التعريف بكتاب: موسوعة البيوتات العلمية بدمشق
------
تأليف
----------
د. محمد مطيع الحافظ
التعريف بكتاب
اختصَّ الله دمشق بمزايا عظيمة عُرفت بها، منها: نزول الصحابة فيها، ومنها خرجت الفتوحات شرقاً وغرباً، ومنهم خرجت جيوش النصر لفتح بيت المقدس، ومنها:
أن الله بارك فيها، ومنها انتشر العلم، وقصدها العلماء والرحالون، فكانت مدينة للعلم والحضارة......
في هذا الكتاب بيان لهذه المزايا وخاصة العلمية منها، وتوضيحاً لذلك أذكر هنا مقدمة الكتاب وفيها تعريف به والمنهج المتبع فيه...
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب--------------------------------
هذا كتاب توفرتُ على العناية به أمداً طويلاً، أجمع فيه أخبار علماء دمشق وأصنّفهم في بيوتاتهم، وأرصد كل بيت وما خرّج من أهل العلم من أبنائه. فوجدت فيهم عجباً، ثم زال عجبي حيث ذكرت ما اختص الله به هذه المدينة من ميزات، وما حباها من خيرات وبركات تحقيقاً لأحاديث شريفة وآثار وردت فيها.
مع بدء الفتوحات الإسلامية نزل دمشقَ صحابةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحملون إليها النور والحضارة، وكان دخولهم إليها دخول الحق والبشرى، قال الوليد بن مسلم (دخل دمشق عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم). هؤلاء مشوا على أرضها، وعاش بها عدد منهم، كأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وبلال بن رباح وأبي الدرداء، وقبور بعضهم فيها شاهدة على ذلك.
ثم نشأ من بعدهم جيل من التابعين لهم بإحسان، فضلاً عن أعلام من القراء والمحدّثين والعلماء والزهاد.. ولم يقتصر ذلك على الرجال، بل ظهرت منهم نساء فضليات عُرفت منهم قارئات ومحدثات وزاهدات كأم الدرداء ورابعة الشامية وعائشة الباعونية. والقائمة تطول منهم ومنهن.
انطلق العلم، ومنذ الأيام الأولى لفتح دمشق من جامعها الكبير حيث كان أبو الدرداء رضي الله عنه يعلم القرآن ويفسّره، وجاء من بعده شيخ قراء الشام وقاضيها عبد الله بن عامر أحد القراء السبعة. وقد بقيت قراءته في الشام قريب الخمس مئة، غير أنها بقيت إلى القرن التاسع الهجري أو يزيد يقرأ بها كبار القراء والطلبة.
ومن جامع دمشق انتشرت رواية الحديث الشريف، ولعل أشهر من بدأها هشام بن عمار أحد تلاميذ الإمام مالك، وعرف من الرواة أبو مسهر الغساني وأبو زُرعة الدمشقي.
وفي الفقه أخذ الدمشقيون بمذهب الإمام الأوزاعي الذي سكنها في بداية حياته قبل أن ينتقل إلى بيروت، وبقي الدمشقيون على مذهبه حتى سنة 347هـ حين توفي آخر من كان يفتي ويقضي به.
وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يُحضر العلماء من البلدان القاصية إلى دمشق ليحدّثوا بأخبار القدماء ويرووا تاريخهم. وعرف من العلماء المتنورين من بني أمية خالد بن يزيد بن معاوية وهو خطيب شاعر، وكان أول من أمر بترجمة كتب النجوم والطب والكيمياء. كما أمر عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي كذلك بنقل كتب الطب إلى العربية.
ولقد استمر العطاء العلمي بدمشق على القرون المتتالية بكل تخصصاته، ونضج على نحو خاص علم الحديث وأثمر، وآتى أكله، فرحل إليها طلاب العلم يأخذون عن الشيوخ والشيخات، فوردها الحافظ البغدادي والحافظ ابن حجر، والتقي الفاسي والحافظ السخاوي، وغيرهم كثير.
وعني العلماء الدمشقيون بأبنائهم ورعوهم، فتخرج من الأبناء ثم من الحفدة علماء تابعوا الآباء والأجداد وخدموا العلم خدمة جليلة. ومن هنا نشأ في دمشق بيوت كثيرة تسلسل فيها العلماء، لم يقتصر ذلك على العلوم الشرعية بل امتد هذا إلى سائر العلوم كعلم الفلك، وعلم الساعات الذي اشتهرت به دمشق شهرة خاصة، وشهد عليه ساعة ابن الشاطر في الجامع الأموي التي وصفها الرحالة في رحلاتهم، وكذلك بسيط (وهو ساعة شمسية) صنعه الشيخ محمد الطنطاوي.
