا ترى من دموع عينيه .
وفي النفوس حاجة للضعف ترجع به لطبيعتها حتى تستجمع قواها في الحق والجد ، فلا تمنعها عزة باطلة للنفس من موجبات رحمة رب العالمين التي بها يتراحم الناس بينهم . والله أعلم
المسألة السادسة عشر (كل نفسٍ ذائقة الموت) 1438/9/16هـ
نهاية ما كان له بداية حتمية الوقوع ومن لزوميات الطبيعة ومقتضيات القدر الذي نؤمن به خيره وشره ، وظاهرة الموت واضحة الأثر والعوارض خفية الماهية والتصور ، وربما في ارتباطها بالروح والله قال: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ، هو ما يجعله في الغيب أصلاً وموضوعاً .
لكن وصف النفوس بالإماتة حريّ بالتركيز لا سيّما وإنها تذوقه بمعنى تلقاه في لحظة ثم ينتهي ، وما من عربي ذي لسان مبين إلا وفي فكره تصور لموضوع الإذاقة عندما يقرأ قول الله تعالى: كل نفس ذائقة الموت ، ويتصدر في الفهم عند هذا النص آلام وإحساس ضر في هذا السماع والتعبير ، فالعموم في النفوس ربما تحيط بكل كائن حي ولو لم يكن من الإنس ، ووصف (ذائقة) يسوق لشيء من القدر القهري الاستباقي في نظر نحو العقاب والثواب على حد سواء .
ومن هذا المنطلق وجدت النفس نذوق من الموت حين تنام جرعة تدريب ، وحين تمرض جرعة تأهيل ، وحين تتخدر أو تسكر جرعة تجربة ، وحين تسمع بموت أحد أو تحضره جرعة وصل مع العالم الآخر ، وحين تفكر فيه وتخاف منه جرعة تشخيص وتقمص .
وما لبثت وأنا أردد (كل نفس ذائقة الموت) حتى وجدت الموت من معنويات النفوس وخفاياها بعلامات واضحات حين يتوقف الأثر المتبادل بين تصاريف الدنيا ومؤشرات التفاعل الإنساني ، وتوقعت بأن مثلي كثير الذين ربما جمعوا ما في القرآن من حكاية عن الموت واصفة الإنسان نفسه أو نهايته أو تصف النفس كما في هذه الآية وشعروا بما تشعر به كل نفس هيبةً لهذا القادم الحتمي لكل ابن أنثى وإن طالت سلامته .
وفي خفايا النفوس إجلال موت قبل الموت ، وتهيئة موت قبل حصوله ، وإقدام على احتماليات موت في إيمان ووضوح رؤية شرعية مستحقة ، وموت عبر عنه الأغلب بموت الضمير ، وعدم الإحساس ونحو ذلك ، ثم ابتكر الناس مقياس ردّة الفعل التي يرغبونها دلالة على حياة النفس وعدمها علامة على أن تلك النفس في موت تام أو مؤقت ، وبدا لي بأن النفس محل للموت خطاباً وإذعاناً حين تموت وقبل أن تموت وبعد أن تموت ، وتراتيب ذلك في القرآن العظيم وافرة ومترادفة لها خفايا تفسير وعلامات بيان . والله أعلم
المسألة السابعة عشر (الظلم الساكت) 1438/9/17هـ
شاع في كثير من آيِ الذكر الحكيم تنزيه الله تعالى عن الظلم ومسبباته والدواعي له ، فما كان ربنا ظالماً للعالمين فرادى أو مجموعات أبداً ، وهو كذلك سبحانه جعل التظالم بين الخلق من معوقات النفوس نحو الخلافة في الأرض واستعمارها بما أودع فيها من مكنونات نهضة ورقيّ ، ونفوس تظلم تصوراً أو حمل معتقدات خاطئة إنما تظلم نفسها قبل أن يصل ذلك التعدي لغيرها ، ومن ذلك جعل الشارع الحيدة عن التوحيد ظلماً فقال: إنّ الشرك لظلم عظيم ، وجعل اقتراف الذنوب القلبية من عوائد ظلم لذات النفوس فقال: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، وفي النفوس خفايا ظلم لتكوينها وهي تشغل مساحات رحابتها وتستهلك مشاعرها بالظن والشك والريبة والتردد بين بذل الخير ومنعه ، لتظهر علامات ذلك جبناً وخواراً عن الاعتراف بالحق للغير أو المشاركة المجتمعية في حب وسلام ، بل وحتى عن التأمين على دعاء لمسلم بالسلامة والخير والبركة وحسن الجزاء .
وفي المقابل فإن النفوس التي ينال منها الظلم المادي أو المعنوي وتصبح مظلومة الهضم أو الجرأة فأنها حيناً تخفي ذلك الأثر تمسكاً بجوانب الإباء والإكبار فتكابد الصعوبات بحسن الخلق بذلاً للماء في وجه نار لعلها تكون في ذلك صاحبة إخماد ، ولكن خفايا نفس مظلومة تظهر لك في علامات ضيم يُقعِد عن المبادرة والهمة العالية اعتياداً على خشية المغبّة والعواقب ، وكذلك فإن مظلوميات النفوس التي لم تكن ذَا حذر من عوارض المآلات ربما تراكم فيها الإخفاء دون علامات غير السكوت أو الصمت الذي يسبق عواصف المفاجآت فينشق الصف ويرتفع سقف الحيف والتعسف والانتقام المرير .
