السبت, 09 يونيو 2012 18:15
إن عصر العولمة هو عصر التقنية بصفة عامة وعصر تقنية الإعلام والاتصال بصفة خاصة، والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي عرفه ويعرفه عالمنا المعاصر لا يسلم من كونه أداة تُستغل لممارسة الظلم والاستبداد والقهر وكل أنواع الاستغلال في جميع مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية عامة·
الدكتور جيلالي بوبكر
إرتبطت العولمة كحتمية حضارية وضرورة إنسانية فرضها التطور الحضاري العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي والعسكري - كما يرى الكثير- وهيمنت على الحياة عامة في العالم المعاصر بالتطور الهائل الذي عرفته تقنيات وأساليب الإعلام والاتصال، والاعتماد على تقنية الإعلام الآلي وشبكة المعلوماتية في الاتصالات المختلفة وفي إنجاز مختلف النشاطات من خلال استعمال الوسائل والبرامج الإلكترونية، واستخدام وسائل وأساليب وآليات الاتصال المتطورة من أقمار صناعية ومحطات إذاعية وتلفزيونية ··· وغيرها، والحرص الشديد على تطوير تقنية الإعلام والاتصال والمعلوماتية والإنفاق الهائل على ذلك، ''لقد أنفقت أكبر ثلاثمائة شركة تقانة معلوماتية في العام 7991، ما قيمته 612 مليار دولار على البحث والتطوير، وهذا المبلغ أكثر بثلاثمائة مرة مما يخصصه الوطن العربي بأجمعه لكل أنواع البحث· وفي عام 8991 زادت هذه الشركات الثلاثمائة نفقاتها على البحث والتطوير بنسبة 31 بالمائة عن نفقات عام7991، وإنفاق العرب على البحث والتطوير مستقر منذ سنوات عديدة على حوالي 057 مليون دولار في العام... لقد أصبحت ثورة الاتصالات وثورة الإلكترونيات الحاسبات العمود الفقري لظاهرة العولمة، وإن هذه التقنيات هي الأذرع التنفيذية للعولمة، كما أن هذه التطورات الحاصلة في العالم، اليوم، لا تحدث أو تعمل على التحول من حقبة إلى حقبة، وإنها توجد عالما خاصا بها عالم العولمة بجميع جوانبه''.
إن عصر العولمة هو عصر التقنية بصفة عامة وعصر تقنية الإعلام والاتصال بصفة خاصة، والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي عرفه ويعرفه عالمنا المعاصر لا يسلم من كونه أداة تُستغل لممارسة الظلم والاستبداد والقهر وكل أنواع الاستغلال في جميع مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية عامة· وعبّر عن هذا الوضع المرحوم محمد عابد الجابري بقوله: ''إن تأثير الإنتاج السمعي البصري العابر للحدود في ثقافات بقية المناطق في العالم كان موضوع كتابات كثيرة اشتكت كلها من مخاطر انحلال الشخصيات الثقافية لتلك المناطق المتأثرة وتسطيح التقاليد الثقافية العالمية''، لأن ''أي تقدم في التكنولوجيا لابد من أن ينطوي على زيادة قدرة الإنسان على تحقيق تفرده والتعبير عن نفسه، فلماذا تفترض أنه من الممكن أن ينشأ تضاد أو تعارض بين التكنولوجيا والهوية، أليست التكنولوجيا هي وسيلة تحقيق الهوية وطريقة التعبير عنها؟... إن التكنولوجيا يمكن أن تتحوّل بكل سهولة من أداة لخدمة الإنسان إلى أداة لقهره. إن هناك عدة تفسيرات ممكنة لانطواء أي تقدم تكنولوجي على إمكانية القهر. هناك مثلا ما أشار إليه لويس ممفورد، من أن الإنسان معرض دائما لأن يعتبر شيئا ما مرغوبا فيه لمجرد أنه قد أصبح ممكنا... وقد يكون التفسير هو حاجة الإنسان الدفينة إلى إثبات تفوقه على غيره، فإذا به يحاول أن يستأثر دون غيره بالأدوات المتاحة (سواء أكانت سلاحا أم أداة إنتاج أم أداة من أدوات الاستهلاك) لمجرد الاستمتاع بتفوقه على غيره عن طريق قهره له... أيا كان السبب فإن من المؤكد أن التكنولوجيا الحديثة، أي ما طوره الإنسان من وسائل للإنتاج والاستهلاك خلال القرنين الماضيين وعلى الأخص نصف القرن الأخير، كانت تحمل خطر إخضاع الإنسان للقهر، وتهديدا لهويته وآدميته أكبر مما تعرض له الإنسان طوال تاريخه الطويل، إن إغراء الممكن تكنولوجيا، والظن بأنه لمجرد أنه قد أصبح ممكنا، هو أيضا مرغوب فيه، أكبر الآن، في ما يبدو من أي إغراء من النوع نفسه تعرض له الإنسان من قبل. كما أن خطر هذا الظن أكبر بكثير منه في أي وقت مضى، ذلك أن تطوير الإنسان لتكنولوجيا تتجاوز استعداداته وقدراته الطبيعية على التحمل، وتهدد توازنه المادي والنفسي، تزداد احتمالاته كلما زاد التطور التكنولوجي''. وتزداد مع حجم تطور التقانة درجة حب السيطرة والتملك، وقوة السطوة ونماء شهوة الشهرة والرغبة في إخضاع الآخر وقهره، وهو السائد في جو العولمة.
