العكاكيز..
قصة قصيرة
بقلم - ( محمد فتحي المقداد)*
أبو سامر أنهكه المرض وطالت ملازمته للبيت وعدم الخروج, بسبب وجع الظهر الذي يشتبه بأنه ديسك, وقد لازم الفراش إلا للضرورات القصوى وبعد أن تحسنت صحته قليلاً, كانت الأشواق تحدوه للتواصل مع الآخرين وكان يتمنى أن يغير أجواء الغرفة وكآبتها, والموبوءة بدخان السجائر المتعاقبة منه ومن زواره, وبينما زاره أبو هاني وأبو عادل, واطمأنّا عليه وكان الحديث قد تشعّب في اتجاهات متعددة, فأبو صالح سيسافر إلى درعا لوظيفته, وأبو علي يريد البحث عن عقد عمل مؤقت لدى دوائر الدولة واتفقا على الالتقاء في التاسعة من صباح الغد.
أبو سامر أصابته الحماسة لتغيير الجوّ, ووجد الفرصة السانحة والظروف المواتية’بمرافقة الأصدقاء الذي يحبهم قلبه, والركوبة التي ستأخذه من البيت وتعيده إليه, ولعله يستطيع أن يحصل على صورة طبقية محورية لظهره.
و بعد أن تركوه للذهاب لبيوتهم قضى ليلاً طويلاً, بانتظار الموعد ليتخلّص من هواء الغرفة الموبوء والمخنوق, و يتخلص ولو مؤقتاً من السرير الذي أصبح يكرهه بقرفٍ مقيت, وشعور بأن السرير هو القيد لأحلامه و الغرفة هي السجن الذي يقيد حركته, ولو على مضض ومكابدة على نفسه, وفي ليل طويل جفاه النعاس إلى ساعة متأخرة, وهو يتقلب في فراشه يميناً ويساراً, و الريموت كنترول بيده, ينتقل من فضائية لأخرى التي حفظها وقد حالف الحظ معظمها بالمرور منه. وقبيل الفجر غفا وغطّ في نوم عميق, بعدها استفاق على صوت مؤذن الفجر والذي جاءه عميقاً رغم أن بيته تحت المئذنة لا يبتعد عنها سوى أمتار قليلة, أخيراً صحا بعد أن ذكر الله وقام لأداء الفريضة وهو يتحامل على نفسه من الألم, و الماء البارد الذي جعل القشعريرة تسري بجسده, ولكنه استراح وانتعشت روحه,وشعر بالدم يسري في عروقه من جديد, وأن الحياة بدت تدبّ في أوصاله, فانتشى ورجع للفراش بعد أن انتهائه من الصلاة, جلس فذكر الله وسبّح وقرأ المعوذات, دعا ربه بالتخفيف عنه وأن يُذهِب عنه المرض والبأس والصحة للمؤمنين أجمعين.
حاول معاودة النوم, لكنه لم يستطع, فشغّل التلفزيون, وراح يبحث عن القنوات الإخبارية التي تبث المآسي و الرعب وتنشر الكثير من الكذب والأضاليل, وهكذا استمر إلى أن استيقظت الأسرة من أجل التهيئة للمدارس و جاءته زوجته بفنجان قهوته السادة و هو الأول في هذا اليوم, احتساه على مهل على مدار حوالي الساعة, و قد نسيه لمتابعته الإخبارية.
في الثامنة والنصف رنّ الموبايل, وكان على الطرف الآخر أبو صالح الذي طلب منه أن يجهز نفسه, فأخبره بجاهزيته وأنه بانتظارهما حتى يحتسوا قهوتهم, وصلوا بعد ربع ساعة, وانطلقوا بعد الانتهاء من القهوة.
هناك في المدينة لكلٍّ منهم وِجْهةٌ هو مُوَلّيها, أبو صالح ذهب لعمله وتواعد معهما على اللقاء بعد أن ينتهي, أبو علي وأبو سامر ذهبا للسلام على صديق لهما ذو منصب مهم, بهدف مزدوج, بعد طول عناء وتعب ومشقة,فأبو سامر يعتمد بشكل أساسي على عكازته التي تعينه, ومرة يتكئ على الحائط, فوجئا بعد وصولهما للطابق الثالث أن المدير مسافر إلى دمشق, كانت الخيبة كبيرة حطمت آمال أبو علي, وألقت بظلالها على المريض الذي كابد, ولم ينل غير العناء والتعب, وعادا لنزول الأدراج وذيول الخيبة قد جعلت التذمر يَسِمُ وجوههم .
وقد فشلت خطتهما, فتشاورا واستقر رأيهما على التجول في السوق حتى يأتي أبو صالح, بعد نصف ساعة هدّ التعب جسم أبو سامر ولم يستطع التقدم خطوة واحدة فجلس على الرصيف وهو يلهث وقد اربدّ وجهه من شدة الألم, وبينما هما على هذه الحال, وإذ بأبي محمد يقف خلف أبو سامر .
فنظر إليها, وقال : ماذا تفعلان هنا؟.
ردّا وقد بدا السرور عليهما مع ابتسامة: نشحد.. !!, معقول..!!.
وبينما هم على هذه الحال, إذ مرّ بهم شحّاد يطلب الصدقة منهم, فرد أبو سامر عليه, ها نحن مثلك نشحد, أرجو أن تتابع طريقك, ويبدو أنه شحّاد حاذق و ماهر في استدرار العطف, فنظر إلى عكازة أبو سامر, وطلب إليه أن يتبادلا بالعكاكيز, كون عكازته مكان القبضة فيها كسر وتفتت, بينما عكازة أبو سامر صحيحه.. ولكن وقاحته تلك وقد تعوّد أن لا يخرج خالي اليدين من أي مكان كأنه لصقة أو عَلَقَة تنشب في جسم الضحية حتى تمص دمه, فما كان من أبو عمار إلاّ أن أشار عليه بأن ينصرف, و إلاّ نال جزاءه.
تابع الشحاد طريقه إلى زبون آخر, وعلّق أبو علي, سبحان الله!!: أناس بِهَناها وأناس بِعَزاها, العمى يضربه, ألا يرى أن الرجل مريض وغير قادر على الحركة, إن لله في خلقه شؤون, والله المثل صدق:" ركبناه وراءنا مدّ يده على الخّرج, وعلمانه الشحادة سبقنا على الأبواب".
ولم يطل بهما الانتظار وهما على هذه الحال,حتى وصل أبو صالح بركوبته التي عادت بهما وهي تلتهم الطريق وتنهب معه ذكريات الطريق الذي استنفذ جزءاً من عمر الموظفين على مدار ثلاثين عاماً أو أكثر , وخروجهم على التقاعد.
----------------- انتهى
بصرى الشام 22\11\2011