وَمِمَّا وجده الباحثون في التجارب ما يلاحظونه من تشوهات نفسية كبيرة تلحق استمرار حلقات ظلم معين فرديّ كان أو جماعي حتى تستعصي علاجاً على أمهر المطبّبين فنخسر إنساناً بظلم كبير .
ولقد وقفت على من ظُلِمَ فنسيَ ظالمه ظلمه دون إيقاف ولا رفع فاستكمل بذلك عدة الإثم وعوامل إذكاء الأحقاد بعلامات الإهمال والاستخفاف فلجأ المظلوم لرب لا يرد دعوة مغلوب إلا بنصرته ولو بعد حين ، والمتضرر الأكبر من سحائب الظلم هي النفوس بامتياز وظهور لا ينكره أحد ، ومسح تلك الآثار يستلزم وقتاً وجهداً لو صُرف في تنمية نفوس خليّة لعمّ العدل أرجاء القلوب . والله أعلم
المسألة الثامنة عشر (ما في نفسك لا يدلك على الناس) 1438/9/18هـ
حتى وإن شاعت أمثال وأقوال راجت في أزمان وبثتها مصادر معلومات فالواقع والممارسة ربما تأتي من نفس بخبر يقين ، ففي المماحكات التي تحدث بين أشخاص وأفراد إفرازات نتائج تجعل السالمين من تأثير ذات المشكلات حُكّاماً أوصياء على التصنيف والتشخيص وفرض العلاج ، لكنّ الحق الذي عليه طبائع البشر وأساس تكوين نفسياتهم بأن كل إناء بما فيه يُخبِر نضحاً أو نزْراً ، وما ذلك إلا من صفات المتكلم أو الفاعل أو المتصرف ، ولا وجود لاستلزام كون من تَوجَّه له هذا النوع من مخرجات النفوس مستحقاً له أو هو له أهل ، بينما يصر آخرون بأن قاعدة: الطيور على أشكالها تقع ، مفيدة حيث شحناء نفس تجاه نفوس أو طيبات نفوس تجاه نفس وهكذا .
ومن خلال تربية الحقوق ومسالك الأديان نجد بأن إصلاح النفس ابتداء مؤثر في جهد يبذله الإنسان لتكون حياته مع غيره خالية من شكوك الائتمار بالمنكر أو السوء ما لم يثبت العكس بالدليل والبرهان ، وحين يتصرف شخص تجاه آخرين من داخل نفس مريضة ويقال له: ما في نفسك يدلك على الناس ، نجد تلك صدمة تعبير يُراد بها غير ما هو مفهوم منها ، فما في النفس من أصول خير وبقايا فطرة سليمة وإن اختلطت بمسببات انحرافات ليس لها الحق في تصورات تجاه نفوس أخرى أنها إن تعرضت لذات الموقف فاعلة مثل هذا الفعل ، والذي يدل على الناس تمييزاً وتفريق معاملات هو ما نشاهده منهم من عمل أو علامات وجوه تدل على خفايا نفوس ، ومن الحيف أن تكون علامات نفوسنا في خبايا إعمار هي محك الرفض أو القبول في العموم إلا في خصوصية علاقات .
وأظن بأن شيوع مثل هذا النظر في اتهامات جاهزة للاستدلال على ما في نفوس العالمين موقد لفتنة عظيمة بينهم ووسيلة لأن يتنابز المجتمع باتهامات غير مرئيّة ولا دليل على وجودها إلا في الاعتقاد بأن ما في نفسك يدلك على الناس ، وهنا يجب الاستدراك بأن ما في النفس من توجهات خير بحثاً عن مستحقين ربما يدل من باب التأسيس الحقيقي دينياً أن حسن الظن قائد للخير العظيم ، وحتى لو وجدنا من علامات على خفايا نفس أنها للسوء أقرب فليس بالضرورة أنها تستوجب السوء في المخالطين استطراداً ، فقد حمل الجاهليون في نفوسهم من الشر العظيم ، ورغم كل ذلك لم تلتئم قلوبهم على شرور حقيقية الاعتقاد في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما هو الشيطان والاستكبار ، وفي اعتراف الوليد بن عتبة عن القرآن الكريم خير دليل على ذلك ، لكنه فكر وقدّر ثم قتل كيف قدر حتى أدبر واستكبر .
