يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
قال الله تعالى : (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) [ سورة آل عمران : 106 ـ 107 ]
فأتى أولاً بذكر أصحاب الوجوه البيض ثم أتبعهم بذكر أصحاب الوجوه السود ، ولما فرع بـ"أما" ، ذكر الآخرين أولاً والأولين آخراً على سبيل اللف والنشر المشوش أو المعكوس وهو أسلوب من أساليب البلاغة والفصاحة، وإذا عدنا إلى التفسير نجد أن العلماء ذكروا لذلك حكماً، فقال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب :
" ثم قال: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ } وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر القسمين أولاً فقال: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } فقدم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض.
والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب
وثانيها: أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب، قال عليه الصَّلاة والسَّلام حاكياً عن رَبِّ العزة سبحانه: " خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم " وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن، ثم ختم بذكرهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال: " سبقت رحمتي غضبي "
وثالثها: أن الفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم".
قال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط :
" وبدأ بالبياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى. وأسند الابيضاضَ والاسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه، وهو أشرف أعضائه....
{ فأما الذين اسودّت وجوههم، أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ. وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم، ولمجاورة قوله: وتسودّ وجوه، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم. فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر".
قال الشوكاني في فتح القدير :
" والتنكير في وجوه للتكثير، أي: وجوه كثيرة...
وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب ".
وقال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى :
( فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ) تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته ( وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر.
قال الزمخشري في الكشاف :
" فإن قلت: كيف موقع قوله: { هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } بعد قوله: { ففي رَحْمَةِ ٱللَّهِ }؟
قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون".
وذكر ابن عاشور في التحرير والتنوير عند :
قوله تعالى: ( فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) تفصيل للإجمال السابق، سُلك فيه طريق النشَّر المعكوس، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام، فأمّا الَّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر: وأمّا الَّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون.
قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض، الَّذي هو شعار أهل النَّعيم، تشريفاً لذلك اليوم بأنَّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه، ولأنّ في ذكر سمة أهل النَّعيم، عقب وعيد بالعذاب، حسرةً عليهم، إذ يعلم السَّامع أنّ لهم عذاباً عظيماً في يوم فيه نعيم عظيم، ثُمّ قُدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلاً بمساءتهم.
خلاصة القول :
من خلال ما مر من أقوال المفسرين نعلم أن الله تعالى بدأ بالبياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى، ولآن البياض يسر الطبع ويشرح الصدر، وأسند الابيضاضَ والاسوداد إلى الوجوه، لشرف الوجه على باقي الأعضاء ولأنه أول ما تراه من الشخص، والتنكير في " وجوه " للتكثير، ولما ذكر تفصيل أحكام من تبيض وجوههم وتسودّ؛ ابتدأ بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم فالمقام مقام تحذير وترهيب، ولمجاورة قوله: "وتسودّ وجوه " وتعجيلاً بمساءتهم.