من الأسماء الحسنى ﴿الرحمان الرحيم﴾
ـ أولا: ﴿الرحمان﴾
الرحمان الرحيم اسمان من الأسماء الحسنى تضمن كل منهما وعدا حسَنا غير مكذوب سيُلاقيه المرحوم إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد ولا يخلف الله الميعاد ولا وعْدَهُ أي ما وَعَدَ به.
وحيث قرأْتَ في الكتاب المنزل اسمَ اللهِ الرحمانَ فاعلم أن الله وعد برحمة منه، ولتختر لنفسك أيها المكلف بين الشكر والطاعة وأن تسعك رحمة الرحمان وبين الكفر والعصيان وأن تحرم من رحمة الرحمان.
وكذلك دلالة قوله ﴿بسم الله الرحمان الرحيم﴾ في أوائل السور، إذ يسع المكلّفَ القراءةُ وتركُها، فإن قرأ وتدبّر واستبصر وتذكّر نال وعد الرحمان الرحيم برحمة منه، وإن قرأ وأعرض فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم،كما هي دلالة قوله ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الأعراف، وكذلك دلالة البسملة في ابتداء الطاعات على أن من لم ينتفع بطاعته فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم.
وقد وعد الرحمان في سورة الرحمان برحمة من تعلم القرآن وبرحمة السعيد الموصوف أن الرحمان علمه البيان، والذين سيخرون سجّدا وبكيا يوم تُتلى عليهم آيات الرحمان ومن خشيَ الرحمان بالغيب، ووعد بجنات عدن عبادَه الذين يمشون على الأرض هوْنا ولهم صفاتهم المعلومة في سورة الفرقان، وسيجعل في الدنيا للذين آمنوا وعملوا الصالحات وُدًّا، وسيُساق المتقون إليه وفدا.
ويعني تذكير النبيّ هارون قومه بأن ربهم الرحمان: أنّ من عبد العجل منهم فقد حرم نفسه من رحمة الرحمان، وكذلك دلالة خطاب الصّدّيقة مريم الملكَ الرسول مستعيذة بالرحمان منه، ومفوِّضة أمرها إلى الرحمان ليرحمها مما قد يقصدها به الذي تمثل لها بشرا، وقد أحصنت فرجها من قبل ووجدت نفسها أمام رجل غريب في خلاء من الأرض وقد ابتعدت عن أهلها مسافة كالحجاب لا يرونها ولا يصل إليهم صراخها واستغاثتها، ويعني نذْرها للرحمان صوما أن لن تحاسب ذا الجهل على جهله وجهالته وهو يطعن فيها ويتهمها.
وإنما المحروم من عذّبه الرحمان بذنوب قصرت به عن رحمته التي وسعت كل شيء، وأشفق الخليل الصّدّيق النبيّ على أبيه أن يمسّه عذاب من الرحمان كما في قوله ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ مريم، ويعني أن أولياء الشيطان في الدنيا أو في الآخرة هم من وقع عليهم عذاب من الرحمان كما هي دلالة قوله ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النحل، أي هم معذّبون في البرزخ، ولهم عذاب أليم بعده في اليوم الآخر.
ويا حسرة على الذين يسبّون الرحمانَ ويشركون به حسب مبلغهم من الكفر، لقد قطعوا عن أنفسهم كل أسباب النجاة وحرموها من رحمة الرحمان ولا تسل عن غرور الكافرين وهم يكفرون بالرحمان ولن يجدوا جُندا ينصرهم منه يوم يقع عليهم العذاب في الدنيا وفي الآخرة، وأشد الناس عذابا في جهنم هم الأشد عتيا في الدنيا على الرحمان.
ويا حسرة على الذين عاصروا النبي الأمي يتلو عليهم آيات الرحمان يسمعونها ولا يسلمون بل يكفرون بالرحمان، ويكفرون بذكر الرحمان، ويعني أن الرحمان لن يرحمهم.
وأيس من رحمة الرحمان الذين كذبوا وافتروا أن الرحمان اتخذ ولدا أو آلهة تعبد من دونه، وكذلك سيفتريها مبلسون في آخر الأمة وبينته في مادة ولد.
وقد عذّب الرحمان في الدنيا المكذبين بذكر ربهم ولن يجد خلفهم في آخر هذه الأمة من يكلؤهم بالليل والنهار منه.
وامتلأ حكمة رجل جاء يسعى من أقصا المدينة ليعز الرسل الثلاثة إذ علم أن من يُرِدْهُ الرحمان بضر لن تغني عنه شفاعة الشافعين.
ونسي فرعون نفسه فتكبر وعظم في نفسه كما في قوله ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الشعراء، وتبعه خلَفه من كفار قريش كما في قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ﴾ الفرقان.
ولا يزال الجاهل أحمقَ أخرقَ كأصحاب القرية الذين كذّبوا الرسل الثلاثة وقالوا ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ﴾ يــــس.
ويألف المشركون سلوكا ويكْذبون باتخاذه دينا كما في قوله ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ الزخرف.