فما في نفسي يدلني على نفسي صيانة وعلاجاً أو محافظة وترقية . الله أعلم
المسألة التاسعة عشر (إن تبدوا ما في أنفسكم) 1438/9/19هـ
ما يستقر في النفس يبقى فيها ولا يخرج إلا بدافعية إنسان أراد ذلك ، وفي حالات ربما تشكلّ الدموع حزناً أر الاستهلال فرحاً واستبشاراً دلالة على ما في النفوس وإن رغب صاحب النفس في الإخفاء ، كما يقال غالبه البكاء أو استحكم من البِشر ، وفي القرآن شيء من ذلك حين قال الله (ظل وجهه مسوداً وهو كظيم) وقال (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) وما ذلك التواري إلا مخافة معرفة الناس لما في الوجه من علامات على خفايا تلك النفوس أنصفت أو ظلمت .
لكنّ القصد والاتجاه لإبداء وإظهار ما في النفس مهارة وتعليم وترجمة مشاعر ، وهو كذلك واقع سلوكيات وأعمال ، وحين نفكر في ضرورة دينية طلبها الشرع للدخول في هذا الدين قولاً باللسان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله نعرف بذلك قيمة إظهار ما في النفس علامة على الملة والدين رغم أنّ أعمال القلوب في الاعتقاد مؤثرة وحاكمة ولها نصيب بيان وتأصيل ، وقد قيل: إنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً ، وحين يحذرنا الله تعالى من المحاسبة أبدينا أو أخفينا فإنه تعالى رحيماً بِنَا يدلنا على إصلاح النفس حذراً من النفاق وإصلاح العمل حذراً من الفسوق ، والنفس حمالة أوجه وجراب الحاوي وخزانة الأسرار ، منها تنطلق كوارث الكون وفيها من مواد إعمار الدنيا ما الله به عليم لمن اتقى وآصلح ثم اتقى وأحسن .
وفي سياق ذلك نجد ربنا تعالى يقول في سنة إنسانية كونية (مخرج ما كُنتُم تكتمون) ليبين للناس بأنه المتصرف قدراً في تخيير بنفوسهم التي ستبدي يوماً ما تخفيه بعلامات ظاهرة أو خفية تدل على ما انطوت عليه تلك النفوس من خير أو شر .
وأخبار السابقين وما عليه قصص الأولين وحكايات المعاصرين تدلنا أن إبداء ما في النفوس ليس بالضرورة موافقاً لما فيها بل ربما أبدت النفس بكاء في فرح وأبدت هيستريا ضحك في مصائب وقتلا في إرادة حياة وسماحة تعامل في مكنون مواربة ومداهنة ومراوغة ونحو ذلك ، وعليه ربما جرى تحذير الخالق بأن إبداء ما في النفس أو إخفائه عند من يعلم السر والعلانية سواء في محاسبته تعالى لخلقه عدلاً وقسطاساً ، وهنا تجدر الإشارة بأن استواء استحقاق المحاسبة لا يعني تساوي العقوبة أو المثوبة ، فلكل عند الله تعالى نوعية إجراء هو بها أعلم وأحق ، والمقصود بأن في النفوس من خفايا الكتمان أو خبايا الرغبة في الإفصاح ما يهتدى له بعلامات من أفعال جبلّة وطبيعة خلقية من راقبها وقت خلوّ عن المؤثرات عرف خارطة الطريق لنفوس منها تبدأ الحضارات . والله أعلم
المسألة العشرون (هي راودتني عن نفسي) 1438/9/20هـ
وأنا أقرأ سورة يوسف وقفت عند تعبير (وروادته التي هو في بيتها عن نفسه) و (إذ راودتنّ يوسف عن نفسه) و (هي راودتني عن نفسي) و(أنا راودته عن نفسه) ثم فكرت في تعبير قريب مختلف (سنراود عنه أباه) ثم قلت لنفسي وردت المراودة عن لنفس في طلب الخطيئة الشخصية ، بينما وردت المراودة المباشرة للأب طلباً للابن دون ذكر النفس ، تمهلت هنا ملياً ورحت أقول ربما تعلق الوالدين بأبنائهم أكبر جداً من تعلق نفس بشيء ، لذلك جاء التعبير بمباشرة المحاولة للذات والتكوين دون النفس ، ثم وجدتني أقول رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ، واللهم اسمح لي حق والدي وهم هكذا في تعبير قرآني متين ، ثم انفصلت عن نفسي لأفكر في مراودة النفس دون الذات بتعبير حرف الجر (عن) عند تكرار قوله تعالى (عن نفسه) فوجدتني أقول ربما فصل النفس عن التكوين الذاتي هو من أعمق ما يسمى برمجة عصبية أو إدارة ذات ، وذلك لتستطيب النفس غير الطيّب ، أو ترضى بجرح ، أو تكره خيراً ، ونحو ذلك ، فالنفس إذن هي محك أعمال الآخرين ، فمن استطاع فصل نفس عن ذات التصقت بها خيراً أو شراً ربما نجح في صنع ذاتٍ أخرى تفعل ما يريد قائدها ، وإذن فأن الوصول لنقطة التقاطع بين النفس وكينونة الإنسان هي بغية الطالبين للتبعية في سلب أو إيجاب ، ثم قلت كيف تكون تلك محاولة من نفس أخرى لم تنفصل ذات الانفصال؟ لكني قلت ربما اجتماع نفس مع رغبة في ذات هي سلاح التأثير لولا حماية الله تعالى ، وحينها وصلت لقولين في كتاب ربي سمحا لنا معرفة نفس الصديق يوسف عليه السلام وقد قال الله: إلا عبادَك منهم المخلَصين ، في استثناء نجاح إبليس في الإغواء لهذه الفئة ، ثم قال تعالى عن يوسف عليه السلام: إنه من عبادنا المخلَصين ، فكان ذلك سداً منيعاً دون نجاح بغية المراودة .
