نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

ِجميل حتمل.. ذاكراة للنسيان

المصدر : سلام الزبيدي


في السابع من تشرين الأول عام 1994 خطفه الموت في مستشفى "كوشان الباريسي"، حيث كان يعالج ويقيم.
إنه جميل ألفرد حتمل، القاص المبدع، والصحفي المتميز، من أسرة فنية أدبية مشهورة في دمشق وحوران.
ولد عام 1956 في دمشق, وتلقّى دراسته الثانوية في ثانوية "العناية" الرسمية، ولا شك في أن رعاية والده الفنان التشكيلي ألفرد حتمل ساهمت بشكل كبير في شخصية جميل الثقافية، حيث بدأ جميل بكتابة القصة في سنٍّ مبكرة، واعتبر منذ ذلك الوقت أحد أهم الأسماء في جيل السبعينات في سورية.‏
وما عصر قلب جميل الطري، وجعل قلبه يرتوي بالحزن والآلم، هو فقدانه لوالده، ولم يجد ما يعوضه عن ذلك سوى القراءة في مكتبة خاله حكمت هلال، الغنية والمليئة بالآلاف من الكتب الأدبية، والتي ساهمت بشكل كبير في جميل القاص.
كان قدر جميل أن يعيش مع زوجة أب لا توفر له الرعاية والحنان الكامل كما الأم..مما دعا جميل إلى بناء شخصيته المستقلة وحده، بعيداً عن هذه الأجواء، وهذا ما أورثه المرض وهو في ريعان الشباب.
تزوج وأنجب طفلاً علّه ينسى همومه ومرضه، إلا أن زوجته تنكرت له، وحيداً عند مفترق الطريق يعاني البؤس والحرمان والمرض، بعيداً عن أرض الوطن، في غربة تأكل صاحبها، وهذا كان واضحاً في احدى قصصه، إذ قال: "لأني أحب امرأة تركتني، وكل امرأةأحبها تتركني.."، وقال في قصة أخرى: "امرأة تركتني عند مفترق شارع، هكذا ذات صباح، لم تقل وداعاً، مضت على أنها عائدة، ولم تعد..".
كان ذلك كافياً تماماً لأن يجعل جميل يحلق في سماء القصة منفرداً بإبداع خمس مجموعات قصصية:
"الطفلة ذات القبعة البيضاء"، و"انفعالات"، و"حين لا بلاد"، و"قصص المرض قصص الجنون"، و"سأقول لهم"، وهذه الأخيرة صدرت بعد وفاته، وقد قامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان بإصدارالمجموعات الخمس في مجلد واحد عام 1998، وقدّم لها الروائي الكبير عبد الرحمن منيف.
معظم قصصه تدور حول معاناته مع المرض، وفشله في الحب والزواج، وتشرده، وانكساراته، ودخوله إلى المستشفيات، وشوقه إلى الوطن والعائلة والطفولة، وهذه القصص بلا شك مرآة شفافة بلا مواربة، صادقة تعكس واقعاً معاش؛ ففي قصة "الطفلة ذات القبعة البيضاء من القش" يقول في حاجته الشديدة إلى حنان الأم ورعايتها، وبأنه الرجل الطفل، المنهك المكسور، المبعثر كزجاج، المليء بالأحزان والطموحات، يقول: "أنا الرجل الطفل، الرجل المنهك، المكسور كزجاج، المبعثر كزجاج، أنا الرجل المليء بالأحزان والطموحات، الرجل الذي لايسمعه أحد، أو الذي لايعرف كيف يوصل صوته".
ويتحدث في قصة "انفعال": "أنا الذي يعيش الانهيارات كاملة، وحتى انهيارالحياة ذاتها.. إنني أعيش الحياة، لأنني ضعيف فقط، بل لأني أملك حساسية، ربما تكون زائدة على حدّها..".
يقول الروائي عبد الرحمن منيف في مقدمة مجموعة أعماله القصصية الكاملة: "إن الصفة الأساسية التي تطبع أبطاله هي الحزن، الحزن الذي يرافقهم، ويحرمهم من أبسط الحقوق: الحب.."
وهذا يبدو واضحاً في مجموعته القصصية "قصص المرض قصص الجنون" تحت عنوان وردة حمراء: "قلبي يؤلمني إلى الدرجة التي لن أستطيع بها خلع ملابس النوم لارتداء غيرها، أنامتعب، وقلبي يتقلّص، يذبل وجعاً..".
وبقدر ما يبدو الحزن - ذلك النبات الوحشي - عاملاً سلبياً يفتّق الروح والجسد، فإنه حين يستقر في القلب، لا يسوّد نظرة الإنسان للحياة فقط، بل يصبح مستساغاً لذيذاً، وفي بعض الأحيان ضرورياً، لأنه يخلق توازناً بين النظرة والمعاناة، ويصبح انعكاساً للداخل، والكلام للروائي عبد الرحمن منيف.
ألا يستحق هذا المبدع المنسي أن يحتفى به في غيابه، أو على الأقل إعادة طباعة أعماله من قبل وزارة الثقافة في سورية.
في زمن ـ كما كان يتنبأ ـ جميل ، زمن خرق الروح والعصف بها من كل جانب، زمن الانكسارات والتحديات والاحتمالات، وزمن ذاكرة النسيان