كيف نتدبر القرآن الكريم ؟ وكيف نتفكر في أسرار بيانه ؟وكيف نغوص في فهمه حتى نتبيّن وجوها من إعجازه ؟ كـُـتبت في هذا المبحث كتب قديمة وحديثة منذ بداية التفسير والتأويل وأنجزت دراسات وبحوث تباينت فيها مناهج التحليل والتناول. فاختلفت بذلك النتائج .وتأسست علوم واصطبغت حضارة كاملة بهذا التفاعل مع النص المؤسس أي النص القرآني . ومن المناهج التي فيها تجميع للمختلف المتناثر في التناول البياني للظاهرة القرآنية منهج يعتمد ستة مبادئ أساسية يعمل المتدبّر على ان تنطبق على كل سورة وكل آية وعلى القرآن كله . هذه المبادئ الستة هي :
• لا نقص في القرآن جزءا وكـُــلا.
• لا زيادة ولا تزيـــّــد في القرآن.
• لا تناقض بين مكونات القرآن .
• لا تكرار بين مكوناته ايضا .
• لا ترادف بين مفرداته وعباراته.
• لا تعاظل بين المكونات مهما كان الترتيب.
وتطبيق المبادئ على النصوص القرآنيةمنهج كل متدبّر كي يهديه النظر ومزيد النظر والتعمق إلى الكامن المتخفي من أسرار الإعجاز .
وإذا طبقنا المنهج على البسملة آية قرآنية في سورة النمل وابتدأت بها كل سورة من سور القرآن الكريم كفاصل بين السور.
• لا نقص فيها باعتبار أن كل حرف جر مع مجروره لا تكتمل له دلالته إلا البسملة .أنت تقول مثلا : " بالهدي" ..ولا معنى مكتمل لتركيب الجر لكن قولك بسم الله في أي سياق يعد مكتمل المعنى ويفهم منه ابتداء أو توكل أو احتماء أو تعوذ ... وهذا ما يعني أن في الآية حذفا وليس فيها نقص بل اكتمال واستيفاء .حذف الفعل والفاعل إذا قدرنا المحذوف فعل : ابدأ – اقسم –أتوكل - احتمي --- ومن النحاة من يقدر مبتدأ تقديره المصدر المشتق من هذه الأفعال : ابتدائي / قسمي / توكلي / احتمائي / توفيقي --- وفي جميع الحالات أدى هذا الفعل إلى انفتاح للمعنى على كل الدلالات المنجرّة عن تقدير المحذوف والممكنة بالسياق والمقام .ولذلك ارتبطت بالبسملة أحكام فقهية تضاف إلى مباحث تاريخيتها( فالمستعمل في العهود والمواثيق السابقة كان" باسمك اللهم " ).وقرآنيتها ( وهل تقرأ في كل ركعة مع الفاتحة ؟ ) وإعجازها البياني نجدها في أحكام التذكية والرقية والوضوء والمعاشرة الزوجية وبداية الطعام والشراب...
• لا تزيّد في البسملة ولا وجود لحرف أو مفردة أو تركيب أو عبارة زائدة فيها . قد يقال الباء زائدة ويمكن البدء بــــ : اسم الله ... تبركا وتوكلا . قلنا عندها وأين المعنى الممكن للقسم ؟والمعنى الممكن للبداية؟ والمعنى الممكن للحال والثبات على الحال؟ والمعنى الممكن للتوفيق ورجاء التوفيق ؟...كلها ترتبط بوجود الباء .قد يقال ولماذا كلمة اسم قبل اسم الله؟ . هذه زيادة يمكن الاستغناء عنها فنقول مباشرة " بالله " ...
وواضح ان بالله غير بسم الله ...في انتفاء الطلب ...وانتفاء الترادف أو التكرار بين مفردتي
الاسم والله . والاسم هنا ليس من الوسم بل من السموّ فيضاف معنى العلوّ والرفعة للذات الالاهية لا يتحقق بغير مفردة "اسم ".
