خلود القصائد العربية
باللحن والغنــاءد. ماجد أبو ماضيالقصائد في دواوين الشعراء العرب وعلى مر العصور متنوعة ومختلفة الموضوعات، فلم يترك الشعراء أي موضوع من أغراض الشعر إلا ونسجوا قصائد جميلة فيه... وهذه الأغراض كثيرة ومتعددة منذ العصر الجاهلي وحتى عصرنا الحاضر، وكان هناك تغير وتطور في الموضوعات ومضامينها، وذلك تبعاً لتغير نمط الحياة الاجتماعية والعلمية.. فنلاحظ أن هناك أغراضاً شعرية كانت موجودة لكنها اندثرت، وبالمقابل هناك قضايا شعرية لم تظهر إلا في عصرنا الحاضر، وهذه ظاهرة شعرية صحية، لأنها تدل على تطور لغوي شعري يتناسب مع معطيات العصر.. فنجد من موضوعات الشعر القديمة «الغزل- الوصف- المديح- الهجاء- الرثاء...»، وأما الموضوعات التي ظهرت إضافة اليها فقد تمثلت في التصوير «تصوير الفقر لمعروف الرصافي- وتصوير مباراة كرة قدم...» وفي المخترعات العلمية كالهاتف والمذياع والحاسوب.. لكن الموضوع الذي نجده مشتركاً بين القديم والحديث هو القصائد الشعرية القصصية، فقد حاك الشعراء في تشكيلاتهم الشعرية ثوباً قصصياً، فكانت القصيدة التي ترتبط بزمان ومكان ولها شخصياتها وكل مقومات القصة.. وتمتاز هذه القصائد بأنها ترتبط بالحركة والحيوية، لذا أضفت سمة المتعة والاستمتاع الى جانب الفائدة ومعرفة الأشياء الجديدة من خلال ثنايا أبيات هذه القصة الشعرية.
وعندما أعجب الملحنون بهذه المزايا التقطوا القصائد المميزة ولحنوها بألحان جميلة أدت الى خلودها وبقائها شامخة.. فرددها الناس وطربوا لها وشعروا بها الدفء لأنها خاطبت مشاعرهم وأحاسيسهم، فنجد من هذه القصائد المغناة والتي عرفتها الأجيال قصيدة «سليمى» والتي غنتها مطربة الإذاعة السورية زكية حمدان وتقول فيها:
غدا لما أموت وأنت بعدي
تطوفين القبور على تأني
قفي بجوار قبري ثم قولي
أيا من كنت منك وكنت مني
فهذه القصيدة مغناة أسرت جوانحنا وذوقنا لأنها امتلكت كل مقومات الأغنية الناجحة، فمن لغة فصيحة معبرة الى لحن مميز وصوت جميل وانتهاء بالأداء الحسن فكتب لها الخلود، فإذا سمع أبناء الجيل الحالي مثل هذه الأغنية فإنهم سيستقبلونها ويحبونها، وهنا يبرز دور الإعلام في إحياء أغان قديمة وبث الروح فيها من جديد ولا بأس من ذكر تاريخ الأغنية ومتى أذيعت للمرة الأولى، وما المناسبة التي كتبت بسببها الكلمات وأديت فيها الأغنية، وبخاصة أن موضوعها يتضمن جانباً انسانياً كما يتضمن فلسفة الحياة لأن الشاعر هنا يوصي محبوبته بما ستفعله بعد وفاته.. ومن القصائد الرائعة التي غناها عمالقة الغناء العربي الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب والسيدة فيروز والمطربة نور الهدى، وكتبها أمير الشعراء أحمد شوقي بعنوان «يا جارة الوادي» هذه القصيدة تغنى فيها شاعرنا بمدينة لبنانية بديعة الجمال زحلة، حيث أقام فأعجبته بكل ما فيها من جمال الطبيعة والسكان والحياة الاجتماعية فيها، فألفها وشدا بهذه القصيدة التي كتبها على شكل قصة فشبهها بالفتاة الجميلة التي أحبها وأحبته، فيبدأ خطابه لها بندائها بجارة الوادي «وادي البقاع» قائلاً:
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى
والذكريات صدى السنين الحاكي
نعم إن له ذكريات جميلة وهذه ذكريات عبارة عن حكايات روتها له السنون التي مرت على هذه المدينة الحانية على صدر وادي البقاع الجميل، حيث كان الشاعر يلتقيها على هضبة خضراء مليئة بالأشجار الوارفة ليتبادلا العشق وينهلا من الحب والغرام فيقول:
ولقد مررت على الرياض بربوة
غناء كنت حيالها ألقاك
الى أن يصل الى تشبيه مدينة زحلة بالفتاة الجملية التي فرَقَتْ شعرها من منتصف رأسها فتدلى الشعر الأسود كالليل على الكتفين ليدخل الشاعر بينهما ويقبل ثغرها المضيء ووجها المشرق، لتسكت لغة الكلام وتبدأ لغة النظرات ذات المغزى الجميل والتي تحاكي شفافية النفس ورهافة الحس:
