من تحت الدلف لتحت المزراب
ستين درجة صعدتها بشق الأنفس حتى وصلت سارة ابنة الأربعين عاما إلى شقتها، أخرجت المفتاح من حقيبتها وتوجهت نحو الباب، وما إن وضعت المفتاح بالقفل حتى ارتدت مذعورة إلى الخلف..... وقد جف حلقها من شدة الخوف، وتساءلت في سرها:
" ماذا؟ الباب مفتوح!! يا إلهي........، كيف أدخل؟ قد يكون أحدهم في المنزل. لا..لا.. لن أدخل."
أدارت وجهها نحو باب الشقة المقابلة مترددة " هل أدق باب الجيران أم أخبر الشرطة ؟
وبحركة لا إرادية دقت الجرس.
فتحت لها الجارة مبتسمة وقالت : "تفضلي".
"لا... لا أريد. ولكنني وجدت باب منزلي مفتوحا وليس لدي الجرأة لكي أدخل وحدي."
"انتظري سأنادي زوجي وسيدخل معك"
دخلت المنزل هي وجارها ، فتشا البيت شبرا شبرا فلم يجدا أي أثر لأحد أو لسرقة. من فتح الباب إذن؟
شكرت الجار واعتذرت عن الإزعاج الذي سببته وأغلقت باب دارها واستلقت على فراشها قلقة محتارة تتساءل:.
"أيعقل أنني نسيت أن أغلق الباب قبل ذهابي للعمل؟ وهل يمكن أن يبقى الباب مفتوحا والريح قوية؟ هنالك سر لا بد من البحث عنه.........لعلني نسيت المفتاح في مكان ما وتم الحصول على نسخة عنه؟" لا لم أنسه أبدا في أي مكان خارج المنزل. مستحيل أن يحدث هذا........... أسئلة كثيرة تزاحمت في رأسها إلى أن أنقذها سلطان النوم من قلقها.
لم يكن نوما هادئا أبدا فقد رأت الكثير من الأحلام المزعجة، كانت تتوارد متدافعة وتختلط ببعضها البعض لتتلاشى، ولم تستيقظ إلا في صباح اليوم التالي. فتحت عينيها على نور الشمس الذي تسلل إلى غرفتها ليؤنس وحدتها ويمدها بشيء من الدفء والشجاعة، تلفتت حولها و لم تجد شيئا غريبا. وما إن اطمأنت حتى توجهت إلى المطبخ لتصنع لنفسها فنجانا من القهوة ولكن قبل أن تصل شعرت برائحة غاز تنبعث منه.
"اللعنة، ما الذي حدث؟ هل أدرت مفتاح الغاز ونسيت؟ أنا لا أذكر أنني دخلت المطبخ قبل هذا!!" قالت متعجبة مستنكرة ، لا بد من المراقبة، أعتقد أن هناك من يتلاعب معي، فالموضوع أبعد من السرقة بكثير"
مضت عدة أسابيع على هاتين الحادثتين ونسيت ما حصل لها وتابعت حياتها بشكلها الطبيعي.
وفي ليلة ماطرة شديدة البرودة، وقفت خلف النافذة تراقب زخات المطر وهي تتساقط كالإبر؛ السماء سوداء والشارع تنيره ثلاثة مصابيح خافتة الأنوار وقد امتلأ بالمياه السوداء وتشكلت فيه البرك الموحلة هنا وهناك. أما الرياح فكانت تتخبط على جدران الأبنية كمن يصر على الانتحار، ويصدر عنها صفير حزين يثير الآلام والأحزان، وفجأة انقطع التيار الكهربائي عن المنزل، فما كان منها إلا أن تتحسس طريقها في الظلام إلى المطبخ حيث استطاعت أن تصل لعلبة الكبريت وتضيء شمعة ولكن لتكتشف أن التيار انقطع عن منزلها هي فقط. خرجت لترى عداد الكهرباء ثم ارتدّت مذعورة كمن لدغها عقرب، دخلت المنزل، أغلقت الباب وراءها وبقيت خمس دقائق تلهث من الركض والخوف وأخذت تتمتم: لقد سرق اللص البريز ، يريد أن يقتحم عليَّ الدار في الظلمة، يريد أن يقتلني. سوف لن أبقى في الدار لحظة واحدة فظلام الشارع أهون والغوص في ماء المطر الأسود أرحم. لا لا لن أبقى. ارتدت معطفها، وباللحظة التي فتحت فيها الباب عاد النور إلى المنزل. ركضت نحو العداد فوجدت البريز في مكانه ولم تجد أحدا!! سكتت ولم تنبس ببنت شفة وإلا حسبتها الجارة مجنونة.
وفي يوم آخر سمعت صوت بكاء يصدر من غرفة النوم تلته ضحكات، فذهبت لترى على الجدران خيالات لوجوه تبكي وتضحك . خرجت من الغرفة مذعورة ونادت جارتها فورا. حضرت الجارة ولم تشاهد شيئا غريبا ولم تسمع أي صوت، مما جعل سارة تبدو في وضع محرج للغاية. جلست على أول كرسي صادفته مبتئسة يائسة وقالت بصوت خافت :
"هل أنا مجنونة؟ ، أ مريضة أنا؟ الباب المفتوح وصنبور الغاز والنور المقطوع والصور على الجدران هل هي كلها أوهام؟
فقالت لها الجارة: إن أحوالك لا ترضي، يجب أن تعرضي نفسك على طبيب ، فالموضوع لم يعد يحتمل التأجيل، سأدلك على طبيب نفسي ممتاز وسأذهب معك.
