الدكتور سهيل زكار ..مؤرخ حلب والحروب الصليبية الأول
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل
من ابرز المؤرخين السوريين ..بل ومن أكثرهم نشاطا وإنتاجا .تعرفت عليه قبل سنوات أثناء زيارتي للأستاذة الدكتورة سميرة البهلوان رئيسة قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة دمشق ، وهناك جلسنا معا يشاركنا الأستاذ الدكتور فاروق صالح العمر المؤرخ العراقي البصري ، وكان يعمل آنذاك أستاذا زائرا .وجدت الأستاذ الدكتور سهيل زكار أستاذا متميزا ،مهيب الطلعة، ذو قامة سامقة لم تنحن ، بالرغم من كبر سنه وكان –كمجايليه من المؤرخين –يقظا ، نبيها ،يحلل، ويعلق ،وينتقد ويضيف ويحلل ويزيد على جالسيه مما لايعرفونه من الحقائق التاريخية .تخصص في الحروب الصليبية وكتب وحقق كتبا كثيرة حولها وبز ما كتبه الأستاذ الدكتور ألباز العريني ،والأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور. وكانت النقطة التي فرقت بينه وبين هذين المؤرخين انه تعامل مع الحروب الصليبية بعين عربية إسلامية. في حين تعامل الأستاذين الدكتورين العريني وعاشور مع الحروب الصليبية بعيون غربية أوربية .
من مواليد مدينة حماة سنة 1936 .درس في مدارس حماة .ذهب إلى دمشق ، ودخل قسم التاريخ بكلية الآداب ، وحصل على البكالوريوس في التاريخ سنة 1963 .. نظرا لتفوقه في الدراسة ، فقد عين معيدا .ومن خلال وجوده كمعيد حقق كتابين مهمين أفاداه في دراسته في لندن هما : "طبقات خليفة بن خياط " و"تاريخ خليفة بن خياط " .وقد نشرا في دمشق فيما بعد، ومن قبل وزارة الثقافة السورية .
وبعدها رشح للدراسة في معهد الاستشراق في لندن سنة 1964 ، ضمن بعثة علمية فسافر إلى لندن ، وهناك التقى البروفيسور برنارد لويس الذي وافق على الإشراف عليه بشرط أن يتقن اللغة الانكليزية فأتقنها في مدة قصيرة ، وسجل على الماجستير وكان عنوان رسالته : " إمارة حلب في القرن الرابع الهجري –القرن العاشر الميلادي " وقد ناقش رسالته سنة 1969 . ومن اجل الحصول على المعلومات ، فقد سافر إلى تركيا وفرنسا واسبانيا وايطاليا واطلع على العديد من المخطوطات والكتب والمقالات التي أعانته في تطوير معلوماته التاريخية وتقديم أطروحته للدكتوراه في جامعة لندن كذلك وبعنوان : " إمارة حلب خلال القرن الخامس الهجري –الحادي عشر الميلادي1004-1094 م " .
عاد الدكتور سهيل زكار إلى دمشق ، وبقي في قسم التاريخ –كلية الآداب –جامعة دمشق ، ورقي إلى مرتبة أستاذ ومما فعله بعد عودته انه حقق كتاب الصاحب كمال الدين عمر بن احمد بن أبي جرادة المشهور بأبن النديم ابن العديم والموسوم ب : " بغية الطلب في تاريخ حلب " ونشرته دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع –بيروت -1988 في 12 مجلدا .
قال في تقديمه للكتاب انه عرف ابن النديم منذ كان طالبا في قسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة دمشق سنة 1961 ،" ، ثم مرت الأيام فأوفد لتحضير الدكتوراه في جامعة لندن ولدى شروعه بالعمل وجد أن أهم مصادره المتوفرة هو كتاب : (زبدة الحلب ) وعاد إلى الكتاب فتعرف من جديد على محتوياته،وبدأت معرفته بأبن النديم تتأكد وتتأصل ...كما عرف بأن لابن العديم عددا من المؤلفات منها (بغية الطلب ) ...وبحث عنه ...فلم يجده ...وبعد بحث طويل تأكد لديه أن الكتاب لم يحقق ولم ينشر .
