طالعت مقالا عن فيلم يتكلم تمرد مخلوقات هجينة على مبتكرها، هل يكرس هذا الفيلم الفوقية الغربية، بفساد وغرابة تمرد تلك المخلوقات الدونية؟ هكذا فهمتها فطالعوا ماكتب عن الفيلم:
فلم جزيرة الدكتور مورو كائنات شبه بشرية تتمرد على مبتكرها
نشر في: الثلاثاء 27 ديسمبر 2016 | 06:12 ص 28 مشاهدة لا توجد تعليقات
A+ A A-
قبل الثورة العلمية الجينية في الأزمنة الحديثة، خصّب الروائي الإنجليزي آتش جي ويلز، سرديًّا، كائنات مهجنة وراثيًّا في حالة وسطية ما بين الإنسان والحيوان، كان ذلك في عام 1896م، وقد تحولت أحداث رواية ويلز إلى وقائع درامية في فلم سينمائي أنتج عام 1996م، أي بعد قرن كامل من كتابة الرواية.
كثيرًا ما تقترف السينما من سرديات الخيال العلمي، المبنية أحداثها على فرضية كشف علمي يتوقع منه إحداث تغيير جذري في مسيرة البشرية، كما تستند السينما في أحيان كثيرة على الاختراقات العلمية الحقيقية التي يحققها العلماء والمكتشفون بين الحين والآخر سواء في الفيزياء والفضاء أو فيما يتعلق بالبحوث الطبية «الأحياء كيمائية» لا سيما ما يتعلق بثورة «الجينوم» التي غيرت كثيرًا في المفاهيم والنظريات الطبية. وقد تسبق المخيلة السينما إلى الاكتشاف العلمي، وتتجاوز سرديات وروايات الخيال العلمي، بما تنتجه من أفلام تتخطى حدود الخيال، وتضرب بعيدًا في عمق الإمكان البشري.
وكثيرة هي الأفلام التي أبدع مخرجوها وكتابها في اجتراح أزمنة درامية «علم خيالية» تتحدى المنطق والثوابت، وتحلق منطلقة مع الفن، وإن ارتبطت جذريًّا بحقائق علمية قيد البحث أو في طي الكتمان الكشفي، أذكر منها أفلام «الجزيرة، أكس مِن، أفاتار، المريخي، إي تي، ماتريكس.. إلخ»، والفلم الذي نتناول أحداثه هنا.
إنسان متوحد
جزيرة غابية معزولة وغير مكتشفة ذلك هو مسرح أحداث فلم «جزيرة الدكتور مورو»، مكان استوائي فطري بدائي، يسكنه إنسان متوحد هو الدكتور مورو (مارلون براندو)، ويشاركه في هذه العزلة مساعده مونتغمري (فال كيلمر). الدكتور مورو، عالم وطبيب طريد ومنفي، ومهووس بتجارب المزج والتشطير الوراثي والتخليق الجيني، وما يقترب من عملية الاستنساخ البيولوجي التي عرفها العالم بعد زمنه بوقت طويل.
يسعى من وراء تجاربه العلمية الغريبة وغير المفهومة لمجايليه، إلى إيجاد نموذج بشري مثالي –ربما تأثرًا بمفهوم نيتشه عن الإنسان الأعلى- اعتمادًا على تجاربه التي يجريها على مجموعة من الحيوانات المفترسة التي وجدها في هذه الجزيرة المعزولة، تحيا حياتها الطبيعية قبل أن يخربها ويدمرها، ويحدث ذلك حين ينجح في «كسر التراكيب الوراثية» لها ويتوصل إلى صبغة جينية/ وراثية تحولها من حيوانات غابية متوحشة إلى كائنات قابلة للتشكل البشري، والانتقال الكامل من خانة الدونية الحيوانية إلى حيز الارتقاء الإنساني، كما يعتقد ويصرح بذلك، وقد نجح فعليًّا في تخصيب وتهجين «لبؤة» بمولود بشري تمامًا وهي ابنته الجميلة إيسا (فايروزا بالك).