وبرع الدمشقيون في علم الهندسة والعمارة، فبنوا المساجد والمدارس التي ما تزال قائمة شامخة حتى اليوم، ومنهم أسرة ابن المهندس الذي أشرف على عمارة المدرسة الظاهرية (دار الكتب الوطنية) وغيرها من المدارس.
وفي الطب عرفت دمشق أطباء خلد التاريخ ذكرهم بما صنعوه في مهنتهم وما أبدعوه وما أسدوا فيه من خدمات للمرضى كابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى وابن البيطار الذي كان آية في علم الأعشاب وابن أبي أصيبعة صاحب كتاب طبقات الأطباء وابن الدَّخوار وغيرهم، وقد أشرف هؤلاء ومن بعدهم من الأسر الطبية على البيمارستانات (المشافي) التي كانت كل منها جامعة للطب والصيدلة يتلقى فيها الطلاب علم الطبابة نظرياً وسريرياً، وما تزال آثار البيمارستان النوري ماثلة حتى اليوم، وهو الذي ظلت النار فيه موقدة لم تنطفئ على مدى تسعة قرون لإطعام المرضى والنازلين فيه.
كان الفضل في نشوء هذه الأسر المتخصصة يعود إلى حرص الآباء على تعليم أبنائهم منذ نعومة أظفارهم، يتابعونهم في حفظ القرآن الكريم أولاً، ثم في مبادئ العلوم الإسلامية والعربية ثانياً ثم يترقون بهم نحو التخصص العلمي أخيراً.. ويبرعون فيه.
ومن هنا عرف في دمشق أسر كثر فيها العلماء عبر الأجيال المتتابعة.
وقد عزز ظهور الأبناء المتابعين لآبائهم نشأتهم في بيئة يتفتح وعيهم فيها على أب قارئ أو مهندس وعم محدّث أو طبيب وخال شاعر أو فلكي وجدّ أديب أو فقيه.. وهكذا، ويكون هؤلاء كلهم قدوة ومثلاً للنشء والجيل فيحصل الأبناء على ذخيرة معرفية وعلمية غنية، يحافظون عليها ويزيدون فيها.. فتصنع منهم البيئة والاكتساب علماء إذا توافرت لهم الموهبة.. والموهبة هبة من المولى، وفي دمشق منها شيء كثير ومنّة من المولى تعالى.
وخير مثال على ما نقول بيت الحافظ ابن عساكر (علي بن الحسن بن هبة الله)؛ رعاه والده، ووجهه إلى العلم، وتابعه أخوه الأكبر وشجعه، وطلب له الإجازة من العلماء ورعاه أيضاً جده لأمه وأخواله بنو القرشي، فلما عُرف اتصل بالسلطان نور الدين محمود بن زنكي فرغب إليه أن ينهي كتاب (تاريخ مدينة دمشق) فحث ابنه القاسم أن ينسخ نسخة معتمدة منه.. فكان ذلك سبباً في ظهور هذا العمل الجليل في مجلداته الثمانين.
ومن الأمثلة الأخرى بيت المقادسة، وفيه نشأ الحافظ عبد الغني المقدسي والحافظ ضياء الدين المقدسي، بيئةٌ علمية راقية عرفت بالزهد، رعاه أهله وخالاه ومنهم الإمام أبو عمر والموفق، واصطحباه معهما إلى مجالس العلم ولم يكن له من العمر غير سبع سنوات.
وجمعت هذه البيوت العلمية إلى فضل العلم شرف الجهاد فاشترك مع نور الدين الزنكي وصلاح الدين أعلامٌ، منهم أبو عمر المقدسي وأخوه الموفق اللذان أشرنا إليهما، والقاسم ابن عساكر، وآل القرشي وغيرهم.. وهكذا اجتمع للنصر على الصليبيين فئتان عظيمتان، العلماء الذي وجهوا الناس إلى الجهاد واشتركوا معهم، والحكام الذين أخلصوا للعلم والجهاد، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه.. حتى استطاعت دمشق أن تصمد طويلاً لحصار الصليبيين عدداً من المرات بعد أن كادت تسقط بأيديهم.. فانطلقت جحافل المجاهدين من دمشق وحتى حقق الله النصر باستعادة القدس الشريف.