وفي حكاية المراودة عن النفس خفايا ممارسات بتحسين أو تقبيح بدت لي من الآيات فردية التوجه والعمل لتنجح أو تقترب من النجاح ، بينما المراودة الجماعية للنفوس حكاية أخرى تحتاج شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً .
ومن هنا فكرت في رد يوسف عليه السلام (هي راودتني عن نفسي) بأن ذلك دال على أن ما خفي واستُبطِنَ في النفس أصل طيّب فطري خالٍ من التعديات ، ثم تأتي تأثيرات المراودة التي تدل على التكرار مع اختلاف الطرق لتوجه نحو شر أو سوء ، ولعل علامات النفوس التي تسهل للمراودة تلك الخالية من مفاتيح التدين تربيةً وسلوكاً ، بينما علامات النفوس العصية على ذلك تلك التي حافظت على استطعام المنع والتطويع والتأديب رغبة في خفيّ جزاء أعده الله للنفوس المؤمنة . والله أعلم
المسألة الحادية والعشرون (علم النفس) 1438/9/21 هـ
حينما كثرت المعارف وزادت حصيلة المعلومات تترى من عصر لعصر حتى اليوم ، نجد بأن انفراد أجزاء العلوم بمسار بحث أضحت ميزة التخصص ، وما إن شاع علم النفس كتخصص حتى رأينا كثيراً ممن انخرط فيه قديماً أفرط أو فرط في غالب مسوحات دون تعميم ، بل إن قراء كتب علم النفس فيما أعرف من تاريخ راقبت فيه القارئين كانوا يأخذون قسط القراءة خلسة خشية انتقاد أو علناً بغية إظهار معرفة ما لا يعرفه الآخرون .
وتسمية ما يجول داخل هذه الصناديق المغلقة أو المفتوحة بعلم من ذكاء الممارسين حتى تكون النظريات أقرب للتصديق أو الاعتبار ، بينما خفايا النفوس في مباحث علم النفس قليلة البحث والتفتيش إلا النزر منها ، وفي المقابل وجدت الكلام والأخذ والرد عن العلامات والظواهر والعوارض وتشخيصها للوصول بها على أنها أمراض هو غالب نسق إرث علم النفس ، والحقيقة بأني لا أظن بأن النفس البشرية التي خلقها الله تعالى منطوية على قدر ذي ضابط مضطرد لتصدق فيه ميادين قواعد ، لكن الأصل في التكوين والفطرة الفيصل حتماً بالرجوع إليه عند الاختلاف .
واليوم وقد تفرعت متعلقات النفوس لعلم نفس وطب نفسي ومعالجة نفسية ونحو ذلك تأكدت بأن علامات خبايا النفوس شغل النفوس ذاتها لتصل إلى أنجح الطرق في تعاملات تثمر عن مصالح شخصية أو جمعية أو معنوية إنسانية . وفي علم النفس وجد العالم الغربي مساحات حريات لتسير البحوث نحو التأصيل العلمي المنضبط ثم أتاحوا الفرصة لكثير ممن الذين لا ناقة لهم ولا جمل في بحث ليكتبوا خبراتهم مع نفوس غيرهم فينححوا في جذب النفوس للاعتقاد ولو تشككت العقول ، ومن استطاع إلزام نفسه الاستمرار في النقطة الفارقة بين علم النفس والطب النفسي ونحو ذلك ربما نجح في علامات نفوس تتجدد بتجدد العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها . والله أعلم
المسألة الثانية والعشرون (أرِني حالة جوالك أعرفُ من أنت) 1438/9/22هـ
منذ ظهور وسيلة لتواصل بعيد عن آخر عبر الأجهزة ظهرت معها وسائل مرافقة للتعريف عن صاحب الحديث والكلام ، فشرّق الناس وغرّبوا في الأسماء المستعارة والصور الرمزية الدالة عليهم حقيقة أو إرادة فهم ، وبدت تلك الممارسات تتراكم فوق بعضها البعض موصلة للقدر الذي به قد يستطيع الناس استخدام الفراسة لمعرفة غيرهم دونما تحقيق هوية ، وهنا بثت النفوس غاية انصهارها في هذه الأجواء والمتعلقات متجهة نحو الإخفاء أو الإبانة أو الخلط بينهما ، وفرغت نفوس أخرى دهاليز تفكيرها للتفتيش والتخمين وربما البحث والاستقصاء .
