سِيرَةُ رَجُلٍ
... ثم يحمل كرسيه الخشبي العتيق ومذياعه الصغير .. يحملهما كلما ارتفعت الشمس وابتعدت في السماء عن مشرقها .. يمسك الكرسي باليد اليسرى، وبيمناه يمسك المذياع، ثم يركب خطاه مغادرا بيتا له فيه من الأيام والذكريات التي لن ينساها العدد الكثير .. يلقي بقدميه المتعبتين على أرضية الزقاق المتجعدة، فيترك الانحدار يسحبهما من تحته، بين ارتعاشة ساقيه وانحناءة رأسه المشتعل شيبا .. أما بياض عينيه المنتفختين جراء السهر والأرق، فقد علته حمرة شديدة .. على قدميه يمشي موقعا حديثا أخرسته حمى الهذيان حتى يبلغ بهما منتهى الزقاق في الأسفل ...
صباح الخير .. تحية يبديها لهذا وذاك، وهذه وتلك، وقد علت محياه ابتسامة ضامرة تنازعه التحية في صمت، بينما ملامح وجهه البارد تنطق بغربة أيامه بين الأيام .. اللقب غلب على اسمه، ومع توالي الأيام صار يفخر بما لقبه به أناس كثيرون يعرفهم ويعرفونه، منهم القريب ومنهم البعيد في النسب، وكلما ذهبت الخمرة برشده يرسل ذاك اللقب الذي صار ملازما له بصوت مرتفع، وكأنه يحاول إنشاده في وقت أطبقت فيه ظلمة الليل على كل ما كان مرئيا طوال النهار، ثم ينطلق لسانه بزغردة طويلة، قد يكتفي بها دون مزيد، وقد يلحق بها ثانية وثالثة .. تمضي تلك الزغردة أو تلك الزغردات في الزقاق مسموعة تشق سكون الليل ..تمضي من بيت غدوه معلنة رواحه، وسكره الساهر معا ...
ألف كرسيه العتيق حتى صار مطيته وجزءا منه، ولزم مذياعه الصغير حتى صار أنيسه الوحيد في سره وعلانيته .. في أمكنة مألوفة لديه ومعلومة عند الناس .. يمكث صحبة كرسيه ومذياعه مددا من الزمن، قد تطول وقد تقصر، يستقبل أشعة الشمس الدافئة بوجهه البارد الأسمر، وحيث مالت الشمس يميل، وأثناء ذلك يظل يوزع رسائل متنوعة ومتميزة في آن على كل من يمر به .. التحايا يسلمها للبعض كلامية أو إشارية، والإرشادات يمد بها البعض الآخر .. لا يبخل على أحد بالمساعدة .. مرة كتب أحد المستفيدين من خدماته على الحائط خلف مجلسه المعتاد كل يوم: هنا مكتب الإرشادات ...
رجل في الخمسين من عمره وزيادة .. يحيا حياة متقلبة سيئة .. يرثي نفسه بأحاديث يقذف بنفسه فيها ليحترق ويذوب .. يرثي نفسه ويرثيه الناس بنظراتهم أكثر ما يرثونه بألسنتهم .. ينظرون إليه صباح مساء وهو ينهش دنياه بقسوة شديدة، ويهدم ذاته بمعول يحول الفرحة حلما مزعجا ومخيفا، بل كابوسا وأي كابوس .. يعز على الناس أن يضعوه حيث يضع شاربوا الخمر أنفسهم .. يعز عليهم ذلك لطيبته وحبه النادر لخدمة الآخرين ومساعدتهم ...
يفر من نفسه إلى الناس .. يشكو الوحدة القاتلة، والعذاب، والاحتراق، ويفر من الناس إلى نفسه خوفا من نظراتهم المشفقة عليه .. إذا أثار أحد معه الحديث حول سوء حاله، تندفع من عينيه حمى مريرة، ومن بين شفتيه يلفظ كلمتين دون أن يزيد: الله يعفو.
تمتد من بيت تناثرت فيه أيامه هباء وأشلاء إلى المجلس الذي اعتاد المقام فيه من ضحى النهار إلى غروب الشمس أمتار معدودة .. خط فاصل يجتازه وحيدا .. عبثا يحاول وأد ما مضى من أيامه وما يحياه في حاضره وسط دوامة الخمرة .. في أعماقه رغبة لا يخفيها في أن تنزاح الآثار الدامسة من حياته، وتغرب عتمتها إلى غير رجعة .. يجري وراء الشمس ليظفر بكأس أشعتها الدافئة .. يغدو إلى أشعة الشمس ليستلقي أمامها نهارا، ويروح إلى كهف أم الخبائث ليلقي بنفسه فيها ليلا ...
أمي .. كلمة ينطقها عاصفة مزلزلة لما هو فيه من حال السكر المتواصل .. تجرف على لسانه صوتا مريرا حزينا، كلما تذكر أمه المتوفية منذ زمن .. يذكر أمه حتى وهو ضائع في متاهات الخمرة ...
أمي .. كلمة يضمها إلى شفتيه المحروقتين بدخان السجائر .. أمه يذكرها عجوزا تحبه حبا شديدا .. كان أصغر أبنائها .. هي ذات الأم التي قامت يوما أمام عينيه المخمورتين، وأمام أعين الجيران والمارة بتكسير قنينة الخمر، بعد أن نزعتها بقوة من يديه بيديها المرتجفتين .. كان يوما صارخا وشاهدا على مأساة أحدثت نزيفا وزوبعة من الرثاء والحسرة في نفوس الحاضرين ...
وذات مساء مر به أحدهم، وهو جالس على كرسيه، الذي اعتاد وضعه بشكل معكوس، فألقى إليه بتحية باغتته، في الوقت الذي أخفى فيه وجهه من وراء مذياعه الصغير .. هز رأسه المنهوكة بعد أن تردد صدى التحية في أذنيه، فإذا به يبكي ويذرف دموعا حارقة تنزف من حمرة عينيه .. نظر من بين جمراته المنحدرة على خديه إلى صاحب التحية، وبأيديه المرتعشتين أطفأ نار عينيه وهو يقول بصوت أحدثت فيه تلك العبرات العاصفة المدوية في الباطن شقوقا تصدع لها القلب: الله يعفو يا أخي ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com