• لا ترادف :أي أن القران لا يستعمل كلمة بنفس المعنى تماما مع كلمة أخرى .لكل كلمة دلالتها الخاصة المختلفة عن غيرها من الكلمات . وهذا ما يظهر في البسملة في الاختلاف بين " مترادفات " مزعومة هي أسماء الله الحسنى المذكور منها هنا الله + الرحمان + الرحيم .الألوهية اختصاص بالخلق من عدم . والله اسم خاص بالله لا يطلق على غيره مثل الرحمان . وأهل الجاهلية ما اعترضوا على اسم الله واعترضوا على الرحمان : قالوا : وما الرحمان ؟ ولا ترادف بينهما واسم الرحيم ( فصلا بين أسماء الذات وأسماء الصفات ) .والفوارق بينها كثيرة توسع فيها المفسرون منها أن " أل " في الله ليست للتعريف بل هي بنية الاسم ولازمة لا يجوز حذفها بدليل النداء :" يا الله " ودليل استحالة تثنية او جمع اسم الله .وإمكان ذلك مع الرحيم والرحمان .
• لا تكرار : وهذا يظهر واضحا بين الرحمان والرحيم رغم الاشتقاق الواحد من الرحمة. فهل تكرر المعنى واستهلكت الدلالة بالترديد .يفرق بعض البلاغيين بين التكرار والترديد باعتماد تحقق نفس الأصوات واختلاف الدلالات ولا يقرّهم على ذلك بلاغيون آخرون...وسواء اتفقنا أو اختلفنا معهم فان التكرار المجاني غير وارد في القرآن .فكل كلمة وجدت بنفس صورتها الصوتية ( ولا يهمّ المصطلح الذي نستعمله : تكرار ،إعادة ، ترديد ) لا يمكن أن يكون لها نفس التحقـّـق الدلالي باختلاف السياق. وهذا ما يسميه المصرّون على كلمة تكرار : التكرار البلاغي .كلمة الناس " تتكرر " ثماني مرات في سورة قصيرة هي سورة الناس دون ان يقف القارئ على ثقل التكرار الممكن في غير القرآن .و حروف "رحم " في البسملة "تتكرر" بتعاقب مباشر. والمعنى مختلف طبعا بين رحمان المطلق والعام رغم ان الاسم خاص بالله لا يطلق على غيره. فهو الرحمان بكل الخلق وهو الرحيم بالمؤمنين . وقد نقول على الأب مثلا هو رحيم بأبنائه لكن لا نقول أبدا هو رحمان بهم . عموم وخصوص غريبان متداخلان معجزان ..المؤمنون رحماء بينهم ...والله رحمان : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان " ( الإسراء 110) أما الرحيم " فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا " ...
• لا تناقض : والتكامل بين الدلالا ت أصبح واضحا : الباء تبرك وابتداء وقسم واحتماء وتوفيق . بمن ؟ بذات علية جليلة رفيعة المقام سامية المكانة والمنزلة من سماتها الرحمة العامة والخاصة بكل الخلق وبمن عاد إليه تائبا خانعا .ذات هي التي خلقت وهي التي بعثت وهي التي تحكم الأكوان وتسيّر العوالم ...والبسملة بهذا التكامل عبادة من العبادات بل هي "خلاصة الشرع" كما قال علماء الأصول . لماذا ؟ لان فيها أصول الشرع الطاهر الكريم : من تعبـّـد وتوحيد وتمجيد للذات والصفات بما يميز العقيدة الإسلامية عن غيرها في تصورها لله تعالى ..
• لا تعاظل : وهو المبحث المسمى بالتناسب بين السور والبدايات والنهايات من السور ..فلا عيوب في تناسب كل مكوّن مع الآخر . والمنطبق على البسملة في هذا المبحث واضح أيضا من خلال ملاحظة أن ذكر الرحمة والعفو والمغفرة في القرآن مقترن غالبا بذكر العقاب والعذاب إلا في البسملة .لا نجد فيها إلا الرحمة..." الرحمان الرحيم " ... هي رحمة مؤكدة مفصلة مدحا وحمدا ووعدا للراغبين ولليائسين ..البدلية أو النعتية والتخصيص في تلاحق الاسم والالوهية والرحمان والرحيم ...بشارة لا نذارة ...وفيها دلالات إسلامية أساسية عند كل "حراك حيوي " : البشارة دون النذارة في هذا المقام تدلّ من بين ما تدل : على حسن الظن بالله والرجاء الذي لا ينقطع فيه والتوكل عليه فبابه مفتوح دوما لعباده الطاهرين المخلصين و الخاطئين التائبين . ..
سامي بالحاج علي * دوز * تونس *