ومن الطريف أن يشير الأستاذ الدكتور سهيل زكار إلى انه عثر على أجزاء الكتاب العشرة متفرقة في مكتبات اسطنبول ولندن وباريس والموصل .كان ابن العديم مؤرخا ، وعالما حلبيا.وقد كان يشارك في الحياة السياسية والعلمية لمدينة حلب ومن ذلك حضوره مجلس الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين لذلك ولاه التدريس في " مدرسة شاذ بخت " وكانت من اجل مدارس حلب وأرقاها .كما درس في المدرسة الحلاوية بحلب كذلك .ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كان ابن العديم رسولا من ملوك حلب إلى ملوك وأمراء الدول المجاورة الأمر الذي أتاح له التوسع في مطالبه التاريخية ، واطلاعه على الكثير من خزائن الكتب . فضلا عن الالتقاء بالعلماء والشيوخ البارزين وظل نجمه يصعد حتى صار وزيرا ولم يمنعه هذا عن التوجه للكتابة التاريخية ، فصنف عددا كبيرا من الكتب منها كتابه "زبدة الحلب من تاريخ حلب" وكتاب "الانصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن ابي العلاء المعري " .وقد طبع كتاب "الزبدة " في دمشق بثلاثة أجزاء كما طبع جزء من كتابه الإنصاف في القاهرة .بعد تعرض حلب للغزو المغولي سنة 657 هجرية هاجر إلى القاهرة وتوفي فيها سنة 660 هجرية-1261 ميلادية .
لقد كان ابن العديم –بنظر الدكتور زكار –أعظم مؤرخ أنجبته بلاد الشام .إن قيمة كتابات ابن العديم تكمن في انه اطلع على كتب مفقودة من أبرزها كتاب سير الثغور للطرسوسي أبي عمرو عثمان بن عبد الله المتوفى سنة 421 هجرية -1010 ميلادية . وقد أكدت الدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي في كتابها "مدينة طرسوس ودورها في التاريخ العربي الإسلامي " ، أن كثيرا مما ورد في كتاب الطرسوسي الموسوم " سير الثغور " ،نجده في كتاب البغية .كما نجد نصوصا لكتب ومصادر مفقودة أخرى وهذا مما أتاح لنا كتابة تاريخ أجزاء من بلاد الشام والمناطق المجاورة لها في مرحلة من أهم مراحل التاريخ الإسلامي وهي المرحلة التي ابتدأت فيها بواكير التحديات الصليبية للمشرق العربي .
يرى الأستاذ الدكتور سهيل زكار أن على المؤرخ وخاصة في التاريخ الإسلامي أن يتقن التحقيق والترجمة وان يكون ذو ثقافة موسوعية وان يتمثل بالمؤرخين العرب القدامى أمثال ابن اسحاق وابن كثير وابن الجوزي وان عليه ان يكون علميا وموضوعيا قدر الإمكان .وقد طاف الكثير من البلاد العربية ودرس في جامعات عربية كثيرة وحضر ندوات ومؤتمرات علمية عديدة داخل سوريا وخارجها كما اشرف على رسائل وأطروحات كثيرة ودرس موادا مختلفة في الدراسات العليا التاريخية وكان مستعدا لتقديم المشورة لطلبة الدراسات العليا ولم يكل ولم يمل في الإجابة عن رسائلهم وطلباتهم وقد رأيت كيف كان الطلبة متحلقين حوله وهم فخورين به أستاذا رمزا متميزا .
يقول انه قد نزع الغرور والحقد من قلبه وان أهم شيئ للإنسان أن يكون و رسالة ورسالته هي خدمة تاريخ الأمة وتراثها ويرفض مقولة ان التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرون فهم يجانبون الحقيقة ويعملون على تغيير الحقائق وفقا لاهوائهم ومصالحهم . وبشأن الاستشراق فهو يرى بأن شمس الاستشراق قد غابت وحتى جامعة لندن التي كانت مهتمة بالشرق الادنى باتت اليوم مهتمة بالشرق الأقصى ولاينكر ما قدمه المستشرقون لكنه يقول أن ثمة دوافع مريبة كانت وراء ما كتبه العديد منهم .ويطمح لان يحول مكتبته المؤلفة من 35 الف عنوان الى مركز بحثي يستفيد منه الطلبة والباحثين ويفخر بأنه في حياته المديدة اخرج قرابة 45 ألف صفحة مابين تأليف وتحقيق وترجمة وقد زار جامعات عربية وأجنبية كثيرة منها عمله ثلاث سنوات في جامعة فاس بالمغرب ويقول انه طور من خلال وجوده هناك معلوماته في مجال تاريخ المغرب والأندلس .للدكتور زكار إسهامات في تحرير دائرة المعارف الإسلامية فضلا عن موسوعات أخرى .