وفي العيادة، قال لها الطبيب: يلزمك بدايةً ست جلسات وكتب لها وصفة طبية وعقّب قائلا إن لم تجدي الدواء في الصيدليات سأقوم بتأمينه لك.
دفعت أجرة الكشف وطلبت منه أن يؤمن لها الدواء، وبدأ بمعالجتها فورا.
شعر زملاؤها في العمل أن صحتها بدأت تتراجع بشكل متسارع وبدا على ملامح وجهها الجمود واختفت ابتسامتها وانطفأ إشراقها ولم تعد تتكلم إلا نادرا، وتثاقلت مشيتها وكثرت الأخطاء في عملها. تداولوا الأمر فيما بينهم ووجدوا أن الموضوع على مستوى من الخطورة
بحيث لا يمكن تجاهله أو المماطلة فيه وأشار أحدهم بعرضها على طبيب آخر وتبنى القيام بذلك.
كشفت التحاليل أن ما تتعاطاه عبارة عن حبوب مخدرة توصف للمجانين، وعندما أبرزت الوصفة التي تحمل اسم الطبيب تحت طلب نقابة الأطباء تبين أن الطبيب المعالج هو من خيرة الأطباء ولا يمكن أن يصف مثل هذه الحبوب لهكذا مريضة .استُدعي الطبيب على عجل وتم التحقيق معه واتضح أنه كان مسافرا آنذاك وأن الممرض قد انتحل شخصيته وزور توقيعه وفعل ما فعل مستغلا فترة غيابه، ولم يستطع عند المواجهة إلا أن يعترف بجرمه وسيق إلى السجن ليمضي مدة عقوبته.
عولجت سارة من آثار الحبوب التي تناولتها وعادت لتمارس حياتها كالسابق.
وفي يوم زارها الطبيب المعالج ومعه صديقه الذي يعمل محاميا.
قال الطبيب: إن قصتكِ مؤثِرة ولا يمكن أن تُنسى. أنا في الحقيقة أشك في جيرانك وقد أفضيت بمخاوفي لصديقي الذي أصرَ على رؤيتك ورؤية البيت .
قالت: حسن ، يمكنكما ذلك.
خرج المحامي إلى شرفة المطبخ ليرى أن هناك جدارا قصيرا فاصلا بين الشقتين ويمكن القفز منه إلى شقتها بسهولة. فاقترح عرض الأمر على أجهزة الأمن الجنائي المختصة للمراقبة الدائمة. وافقت، وانتشرت الكاميرات الصغيرة في منزلها مع أجهزة التنصت.
وأخيرا التقطت الكاميرا الجار الأب وهو يساعد ابنه الصغير على النزول إلى شرفة جارته وقد زوده بالتعليمات لكي يغير في مكان الأثاث. نفذّ الطفل ما طُلب منه وخرج من باب الدار، ورفعت بصماته.
أما المحقق فقد طلب من سارة أن تكون صابرة وتتجاهل ما رأت وسمعت. واستمرت المراقبة شهرا كاملا إلى أن التقطت الأجهزة الحوار التالي ما بين الجار وزوجته:
- الزوج: يبدو أننا فشلنا.
- الزوجة: لا لن نفشل وسوف نخيفها بأساليب أخرى حتى تعرض البيت للبيع وسنشتريه.
- الزوج: أنت ماكرة. ألست من دبرت موضوع المخدرات مع الممرض؟ هو في السجن وأنا أدفع لأسرته تعويضا شهريا لأشتري سكوته.
- الزوجة: لست بأمكر منك. أنت من خطط وأنا من نفذ، ولكن دعنا من هذا، إن قيمة البيت الفعلية تتجاوز العشرين مليونا. أما إذا اقتنعت هي وصدّق الآخرون بأن البيت تسكنه العفاريت ستنزل قيمته إلى 12 مليون وسنشتريه حتما ونقدمه لابننا هدية يوم عقد قرانه، فلا يمكن التفريط ببيت مساحته تفوق المئتي متر، تتحرك فيه سارة خانم لوحدها، غرفتان تكفيها.
وبعد أسبوع استلم الجار إعلاما بدعوى مرفوعة عليه وعلى زوجته من جارته سارة. وحكم عليه بالسجن هو وزوجته لمحاولتي قتل مرة بالغاز ومرة أخرى بالمخدر إلى جانب إثارة الرعب والخوف لديها بمختلف الأشكال، كما حكم لسارة بتعويض يزيد عن المليون.
وبعد ذلك بدأت زيارات المحامي لها تتكرر بسبب وبدون سبب، وهو الذي رفض أن يتقاضى أية أتعاب بشأن هذه القضية إكراما لصديقه الطبيب، حسب قوله، وتكللت زياراته بزواج سعيد، وطارا في رحلة شهر عسل طويلة حول العالم.
مضى على زواجهما عامان وهما في غاية السعادة.
وفي ساعة صفا كما يقال، قال الزوج لها:
- هل أنت سعيدة معي؟
- طبعا
- هل أستطيع أن أطلب منك شيئا؟
- "عيوني لك" لقد وقفت إلى جانبي في محنتي وأنقذتني من شر مستطير.
- إني خجل منكِ..........ولكن......
- وبلطفها المعتاد أجابت: لا تخجل سأقولها لك. هل يلزمك البيت لتقدمه هدية لابنك الخاطب يوم عقد قرانه مثلا؟ لقد رأيت بطاقات الدعوى في غرفة الضيوف، واسترسلت في سرها:
"اللهم عفوك ورضاك....... أ من الجار الجاني إلى الزوج المحامي؟!!".
كتبتها سنا الخاني