ومن له حظ في ذلك منذ زمن علوّا في هذا الصدد حتى اليوم يجد بأن كمية المعطيات النفسية المستقاة من حالة مكتوبة في حساب أحدهم ، أو صورة يضعها ، أو طريقة عرض يتداوله في الغالب تشي لمكنون نفس تعلقت بشيء أو له وسم في شيء معين من أغلب ما يتصوره الناس في الناس ، وفوق أن اختيار الصور رمزية كانت أم حقيقية واقتباس العبارات مسروقة كانت أو مبتدعة يمهد لطريقة حوار للسالكين طريق الرغبة في التواصل ، ظهر كثير يتقصدون إيجاد الإيهام في نسق الإعلام ، ويحترقون زرع المعطيات في عوامل الانطباعات ، فتكبر المفاجآت وقت التواصل المباشر مقارنة بصورة ذهنية هلامية قطنية شارك في بنائها من هكذا نفسه وهكذا نفسها فانفجرت المفارقات تشوه أساس الأمنيات .
وإيمانا بأن السرعة والعجلة هي سمة العصر حدوثاً وتفاعلات لم تتأخر هذه الظاهرة عن الركب في النفوس لتكون كل المشاعر الإنسانية حاضرة في أقصر وقت وكل حساب تقني بسرعة البرق أحياناً حتى لو تناقضت بين حزن وفرح أو بين كره وحب أو بين يأس وحماس ، فلكل نفس غاية تود إظهار علامتها من بعيد أو قريب اصطياداً. أو حراسة مكان .
تبدو للصغار والكبار في حالات مواقع التوصل وحساباتها الأمور أكثر إغراء بالإقدام أو لإحجام أو تكوين فكرة مسبقاً لتنقضّ أو تنفُر بسبب نفوس جعلت من علاماتها ما سخرته التقنية لها ، فاشتد وطيس الأحكام الجاهزة ، واتسعت رقعة الاستعداد للخلاف وبطرت الناس معيشتها لتكون معيشة فضاء التواصل أكثر دلالة على الواقع ، ولربما الجيل الذي وعى على هذه الدنيا بفتوحات مواقع التواصل هذه أثرت في نفوسه هذه الحالات حتى أضحى القائل: قلي ما حالة جوالك أقول لك من أنت ، صادق القول احتياطاً وغلبة ظن ، والمرء بعلامات إلكترونية جديدة يصبح ماهراً حين يفكر في ربطها بمكنونات النفس واختياراتها فلا تأخذ من وقته معرفة غريب دقائق هلوسية معدودة . والله أعلم
المسألة الثالثة والعشرون (الأرواح جنود مجندة) 1438/9/23هـ
الروح والنفس ربما تكون مترادفات إطلاق حين إرادة ما يخفى على الرؤية البصرية في كيان الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم ، وحين قال ربي: وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، وقال أيضاً: ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين ، يبدأ الفكر في الباحث في النفس الإنسانية يربط بين نظرية بيولوجية علمية تتحدث عما يسمى بكرموسومات تكوين الخلايا ثم نشأة الصفات الجبلية المعنوية في النفس أو الصفات الخلْقية التصورية في الإنسان وبين شعوب وقبائل ومجتمعات وتكوينات تحوي حين تفكيكها نفوساً في دوائر تشابهات أو مفارقات ، وذلك يقودنا لنفهم كيف تكون الأرواح أو النفوس جنود مجندة ، لينتج في آخر المطاف عن ذلك بأن الأمر الإلهي القدَري في النفوس صائر ماثل قائم مستمر في هندسة تعاطي لا يعلمها إلا من خلق النفوس أو هداه ربه بعلم من عنده أو باقتداء وتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم .
والناظر في تاريخ بدء الرسالة المحمدية يلمس بأن القرآن المكّي في نزوله كان في غالب نسقه مركزاً على نفوس يذهب بها حيث جادة التقويم لتختار بعيداً عن المؤثرات خيراً أو شراً في بيعة إلهية اشترت من المؤمنين أنفسهم بالجنة إيماناً واعتقاداً يمثل وحدة الأرواح شيئاً فشيئاً حتى يصبح المؤمنون إخوة .
ومن تعرف على علامات في خفايا نفوس مشابهة امتلك جنداً تفعل له في تلك النفوس فعل الفاتحين لبلاد نشروا فيها سلاماً. ومحبة وعدلاً وتنمية ، ومن خفيت عليه تلك العلامات رجع لنفسه بعتاب جلد لا تقوى عليها متهماً العالمين أنهم له كارهون وليس ذلك من الحقيقة في شيء إلا وسوسة شيطان واعوجاج روح تحتاج بهد حين لمثلها تهديها إلى رحابة الأرض بنفس راضية حين تتقي الله وتثق في الله وتخضع لله .
