الباحث ... والكنز المفقود
بقلم / إسماعيل إبراهيم
قد بدا له أنه في مرحلة التأهل للملمة أوراقه المبعثرة على تلك المنضدة التي أمامه...وشرد بعيداً
ساحة للكلمة هو يعشقها ليعود قافلاً إلى حيث أتى ليبدأ من جديد في ساحةٍ أخرى ربما أيضاً سيعشقها
لربما تأتىَ له هذا الهاجس مما عانى منه في تلك الساحة ويعاني
نعم مازال يعاني من مرضٍ يدعى : .... لايتذكر ! وأعيته الحيل
ومازالت تعييه في صراعه الدامي مع ذلك الوباء العضال
ظن أنه إلى هنا ويكون الأمر قد انتهى
ولكن سرعان ماتتكشف له الحقيقية ويمسك برأسه ويتألم
وسرعان ماتتكون أيضاً جبهة تستعد لحربٍ ضروسٍ في مواجهته
وينتشر على ألسنتهم سؤالٌ ملحٌ ويتبينوا جميعاً ضرورة الإجابة عليه:
لماذا لايخضع ذلك المارد ويُروض ؟ حتى يصير سلساً منقاداً فإذا قلنا كذا
وكذا قال : نعم ومعكم الحق وأنا أذعن له .
والحق منهم براء والفضيلة منهم في معزل والصواب يجافيهم
هو لايخشى الصولات ولاالجولات ولايهاب المواجهات
ولكن في أعماق ذاته يكرهها لأنها تعوقه وتسرق الزمن منه
والذي هو في أشد الحاجة إليه لبحثه عن : ( الكنز المفقود )
.................... .................... ......
أرشده الحكيم الرشيد إلى الدرب السديد والذي منه يفيد ويستفيد
وجد في طريقه ـ وهو يسير الهوينا أحياناً ويغذ السير أحياناً أخرى ـ
رأى نخلةً سامقةً بازخة الثراء يتلألأ تمرها الذهبي على صفحة الجدول الرقراق
الذي ينساب من تحتها ليغدق عليها بالرواء والطمي في سخاء..
ويحتضن النخلة في حنان
ولكن تلك النخلة ـ التي يتراقص التمر في ( السباطة ) بين سعفاتها
ينادي من يشتهيه ـ قد عافها المارة وانطلقوا بعيداً عنها في سعيٍ حثيث نحو بقايا
شجرةٍ خربةٍ لم يبقى منها إلا هيكلها الذي يوشي بأنه هنا قد كانت في يومٍ من الأيام شجرة ً.
تعجب لفعلتهم الحمقاء وراح ينادي ويصرخ فيهم :
أيها البلهاء التعساء ألاترون ماأرى ؟
ألا ترون تلك السامقة المعطاءة والتمر يقطر منساباً من ضرعها دون عناء ؟
لم انحزتم عنها لتلك الجرداء القبيحة التي لاظل لها ولاثمرُ ؟
التفت بعضهم إليه ورموه بنظرات ازدراء وكأن لسان حالهم يقول :
أنت من لايدري شيئاً إن هذه التي تدعي أنها جرداء قبيحة المنظر نراها
بأعيننا هالةً من نور نتسابق عليها
نعم وجدهم يتسابقون عليها كالفراشات التي تتسارع نحو حتفها بتسارعها
نحو ضوء المصباح ذو الزجاج الملتهب
تأكد أن الحقيقة ليست في الشجرة ولكن الحقيقة هي : من الذي ينظر إليها ؟
وبأي عينٍ ينظر إليها ؟ ولماذا ينظر إليها ؟!
جلس تحتها لبعض الوقت يستظل بظلالها الوارفة
ويأكل من رطبها الشهية وارتوى من ماء جدولها الرقراق
فجرى الماء والخير في عروقه مع دمائه الحارة
فكم كان متعطشاً وفي عوزٍ لمثل خيرها وظلالها
ثم تركهم وتابع السير في بحثه عن : ( الكنز المفقود )
.................... .................... ...............
وفي طريقه وجد قوماً آخرين يلهون ويمرحون ويمزحون
ولايدرون أن أمرهم بين الكاف والنون
حياتهم سرابٌ وكلماتهم هَبَابٌ وحديثهم سِبَابٌ
جلس يستريح ومن ثم يستمعُ إليهم ليعرف أمرهم ويُخْبر بسرهم
ميدانهم التوافه فلا قيمة والخوض في العسير بلا عزيمة
راح يتأملهم ويتأملوه ويدنو منهم ويزدروه
فقام عنهم وانصرف ولم يكن قد استراح من عناء السير بعد
وأخذ يسير ولكن ببطء هذه المرة ويبدو أنه أنهكه رؤية هؤلاء القوم
فقال يحدث نفسه : لأتقوقع وألملم أغراضي رويداً رويداً حتى أنزوي
فأغادر دنيا هؤلاء القوم وهؤلاء , لأسلك درباً آخر غير هذا الذي وصفه لي الحكيم ؟
فانزوى تحت شاهدٍ بالطريق وجعل يديه المتشابكتين سواراً لوجهه ؟
وأسند ظهره الموجَع للشاهد وراح يحدق بعينيه في الدرب الممتد أمامه
وكاد يدب اليأس في أوصاله ويستسلم للفشل ولكنه قرر أن يغفو قليلاً
.................... .................... ................
وقبل أن يسلم عينيه للنعاس لمح شعاع ضوءٍ من بعيد .. في نهاية الدرب تيقن أنه لم يخطأ الطريق وأن الضوء الآتي من بعيد نورٌ وليس حريقٌ..
وكأنه سمع همهمة قومٍ من جهة ذلك النور
وتخيل وكأن أناسُ يتحركون وكأنه بهم يتقدمون صوبه ليؤازروه
تهللت أساريره ونشط من عقاله وفك سوار يديه عن رأسه .. وانطلق يعدو نحو الضوء الذي يثقب بحر العتمة لعله يجد ذلك الكنز الذي مافتئ
يبحث عنه في كل مكان هنا وهناك حتى أرشده الحكيم لهذا الدرب الذي يسلكه
.................... .................... .................... ...........
عندها زاد يقينه أن تلك الساحة ليست بالفعل ساحته
وتلك الحرب ليست بحربه
فحربه شريفة وأسلحته فيها شريفة شرف الحرب نفسها التي يخوضها
وساحته ـ بعد أن يعثر على الكنز المفقود ويعود به ـ هي ساحة تلك
الشجرة السامقة التي تركها البلهاء مدبرين
إلى تلك الشجرة الجرداء التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين
وتواردت الأفكار في رأسه : وماذا بعد أن آتي بذلك الكنز العجيب
الذي إن حاز عليه الباحث لايخيب ؟ بل يصيب ....
قرر أن يعرضه على الحكيم ..ليتيقن من أنه كنزٌ غير زائف من قشور
استفاق من شروده على أمين المكتبة ينبهه إلى أنه قد حان وقت الانصراف
فلملم أوراقه وهو مازال شارداً في بقايا رحلته ..
رحلة البحث عن الكنز المفقود , وتَرَك َبصمات يديه على المنضدة ,
وانصرف من المكتبة شاكراً لأمينها سعة صدره .
إسماعيل إبراهيم