هذا الاستعمال التقني المتطور باستمرار في الاتصال والإعلام في مجال الحياة الاقتصادية أو في ميدان الحياة السياسية والاجتماعية أو في الجانب العسكري واللوجيستيكي أو في حقل الفكر والثقافة والبحث العلمي وإنتاج المعرفة العلمية··· وغيرها، اختزل المسافات الكبرى والأوقات الطويلة، كما حوّل الطاقة إلى مادة يستغلها الإنسان المعاصر حيثما كان، فتغير حال المكان وتبدّل حال الزمان وتحوّل دور الطاقة ومجال استعمالها، والمؤكد أن المظهر الإعلامي والبعد الاتصالي في العولمة شرط لازم لكل مظاهرها وأبعادها وتداعياتها، بل هو شرط وجودها وتحقيق نفوذها وهيمنتها ولولاه ما تجسدت إرادة هيمنة القوى الكبرى، فهو وراء الانفجار العلمي والتقني والثورة الصناعية وتطور وسائل وأساليب العمل والتأثير في الطبيعة وفي الفرد والمجتمع ووراء الازدهار الاقتصادي والتطور السياسي والاجتماعي والثقافي والعسكري وغيره، لأن أي ميدان من الميادين المذكورة لا يمكنه أن يستقيم ويستقر ويزدهر في غياب تحكمه في مجال الإعلام والاتصال داخل هذا الميدان من جهة، وبينه وبين الميادين الأخرى في المجتمع المتواجد فيه وخارج هذا المجتمع من جهة ثانية، أي في الحياة العامة.
لا يختص كل من مجال الاتصال ومجال الإعلام بالحياة الثقافية والفكرية ويقتصر عليها، فهي إذا كانت مظهرا من مظاهر الحياة الإنسانية عامة، فحقل الإعلام والاتصال هو الآخر مظهر من مظاهر الحياة، وبعد من أبعاد العولمة بل شرط وجودها ونفوذها وهيمنتها، لأن انتشار ثقافة العولمة والترويج لها، ثقافة الغرب والأمريكان، الفكر الليبرالي وثقافة الحداثة والتحديث وسائر قيّم ودلالات النظر والعمل والممارسة في الغرب الحديث والمعاصر، وتغلغل الفكر الليبرالي السياسي والنهج الديمقراطي في حياة الناس عبر كل مناطق العالم، وانتشار اقتصاد السوق فلسفة ونظاما وإنتاجا واستهلاكا وتجارة في كافة جهات المعمورة، وبسط النفوذ العسكري للمركز على كافة الأطراف وفي كل جهات الأرض، كل هذا من صنيع التطور والازدهار الذي عرفته تقنيات وأساليب ووسائل الاتصال والإعلام، بالإضافة إلى ما حققته هذه التقنية من تطور وازدهار في جانب نقل الأخبار وبثها والدعاية والإشهار، وفي تقديم أنشطة التسلية والترفيه واللهو واللعب وكافة أنشطة المتعة والراحة، حتى أن الإنسان غرق في بحر قطاع الإعلام والمعلوماتية، لما فيه من تنوع هائل في أجهزة البث والإرسال، وتعدد كبير في قنوات التواصل الإذاعي والتلفزيوني والمحطات والأقمار الاصطناعية··· وغيرها، كما يشهد القطاع الإعلامي ظاهرة التخصص الضيق، مما زاد في تطويره وتوسيعه، فهناك الإعلام السياسي والاقتصادي والرياضي والخاص بالمرأة وبالطفل وبالصحة···وبغيرها.
يتبع