وقامت في دمشق مجالس العلم في جامعها الكبير (الجامع الأموي) خصوصاً، وفي المساجد والمدارس عموماً، يؤمها عموم الناس، وكانت الأسر تقصدها رجالاً ونساء، وكثيراً ما تصحب معها أطفالها ولو في سن الرضاع تبركاً بالعلم وأهله والرواية عنهم لمن كانوا في سن التمييز منهم.
كان لجامع دمشق عظيم الأثر في تأسيس العلوم ونشرها منذ القرن الهجري الأول كما أشرنا إلى ذلك، وكانت حلقات العلم الشرعي والكوني العامة والخاصة تقوم إلى جانب كل سارية من سواريه، وبقيت كذلك حتى زمن متأخر من القرن الرابع عشر الهجري.
ويضاف إلى ذلك نشأة المدارس العديدة التي انتشرت في أرجاء المدينة، كدار القرآن الرشائية، ودار الحديث التي بناها نور الدين للحافظ ابن عساكر، والمدرسة الصادرية للفقه الحنفي، والمدرسة البادرائية للفقه الشافعي ثم الحنبلي، والمدرسة العمرية لمختلف العلوم، ودار الحديث الأشرفية الجوانية التي بناها الأشرف الأيوبي للحافظ ابن الصلاح ودار الحديث الأشرفية البرانية التي بناها الأشرف أيضاً للحافظ محمد بن عبد الغني المقدسي، ومدرسة الكلاسة التي تولاها آل القرشي، وكثير من المدارس التي ذكرها النعيمي في مجلدين بكتابه (الدارس في تاريخ المدارس).
وكان لهذه المدارس وقفيات تتوزع بين المدرسين والطلاب والإداريين، وتقوم على نفقاتهم وكل ما يحتاجون ليتفرغوا للعلم ولا تشغلهم السعاية للكسب عنه.
ولتقديم فكرة عامة أشير إلى كتاب الدارس المذكور الذي وضعه النعيمي أوائل القرن العاشر الهجري، ليتحدث عن مدارس دمشق وصالحيتها.
وهذه قائمة بالمؤسسات العلمية غير المساجد:
وأكثر هذه الدور والمدارس والربط تخربت في هجوم التتر سنة 803هـ ثم آل ما بقي منها إلى الضعف فالخراب في العهد العثماني.
ولقد كانت هذه المدارس وعلى مدى قرون أشبه بكليات لجامعة كبرى تدرس فيها علوم القدماء إلى جانب علوم الشريعة والطب والهندسة والفلك، عمل على بنائها وتخصيص الأوقاف لها على العصور خلفاء وسلاطين وأمراء وأعيان، قال ابن منقذ الكناني يصفها:
وفي كتابنا هذا تعريف بكل بيت علمي بدمشق، وحديث عن تسلسل العلم فيه منذ القرن الهجري الأول حتى القرن العاشر.
قسمت الكتاب إلى قسمين؛ الأول يغطّي البيوتات العلمية المزدهرة في المدة الواقعة ما بين القرنين الأول والخامس.
في حين يضم الثاني البيوتات الواقعة ما بين القرنين السادس والعاشر، وربما تجاوز عدد هذه البيوتات المئتين.
هذا وربما تداخلت بعض البيوت بين القسمين لاعتبارات عملية من توافر المصادر والمراجع والوثائق.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض البيوتات العلمية القديمة استمر عطاؤها حتى القرن العاشر وما بعده، أو نشأت بعد ذلك. فسأفردها إن شاء الله في دراسات مستقبلية كل بيت في تأليف خاص.
وأخيراً:
فسأفرد في كتابنا هذا لكل بيت علمي دراسة خاصة به، تشتمل على تعريف بأسرته موصولٍ ينسبها وشجرة بتفرعاتها. ثم الحديث عن فضائلها عموماً، وفضائل أفرادها خصوصاً وعن تاريخها العلمي والاجتماعي، وما قدمتْ من نفع للأمة. وأركّز على ترجمة لأول من اشتهر منها، ثم أسرد تراجم أعلامها رجالاً ونساء.. وهكذا تراجم من جاء بعدهم من أبناء وحفدة بالتسلسل الزمني.. وألحق بعدئذ ما توافر من وثائق تخص التراجم؛ إجازات أو سماعات أو خطوط.
ورتبت تسلسل البيوت الأقدم فالأحدث اعتماداً على وفاة جدّ الأسرة المؤسس لها.