كتب مئات الدراسات والبحوث والمقالات ليس من السهولة جردها في مثل هذا الحيز .كما ألف قرابة 260 كتابا أشهرها : " الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية "تأليف وتحقيق وترجمة ..طبعت في دار الطبع والنشر والتوزيع –بيروت .. وتقع في 40 مجلدا قضى في تأليفها قرابة نصف قرن من الزمان .. وتعد من أوسع وأدق ما كتب باللغة العربية عن الحروب الصليبية .
تحدث عن ظروف تأليفه هذه الموسوعة فقال انه اصدر منذ 37 سنة كتابه :"مدخل الى الحروب الصليبية وعند وجوده معارا في المغرب واطلاعه على تاريخ المغرب والأندلس بشكل دقيق وجد بأن الضرورة تقتضي الكتابة عن تاريخ الحروب الصليبية وفق منهج علمي جديد روحه عربية –إسلامية .فالحروب الصليبية لم تقتصر على المشرق، وإنما قامت على جميع جهات العالم العربي والإسلامي، ومن ثم قصر دراستها من حيث المقدمات لابل حتى من حيث الوقائع على المشرق فيه نقص وتشويه كبيرين .كما أن معظم الذين عملوا على دراسة تاريخ الحروب الصليبية درجوا على الانطلاق من أوربا الغربية موطن الصليبيين .ولقد فعل هذا الباحثون الأوربيون وجرى على سننهم معظم الباحثين الشرقيين ثم سايروا نشوء الحركة ودافعها .ومن الطبيعي أن يقوم أوربي بأتباع مثل هذا المنهج برغم مافيه من تضليل وتغافل عن حقيقة ووقائع التاريخ ولا عذر للباحثين والمؤرخين الشرقيين ان يسيروا على المنهج ذاك لهذا فقد ابتدأ الأستاذ الدكتور سهيل زكار موسوعته عن الحروب الصليبية بمدخل بحث فيه أوضاع المشرق والمغرب العربيين في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي كما قدم عرضا عن أوضاع أوربا في الفترة نفسها وهدفه تقديم صورة متكاملة لما حدث وعبر قرنين من الزمان ..قرنان يعدان من أصعب مراحل الصراع الإسلامي –الصليبي في التاريخ .
ومن مؤلفاته الأخرى :
• أخبار القرامطة (تحقيق)
• مدخل إلى تاريخ الحرب الصليبية
• ماني والمانوية
• مختارات من كتابات المؤرخين العرب
• إمارة حلب في القرن الحادي عشر الميلادي
• الإعلام والتبيين في طروح الفرنج الملاعين : (تحقيق)
• الانحياز (ترجمة)
• تاريخ العرب والإسلام
• تاريخ يهود الخزر.
يؤكد الأستاذ سهيل زكار ، على أن المؤرخ ينبغي عليه معرفة أكثر من لغة أجنبية .كما أن عليه أن يتجنب الرقابة على عمله ويكون أمينا وشجاعا وان يحرص على إظهار الجوانب المشرقة والمظلمة من التاريخ .كما أن عليه أن يكون طرفا واعيا في العملية التاريخ فالتاريخ أولا وأخرا - كما يقول ادورد كار في كتابه : "ماهو التاريخ ؟ " - حوار متصل بين المؤرخ ووقائعه . وينصح الأستاذ الدكتور زكار طلبته بالسفر والاطلاع على دور الكتب والوثائق والمخطوطات ، وفي الأماكن التي تتواجد فيها تلك المصادر التي يحتاجها في بحثه ، وان لايتقوقع في مكان واحد فذلك يحد من قدراته على الحركة ومعرفة مايجري حوله . بارك الله بالأستاذ الدكتور سهيل زكار ومتعه بالصحة والعافية وطول العمر ليخدم وطنه ودينه وأمته .