ألم تر بأن في النفوس ما يغريك بالقرب وفيها ما ينهرك للابتعاد دونما فعل لكنها جندية الأرواح تعمل بنظام دقيق من حيث نعلم أو لا نعلم ، وليس في هذا الترتيب وتلك الظاهرة حكم شرعي لنكره أو نحب شرعاً بناء عليه ، إنما تلكم وسائل لعلامات في خبايا نفس كل منا حريص على سلام معها ومع غيرها في دنيا فانية هي مزرعة لنفوس إن ذهبت لبارئها ستجد ما عملت من خير محضراً . والله أعلم
المسألة الرابعة والعشرون (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) 1438/9/24هـ
أول المتضررين من أي حادث عرضي أو عام هي النفس ، وأول من يطلب علاجاً بعد مأزق هي النفس ، وأول ما يكسر في المصائب والطوام هي النفس ، والحفاظ على النفس رغم عظمة التكليف مهم ، وعلاج النفس بعد فجاءات التجارب مهم أيضا ، وقد لا تبدي النفوس خللاً عند تغير ذلك ، لكن علامات الانسياب حين تتبدل تخبر الحريصين أن في الأجواء غيماً .
ومرّ علي في حوار أحبه مصطلح "ألَم الرحمة" فسألت من جربه فقال لي: بأنه نوع إحساس فظيع يشتت ذهن المدرك حتى يسكنه من عينة الشخص الذي يرحمه بعضه أو كله وربما نفسه ، فتذكرت قول الله تعالى: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، والنبي صلى الله عليه وسلم من صفاته الرحمة ، وهو كما قال ربي: حريص رؤوف رحيم ، وهنا قال له ربه: أن لا يترك نفسه لذلك الإحساس بأن قومه لم يؤمن جميعهم أو من ممارسات لا ترضيه ، فالنفس لو استسلمت لألم رحمة جراء وضع وواقع لا نملك تغييره لذهب حسرات ، ولربما لم تعد صالحة لاستمرار مهمة .
وقد أخبرني من كنت أحاوره بأن الأطباء يتلقون برنامجاً تدريبياً يتعلق يفصل الذات عن تقمص إحساس المريض كله حتى تستقيم معادلة المعاملة العلاجية ، وقال: بأن واقع نظرة المريض ولو كانت مرضه خطيراً للحياة ولمرضه تختلف تماماً عن رحمة طبيب أو راحم ربما أضرّ نفسه إن استمسك منه التصور ولم يتفرغ لمهمة تحتاج انفكاك ذهن وتركيز وهي طب ودواء .
لذلك فإن النفس قادرة على الاستجابة للأوامر تدريباً وتعليماً ، ولولا ذلك لم يصح تعبيراً بأمرها بعدم الحزن مثلاً ، أو قوله تعالى: لا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وقوله: لا تك في ضيق مما يمكرون ، ومثل ذلك ونحوه من تسلية الخالق في أسلوب أمر لفظي داخله إرادة كونية من الله للشيء كن فيكون .
وربما هناك قدر صحي مناسب من الإحساس بالآخرين يدفع للمساعدة والعون وتقديرهم هو مناط بحث النفوس دون إفراط ولا تفريط ، ولقد بحثت عن علامات للرحمة في نفوس تفرغت للظلم والاستبداد فوجدتها رغم أجواء ظاهرها الغطرسة والكبرياء ، وبحثت عن علامات لبعض الرحمة في نفوس ما رحمت أحداً إلا رياء موقف أو تكملة برنامج فما وجدت من تلك العلامات الخفية إلا هباء منثوراً ربما يتجمع بعد حين أو ساعة ندم .
وحيث النفس محبرة أقلام كتابة تاريخ الإنسان ، فإنها برحمة الله راحمة ساعة المناسبة بالفعل ، متواصلة بالرحمة أخلاقاً وأسلوكاً في غير انحراف لحزن لن يفتأ يأكل نفس الإنسان حتى يكون حرضاً أو يكون من الهالكين . والله أعلم
المسألة الخامسة والعشرون (ومن شر حاسد إذا حسد) 1438/9/25هـ
لم يخلق الله تعالى العباد ليتحاسدوا وإنما خلقهم ليعبدوه ، وتلك العبادة لا تتفق أبداً والإضرار بالغير مادياً ولا معنوياً مهما كانت الأسباب بغير حق له أساس تكليف ، وليس في الشر المنبعث من النفس تجاه نفس أخرى مسلك جواز ولا أهلية ، وفي قصة نشأة الخلق التي أوردها القرآن ظهرت النفس تحسد أخرى بالنظر لنوعية عرقية أو تكوينية ، فكانت سبباً في عقاب أبدي لطرف ، ثم سبباً آخر لإغواء طرف وابتلائه ، وتوالت الأحداث حتى نشأ من ذرية من ابتُلي من يقتل أخاه بعلة لا اعتبار لها في حكم الله ، ومن ذلك انطوت النفوس على تراكمات شر ربما أفرزت عملاً يهدم مقومات البشرية جمعاء ، لأن الله تعالى قال: فكأنما قتل الناس جميعاً ، والنفس كما أنها ساحة سانحة مهيأة لحمل خير عظيم واحتواء أمة كاملة كنفوس الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه كما قال ربي: إن إبراهيم كان أُمَّةً ، فإن النفس أيضاً قابلة لأن تكون نار إذكاء للشرور عامة وكافة فإن إبليس قال: لأغوينهم أجمعين ، والحسد من مواد النفوس السالبة التي لا تنفك عنها إلا بدين وعبادة ورجاء ما عند الله تعالى ، وفي خفايا النفس من بذور الحسد أبواب ما لم تغلق بالرضا والإيمان بالقضاء والقدر وبأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإنها تفتح على ذات الحاسد نوافذ الهلاك النفسي العظيم الذي يشغل عن كل صلاح ذاتي ومصلحة شخصية بمراقبة الخلق وحسدهم ، وكذلك تفتح من شرور هذه النفس على الآخرين تأثير العين ومن ثمّ جرأة الأفعال تبعاً لذلك الشعور البغيض أن صاحب النعمة غير مستحق لها ، والله قد أجاب بقوله: أأنتم تقسمون رحمة ربي ، وقال عن هؤلاء: يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله .
