بسم الله الرحمن الرحيم
الكلمة الحادية والعشرون : وصل وقطع بئسما
بئسما بالقطع والوصل كلها وردت في أهل الكتاب، وقد انقسم فعلهم على حالين؛ حالة يعودون فيها إلى المعصية أو الشرك والكفر بعد الخروج منه، وحالة يخرجون من إيمان وطاعة كانوا عليها؛ فإن كان العودة لكفر سابق كتب بالوصل، وإن كان الخروج من إيمان سابق كتب بالقطع.
وردت بئسما تسع مرات؛ قطعت في ستة مواضع، ووصلت في ثلاثة منها؛
فقد وصلت في قوله تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَـاـنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ (150) الأعراف.
كل رسول يرسل لقومه إنما يرسل لإخراجهم من البؤس الذي هم فيه، وعلى رأسه الإشراك بالله عز وجل؛ فعندما يرجعون إلى إشراكهم بالله بعد خروجهم منه؛ إنما هم يستمرون على الحال الذي كانوا عليها من قبل؛ وعلى ذلك كان الرسم بوصل بئسما.
ووصلت في قوله تعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَـاـفِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(90) البقرة.
كان هذا الفعل من أهل الكتاب الذين كانوا يبشرون بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ ويستفتحون على الذين كفروا به؛ فلما جاء النبي بالكتاب الذي نزل عليه مصدقًا لما معهم؛ كفروا به واستمروا على ما هم عليه من البؤس الذي هم فيه، فعلى ذلك كتبت بالوصل لا القطع.
ووصلت في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاـقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا ءاتَيْنَـاـكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَـاـنُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(93) البقرة.
فهذا تذكير لهم بكفرهم السابق أيام موسى عليه السلام وفساد فطرتهم في كفرهم بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فكتبت مثل السابقات على الوصل لا القطع.
وقد قطعت في قوله تعالى: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(102) البقرة.
في الآية تحذير من تعلم السحر الذي يقطع الإيمان السابق قبل تعلمه؛ وعلى ذلك كتبت بالقطع لا الوصل
وقطعت في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاـقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـاـبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ(187) آل عمران.
فقد قطعوا العهد الذي أخذ عليهم بعدم كتم ما في الكتاب، وقد كتموا أمر الله إليهم بالإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام ونصرته، فالحديث عن كتم العلم وإنكاره، وقد حفظوه زمنًا طويلا من قبل، أما الكفر به فهو عودة لما كانوا عليه، وعلى قطعهم للعهد جاء الرسم بالقطع كذلك.
وقطعت في قوله تعالى: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَـاـرِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62) المائدة.
مسارعتهم في الإثم هو خروج عن طاعة الله تعالى؛ بعد أن تعلموا العلم الذي أوصلهم ليكونوا أحبارًا ورهبانًا، فأقدموا على قطع ذلك بالمعاصي والإثم وأكل السحت، وعلى ذلك جاء الرسم بالقطع كذلك.
وقطعت في قوله تعالى: (لَوْلا يَنْهَـاـهُمْ الرَّبَّـاـنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63) المائدة.
والآية أيضًا متعلقة بالأحبار والرهبان الذين في الآية السابقة؛ ففيها بيان أيضًا بقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بالسكوت عن القائلين بالإثم والآكلين للسحت، فكان الرسم بالقطع موافقًا لهذا القطع منهم.
وقطعت في قوله تعالى: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) المائدة.
لقد كان عندهم من الأحكام ما يجعلهم يفرقون ما هو معروف وما هو منكر؛ فقطعوا العمل بالمعروف إلى العمل بالمنكر، فعلى ذلك جاء الرسم بالقطع.
وقطعت في قوله تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَـاـلِدُونَ(80) المائدة.
فهؤلاء هم نفس السابقين؛ فتوليهم للذين كفروا هو قطع آخر منهم لما يؤمرون به في الكتاب الذي أنزل عليهم، فكذلك كان الرسم بالقطع أيضًا.