ودخلت في ليلين فرعك والدجى
ولثمت كالصبــح المنور فاك
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
عيني في لغة الهوى عيناك
وأمثال هذه القصائد القصصية المغناة منتشر على مر العصور، فمن منا ينسى قصة «الخمار الأسود» عندما كسدت أغطية الرأس ذوات اللون الأسود عند التاجر الدمشقي الذي كان يبيعها في أسواق بغداد، فأراد أن يقوم بعمل فيه الدعاية والترغيب للخمار ذي اللون الأسود، وهذا يدلنا على أن للإعلان دوراً كبيراً في التجارة والتسويق للسلع منذ القديم- فذهب الى صديقه مسكين الدارمي فلم يجده وسأل عنه فقالوا له: إنه معتكف في المسجد، فذهب إليه وطلب منه أن يكتب قصيدة عن الخمار الأسود، فرفض طلبه.. وبعد صد ورد ونقاش طويل، وافق على الكتابة، وبعد انتهائه من كتابتها ما كان من التاجر الدمشقي إلا أن كتبها على أوراق ونشرها بين النساء في المدينة، وذاع صيت الخمار الأسود فتهافتت النساء على شراء الخمر السود حتى نفذت من متجره، وكانت صفقة تجارية له «ضربة معلم»، كما كانت قنبلة شعرية اشتهرت وأعجب بها الكثيرون، وقد غناها مطربنا الرائع صباح فخري ومطلعها:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبد؟
قد كان شمر للصلاة ثيابه
لما وقفت له بباب المسجد
ونجد قصيدة غنائية كتبها الشاعر أحمد شوقي أيضاً حول قصة قيس وليلى والتي تبادل الأدوار في غنائها الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب والمطربة اسمهان والمطرب عباس فارس. كما اختار المطرب الكبير صباح فخري قصيدة على شكل قصة تتحدث عن الارتحال، اختارها من حياة القدماء في الانتقال من مضارب الى أخرى، فقد غنى قصيدة جميلة تخاطب المشاعر الانسانية في وداع الأحبة والغوالي، فيطلب من الحادي أن يعرج على دياره كي يودع الأحبة، لأن قلبه متيم ومعلق بهم وعندما يرحل الحادي فسيرحلون معه مما يؤدي به الى الشعور بدنو أجله وانتهاء حياته فيقول:
يا حادي العيس عرج كي أودعهم
يا حادي العيس في ترحالك الأجل
ولم تقتصر مثل هذه الأغاني على الموضوعات الغزلية، بل اشتملت على موضوعات دينية فنقرأ «نهج البردة» للبوصيري وهي تتحدث عن حادثة الإسراء والمعراج وقصيدة «القلب يعشق كل جميل» التي غنتها السيدة أم كلثوم وتسرد فيها قصة الحج الى الديار المقدسة، كما غنت أيضاً قصيدة قصصية للشاعر أحمد شوقي بعنوان «ولد الهدى» وتحكي قصة ولادة الرسول الأعظم «ص» ومطلعها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وضاء
وهكذا نجد أن شعرنا العربي مليء بالقصائد القصصية التي تناول البعض منها مطربون كبار غنوها وأطربونا بغنائهم، كما نجد شعراً قصصياً لم يتناوله بعد أحد من الطرفين، نتمنى عليهم أن يختاروا من هذه القصائد ويدفعوا بها الى الملحنين الأكفاء ليصنعوا لها لحناً مناسباً يمتعوننا به ويطربوننا ما يؤدي بالأغنية الى البقاء والخلود على مر الأجيال، كما أطربنا من قبلهم الشاعر نزار قباني والمطربة نجاة الصغيرة وغيرها في أغنية «لا تكذبي» و«ارجع إلي» و«ماذا أقول»، وكما فعل الفنان عبد الحليم حافظ عندما غنى شعر نزار قباني في أغنية «رسالة من تحت الماء»، وكذلك عندما غنى شعر الشاعر ايليا أبو ماضي في قصيدته «الطلاسم» أو «تأملات»:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري
وكان قد غناها من قبله الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، فخلدوا لنا روائع آمل أن نطمح الى صنيعهم ونسير على خطاهم ونرتقي الى ما وصلوا اليه من اختيار كلمات جميلة ووضع ألحان بديعة لها وتؤدى بشكل جميل وصوت عذب لتصبح من الأغاني الخالدة والتي لا تتقادم وتنسى عبر الأيام والسنين.