وعلى المؤمنين بالغيب ألا يفتتنوا بزخرف الحياة الدنيا التي قد يُمتّع فيها من يكفر بالرحمان متاعا منه البيوت ذات المعارج والأبوابُ والسررُ وسقفٌ من فضة، واستدرج الرحمانُ برحمته الكفارَ ومن في الضلالة فأمدّ لهم نِعمه مدَّا حتى حسبوا أنفسهم من المكرمين عنده فمنهم من قال ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ يعني في يوم الدين لو بعث وجهل أن الـمُلْك في يوم الدين لله وحده وجهل أنه ليس من الرسل والنبيين وهم الذين اطلعوا الغيب واتخذوا عند الرحمان عهدا أن لا يعذبهم.
وإن يوم القيامة ليومٌ يغضب فيه الجبّار غضبا معلوما يُشفق منه النبيون فيتدافعون الشفاعة الكبرى، ولتُعرَضنّ جهنمُ فيه عرْضا وقد وعد الرحمان في الدنيا بالجزاء في يوم الحساب ويومئذ يعلم المكذبون من قبلُ صدقَ المرسلين.
وإن المـُلك في يوم الدين للرحمان فمن هلك فيه فليدْعُ ثبورا أن حرم من رحمة الرحمان.
وليُبعثنَّ كل منا فردا إلى الرحمان ولتخشعنّ الأصوات للرحمان من رهبة الموقف ومبلغ الخطب ويخسر الذين كانوا يسبون الرحمان في الدنيا.
وإنما أذن الرحمان بالشفاعة في يوم القيامة لمن اتخذ عنده عهدا في الدنيا أن لا يعذّبهم وهم الرسل والنبيون.
وتعني الضراعة إلى الرحمان في آخر سورتي الأنبياء والملك أن المسلمين سيعجزون عن دفع الفتن والهرج والمرج والقتل والاستضعاف وعليهم أن يؤمنوا بالرحمان وأن يتوكلوا عليه ويستعينوا به ليحكم بالحق بينهم وبين عدوهم المتغلب، ولعلها مرحلة قد بدأت وفتنة قد اشرأبّت.
ولقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام لأجْل أن يُعبدَ فيهما، وتضمن تفصيل الكتاب المنزل الاستواء على العرش سبع مرات أي في الأعراف ويونس والرعد وطــه والفرقان والسجدة والحديد وأسند الاستواء إلى الله في غير الفرقان وطــه وإلى الرحمان فيهما، ولا يَفتقر القرآن إلى تأويلنا نحن المكلفين القاصرين بل يفسِّرُ بعضه بعضا ويستدل ببعضه على بعض، وعلم أولوا الألباب أن الله ما خلق السماوات والأرض باطلا بل لأجل التكليف والجزاء في اليوم الآخر كما في سورتي آل عمران وص، وتأخر الاستواء على العرش عن خلق السماوات والأرض وما بينهما بقرينة حرف ﴿ثم﴾ المقترنة بجميع الأحرف، للدلالة على أن إجراءات المحكمة الكبرى أو القضاء بين الناس في يوم الفصل قد بدأ مع بدء التكليف والخطاب الأول على آدم وحواء لأن الله علام الغيوب سيسأل المرسَلين ويسأل الذين أُرسِل إليهم ، ويقصُّ عليهم ما اختلفوا فيه بعلم أي يعرض أعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وما كان الله وملائكته الحفظة غائبين بل كانوا شهودا على كل شأن وعمل، وكذلك دلالة المثاني:
ـ ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ الأعراف
ـ ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنُه مِنْ قُرْآنٍ ولَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ يونس
ولْيَفْرَقْ فرَقًا أولوا الألباب ولْيَخافوا ولْيُشْفِقوا من يوم يُنبَّأ الإنسان بما قدّم وأخّر، ومن نبّأه الله عرَض عليه كل شيء يتعلق بالنبإ، كذلك تعرض الخطايا غير المغفورة في يوم الدين ويُعرَض على المحتضر حين موته كلُّ شيء مما يستقبل وعُرِض على كل نبيٍّ ما يتعلق بأمته وهكذا سأل موسى ربه ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ الأعراف، لأنه رأى بأم عينيه عرْضا كُلَّ شيء فتاقت نفسه إلى المزيد، وذلك فرْقُ ما بين أن ينبّئ الله وأن ينبِّئ المخلوق فاعلم.
ويعني إسناد الاستواء على العرش إلى الله أن الله يُحَذّر المكلفين من الطغيان والمعصية والكفر لأنه سيحاسبهم.
ويعني إسناد الاستواء على العرش إلى الرحمان أن الرحمان لم يعجل بعقوبة العاصين والمبطلين بل أمهلهم إلى يوم يجيء ربنا والملك صفا صفا ويحمل عرش ربنا يومئذ ثمانية.
وعجبي من المفسرين كيف وسِعَهم الإعراض عن الحدَث الخطير في المثاني:
ـ ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾
ـ ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ الشعراء
ـ ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيَّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ طـــه
ولقد كانت الإنجيل ذكرا مُحدَثا بعد التوراة وكان القرآن ذكرا مُحدَثا بعد الإنجيل، وبينته في مادة حدث وذكر صحف وكتاب، وأشفق من الوعد في قوله ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ الزخرف.
يتواصل