ثورة فى عالم اللغة
من اللغة تبدأ ثورة التجديد
لم أتصور لأمة من الامم ثورة فكرية كاسحة للرواسب ، إلا ان تكون بدايتها نظرة عميقة عريضة تراجع بها اللغة وطرائق استخدامها ، لأن اللغة هى الفكر ، ومحال ان يتغير هذا بغير تلك ، فقد تسود العصر روح دينية صوفية ، تبحث عن الغيب وراء الشهادة ، عن الخفاء وراء الظهور ، عن الثابت وراء المتغير ، عن المطلق وراء الجزئى النسبى العابر ، عن البقاء وراء الفناء ، فعندئذ ينعكس هذا كله على طريقة استخدام الناس للغة - فى مدارج الثقافة العليا لا فى تصاريف الحياة اليومية - فتراهم يجعلونها للايحاء لا للدلالة ، فهى أداة عروج الى السماء لا وسيلة اتصال بالواقع .
ثم قد تسود العصر روح علمانية واقعية ، ينشغل الناس فيها بالعلوم الطبيعية والرياضية اكثر مما ينشغلون بالوجد الصوفى وتسبيح المتدين ،
فعندئذ كذلك ينعكس ذلك على اللغة ، فترى أصحابها يتخذون منها أداة ترمز الى الواقع المحسوس ، أكثر مما يتخذونها عدسات ينفذون منها الى اللانهائية والخلود ، ذلك على وجه التعميم الذى لاينفى ان يتناثر فى الحالة الاولى أفراد أشبه بالعلماء فى استخدامهم للغة ، كما لاينفى أن يكون فى الحالة الثانية أفراد أشبه بالشعراء فى صياغة القول .
فإذا كان الناس فى مرحلة من تاريخهم الفكرى تشبه الحالة الاولى وأرادوا الانتقال منها الى مرحلة أخرى تشبه الحالة الثانية ، كان لابد لهم من تغيير الأداة . والعكس صحيح أيضا بالنسبة الى من يأخذ العلم الطبيعى برقابهم ويريدون الافلات من قبضته ولو قليلا ، فهنا كذلك ترى الدعاة إنما يسوقون دعوتهم بلغة الايحاء المحدودة المعنى .