وقد وجدت من علامات النفوس الحاسدة ولو لم تتكلم أو تفعل أنها عن الخير محجمة ، وعن التعاطف متخلفة ، وعن معالي الأمور ناكصة ، وعن حوار هادف بناء لرقي مجتمع نائمة ومتعبة ، ووجدتها كذلك لا تبتسم لنعمة سمعتها لأحد ، ولا تهنّئ بمناسبة ولا تشاطر الناس الدعاء ، بل ولا تدعو لأحد بخير حسداً أن يستجيب الله دعاءها لأحد ، ووجدتها ترى أحقيتها في مال الآخرين ولو كانوا عنها بعيدين ، وحقها في خدمات الآخرين ولو لم يكونوا لها بمعرفة .
والنفوس حين تخفي حسداً فإنها في التأثير على الآخرين أعظم ، وفي الاستدلال عليها أخفى وأدق وأخطر ، لذلك قال ربنا في عموم الاستعادة: ومن شر حاسد إذا حسد ، في إشارة لاحتمالية ذلك من كل نفس لم تكبح ذلك الجماح بدين الله ، وحين ربطت الاستعاذة في النص القرآني بحرف الشرط (إذا) فتلك لفتة كريمة بإن مجابهة الشر منذ بداية انطلاقه ، فلو انطلق الحسد ووصل للمحسود فهناك محل رقية وعلاج ، لكن درع المؤمن وحصن المسلم آيات الله تعالى العاملة في كل تحركات كونه أن يقينا الله تعالى شر كل ذي شر .
ومن وجد في نفسه امتعاضاً من نعمة لآخر فليتدارك نفسه من ذلك ، فتلك علامة على خفايا حسد ولو صغرت . والله أعلم
المسألة السادسة والعشرون (الحب أعمى) 1438/9/26هـ
الباعث على إيجاد مشاعر في إنسان تجاه آخر لا يمكن السيطرة عليه بإخفاء ما في النفس ولو بدت لذلك علامات ، ولذلك فإن النفوس هي التي ترغب وهي التي تحث وتكون في زمام المبادرة نحو الحب أو الكره وقود رحلات ، ولقد وجدت النفس تنشغل أيما انشغال بمشاعر الكره أو الحب فلا تكون قادرة على غير ذلك ، بينما لو كانت تحمل شعور حزن أو استياء فإنها تستطيع إشراك قدرتها في غيرهما ولو عظُم ، ولعل في ظاهر علامات الحب الابتسام والتجمّل والوداعة والنشاط والحماسة وحب الدنيا والناس وخفض الصوت وحسن الاختيار ليكون العشق من علامات الحب أحياناً ، وكل هذا جعلني أفهم جملة (الحب أعمى) فهماً مستقيما ينسجم مع قول الشاعر (عين الرضا عن كل عيب كليلة) فالحب أعمى عن كل عيب أو اتجاه نحو شعور سلبي يعكر صفو ذلك السبيل ، لتصبح النفس مادة سائغة لاقتحام المستجدات والشجاعة نحو المخاطرات بل والتفكير بشكل يخدم المجتمعات ، ومن الحب في النفوس ما ملأها حتى صنعت الأمة بذلك العجائب ، وما حبّ الله تعالى ورسوله إلا من ذلك الشعور لكنه نقي خالص نزيه عن نظرية (العمى) فما كان لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كامل وعظيم ، لكن المقصد ما يفعله الحب في النفوس تغييراً واستبدال مقاصد وأهداف تختلف تماماً عن النفس قبل تلبسها بها .
ومن علامات عمى يصيب نفس أحبت أنها تنظر للعيوب بادرات مميزات ، وتلمس الضيق مشاركة أرواح ، وتستغل البعد سلسبيل تعبير ، وتستثمر اللقاء العابر بهجة انطلاق ، وتفعل للرضا فارقات الأعمال ، وحين تكثر النفوس التي تحمل حباً أعمى فإنها بذلك تغض البصر عن كثير من عيوب العالمين وتخف في أمة هكذا اتجهت حدة الظنون والشكوك .