مسوخ مورو
غرائبية شخصية الدكتور مورو وطرائقه الصارمة في التعامل مع هذه الكائنات نصف البشرية، ومحاولاته الدؤوبة لتهجينها حتى على المستويين النفسي والعقلي؛ لكي تتخلق وفقًا لما يتصوره من مثالية بشرية، تجعله يبدو أمام هذه الكائنات المسخية أقرب إلى الإله، فتدين له بولاء غريب ملتزمة بقوانينه الخاصة التي سنَّها للسيطرة عليها «أكل اللحوم ممنوع، المشي على أربع ممنوع، قتل الآخرين ممنوع» وكل ما ينأى بها عن حياة القطيع والحيوانية السابقة. تتصاعد الأحداث الدرامية في الفلم حين يصل إدوارد بريدنيك (ديفيد ثيوليس) إلى جزيرة الدكتور مورو بعد غرق السفينة التي كان يستقلها في المحيط، فوجوده في المكان يضخ طاقة جديدة بين الكائنات شبه البشرية، ويدفعها إلى التمرد على محوِّلها ومهجنها –الدكتور مورو– فيلجأ الأخير إلى محاولة عكس تجاربه الجينية بحيث تُطبَّق على إدوارد، وبالتالي تحويله من إنسان إلى حيوان فيما يشبه «التبادلية الداروينية» مع كائنات الجزيرة الهجينة، بيد أن الابنة الجميلة (هجين الجينات) تتحالف مع الوافد إدوارد ضد والدها الجيني وتشارك في الثورة عليه، حتى تتمكن من مساعدته على الهرب من الجزيرة، والتخلص من آثار عملية التهجين التخليقي التي جرّبها على جسده والدها الدكتور، في حين تقود ثورة الكائنات إلى قتل الدكتور مورو ومساعده، وتدمير معمله وحرقه قبل أن تنطلق متحررة في فضاء الجزيرة الغابي مستعيدة حسّها القطيعي، في إشارة إلى عودتها إلى أصلها الحيواني!
أبعاد الفلم
فلم جزيرة الدكتور مورو يتشكل من أكثر من بعد تحليلي، فالبعد الجمالي والفني نتعرف من خلاله قدرات إخراجية متفردة للمخرج (جون فرانكينهايمر)، تحقق درجة عالية من استهامية سينما الخيال العلمي، كما أن إدارته الحرفية العالية لفريق العمل في كل جوانبه تجعل مشاهد الفلم تتماهى مع أحداثه المتحوّلة والمتسارعة لحظة بلحظة من دون حدوث أي فراغات تتابعية أو شروخ فنية؛ من حيث الأداء الدرامي، والمكياج التحويلي، والموسيقا، والمكان، وبناء الشخوص، والتصوير… إلخ. البعد الثاني للفلم هو مناقشة الآثار التي يمكن أن تترتب على البحوث والتجارب العلمية المتعلقة بـ«بيولوجيا الموروثات والتحول الجيني»، والعبث الذي يمكن أن ينتج عن هذا في حال تحققه على أيدي علماء مهووسين أو غير أخلاقيين على شاكلة الدكتور مورو، كما يتناول الفلم في بعد ثالث قيمة الثورة، وهي ثيمة مركزية في أفلام الخيال العلمي، والتوق إلى الحرية والتمرد على الدكتاتور/ الأب، وكسر القوانين/ النظام، واختيار الحياة التي تلائم الطبيعة «البشرية – الحيوانية – ومخلوقات مورو الهجين في الفلم».
الفلم نجح إلى حد بعيد في تقديم الأبعاد الثلاثة، ونصل إلى هذه النتيجة حين نمزج هذه الأبعاد لنخرج ببعد واحد، نستخلص من خلاله ذلك الإحساس بالخوف والرعب في حال نجحت مثل هذه التجارب العبثية على أرض الواقع، كما نجح الفلم في جرّنا إلى التعاطف مع الكائنات المهجنة والمشوَّهة، والمراهنة على ثورتها على الدكتور مورو، وأحقيتها في اختيار الحياة التي تناسبها بالتمرد على قوانين «الدكتاتور- السلطة الظالمة»، وهو انحياز من جانبنا يرمز إلى ميلنا إلى قيم الثورة إطلاقًا، ورفض كل محاولة للسيطرة وتفريغ الإنسان من إنسانيته، وتحويله إلى مجرد كائن بيولوجي أو إلكتروني – صناعي، كما تقدمه أفلام أخرى سنتناولها في قراءات قادمة. «جزيرة الدكتور مورو» أنتج كفلم أكثر من مرة؛ أولها كان في عام 1977م، وهذا يدل على القيمة السردية والدرامية للرواية التي يستند عليها.