ونحن جميعاً عندما نحب تبدو نفوسنا أجمل وتبدو حياتنا أكثر إنتاجاً وحيوية نشاط ، والنفس حينما تبصر وسط هذا العمى الجميل فإنها تكره لا محالة وتظهر ما كان يخفى في سنة من رب العالمين في خلقه حين يحبون أو يكرهون .
ومن يستغرب من رؤية عيب في شخص لا يراه منادمه أو من يحبه فليعرف بأن تلك النفس وليست العيون ولا الحقائق ، والتفات النفوس عادة لفهم الأسباب يشغلها عن رؤية الصورة الكاملة ، والحب شعور بارد الطباع إن غلب سكن مناسم التفكير ومطالب النفوس ومداخل المعلومات فلا يكون لتغييره مجال إلا بحب أعظم منه ، ألم تر أن الله تعالى قال: يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله .
فالنفوس في فلسفة الحب صاحبة إذعان أو طرد دونما طريق وسط بينهما في خفايا علامات يراها المرهفون والعشاق والصالحون . والله أعلم
المسألة السابعة والعشرون (النّفس المطمئنّة) 1438/9/27هـ
لا أظنّ بأن حالة الاطمئنان تأتي إلا بعد قلق أو خوف أو خواء اتجاه ، ثم تلك الحالة ربما لا تحدث وتستقر من غير طارئ ذي مادة قوية التأثير ترافقه صيغة تفاعل من صاحب النفس ذاتها سعياً للوصول السلوكي النفسي ، وحين نزل القرآن على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في أول عهد الوحي خاف واضطرب ومنه قال دثروني وزمّلوني ثم تتالى القرآن العظيم ليكون رسول الأمة صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين وما رحمة إلا في اطمئنان نفس تهب الاطمئنان للنفوس حولها .
وفي داخل النفوس نهم كبير نحو الأمن والأمان بالهداية للطريق الذي تأمن فيه النفوس ولو تعبت الأجساد ، وقد قيل: إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسادُ ، ونتيجة طبيعية للعمل الدءوب بتربية النفس على سلوكيات الشرع أن تطمئن بالدُّربة والاعتياد مع النية لما تفعل وما تامل ثم ما تخلُص إليه عاقبةً ومردّاً .
فالنفس المطمئنّة ربما لا تستحق هذا الوصف إلا نهاية مطاف في ميزان مجازاة من رب العالمين حين نادها قي سورة الفجر: يا أيتها النفسالمطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية ، وهنا الرجوع متوافق ومتسق تماماً مع الانبعاث الذي هو أساس الابتلاء والتمحيص ليكون الاطمئنان هو صفة الآمنين المؤمنين بنور ربهم وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم .
وفي النفوس خفايا اطمئنان عظيم ربما لا يتناسب مع شظف عيش ولا مع مرض ولا مع فقر وربما لا يصدقه سامعون له عن نفوس تتصبب ألماً في صحراء حر أو باحات قرّ ، فالسعادة والاطمئنان صنوان في النفس والقلب حلاوتهما خفية وعلاماتها ظاهرة بالنقاء كالقمر ليلة البدر لمن رضي عن الله تعالى فرضي الله عنه ليرضيه .
ولطمأنينة النفس مناط الاعتدال في القول والعمل ، فالاطمئنان فيها لا يتناسب والغُلو ولا التطرّف ولا ظلم الناس ولا الاستعجال ولا غياب الحكمة والتهوّر ، والنفوس المطمئنة ليست للنفاق قريبة ولا صديقة فهي تثق في الله تعالى ووعده الحق وتؤمن بأنه لا يصيبها إلا ما كتب الله لها ، فلا إرجاف ولا تخويف ولا مفاجآت ، وأي نفس اطمأنت فإنها لذلك الاطمئنان باذلة كبذل الخير ، فقد قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا ، فما اطمئن صاحب بصاحبه عن ربه كمثل ذلك .
ومع كل هذا فشرود النفس من دائرة الاطمئنان بعد حدوثه محتمل وواقع بفعل الآخرين أو ذات النفس مع غياب حرص على أن يكون اللجوء لمن خلق النفس في تثبيتها وهدايتها وتزكيتها ، فكم من بلوى زعزعزت نفوس الناس بعد الطمأنينة وحدث كوارث لنفوس لم تكن ذات توقع ، والكفر سبب ظاهر لزوال الاطمئنان عموماً والنفس لذلك تابعة ، وقد قال الله : ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة ، ثم قال: فكفرت بأنعم الله ، ولو اطمأنت النفس فإن إعمار هذه الدنيا بالسلام المجتمعي المشترك التعاوني سيكون أجدى بعبادة رب العالمين روحاً وعملاً . والله أعلم
المسألة الثامنة والعشرون (النفوس الصغيرة) 1438/9/28هـ
ولادة الطفل هي ولادة نفْس لا غرابة في ذلك ولا جدال ،