الثورة التونسيّة: نحو مواطنة فعليّة
أصيل الشابي
ما حدث في تونس إضافة إلى كونه لم يكن متوقّعا في الظاهر له مغزى عميق متّصل بحياة الإنسان وحرّيته وكرامته والآفاق التي يفترض تصوّرها أمامنا، والحقيقة التي لا يمكن لأحد إنكارها أنّ المسألة لم تحض في البداية مع الاحتجاج في قفصة أو في القيروان في ما يتّصل بمصنع الشاحنات المغاربيّة أو في بن قردان أو في سيدي بوزيد أو القصرين وغيرها بما في ذلك إضرام النار في النفس والتعبير عن اليأس والانفلات إلى خارج الضيق من فوهة مرعبة باهتمام واسع، ولم يتحقّق ذلك إلاّ بتوالي الأيّام وتسارع الأحداث المعبّرة والمعبّرة جدّا.
لم تكن هناك قيادة متمركزة، قيادة متفرّغة لإدارة الانتفاضة وتحويلها على مدى مدروس إلى ثورة ناطقة باسم الشعب، و إنّما كان هناك وعي ضمن قطاعات محدّدة كقطاع التعليم والقانون والصحافة كما بالنسبة إلى مجال الحقوقييّن، وكان الكلّ يعرف أنّ تلك القطاعات الواعية بسريان الرفض في صلب الشعب هي بمثابة الجزر الطافية، بعضها هنا وبعضها هناك، وفجأة مثّلت هبّة المحامين والنقابيين منعرجا كبيرا في المبادأة بالرفض الجمعياتي ومساندة المطلب الشعبي المعيشي أي ذاك المتعلّق بالحقّ في الشغل والمدين لصمم المسؤولين حيال سؤال المواطنين .
لابدّ من القول: إنّ المسألة لم تكن ذات عنوان سياسي بالمرّة أي لم تكن مؤطّرة سياسيّا، ولم تكن هناك أصوات تأتي من الخارج معبّئة أو موجّهة علي الطريقة الديغوليّة لما يحدث، كان أمرا فريدا ومنتجا باستمرار للتشويق لأنّ شاشة العرض السارية في المجتمع كانت تتّسع أكثر فأكثر ويزداد عمقها أكثر فأكثر إلى درجة تحويل اللامرئي إلى مرئي، فظهرت الأحزاب السياسيّة وتداركت المنظّمات بأنواعها والتحقت الشخصيات وتكوّن السياق والتحم بغمرة الغضب لتتحوّل المطالبات الأولى إلى رهانات عالية على الحريّة والكرامة.
واليوم وبعد أن كان هناك تخوّف على الثورة الشعبيّة لأنّها لم تكن مؤطّرة سياسيّا أصبح هناك تخوّف من نوع آخر أساسه الخوف من تجاذب الأطراف السياسيّة تحت وقع الحسابات القديمة ، المعترف بها وغير المعترف بها، الدينيّة والعلمانيّة، الراديكاليّة وغير الراديكاليّة، هذه مشكلة حقيقيّة لأنّه لا مغزى لكلّ ما حدث خارج فكرة التعايش بين الأفكار والتوجّهات والمقاربات، فكرة التعايش هذه هي أساس المجتمعات الراقية قديما وحديثا من بغداد العرب والموالي إلى أندلس الحواضر المخصّبة بالبربر واليهود والسلتيين إلى الديمقراطيات الوطنيّة هذه الأيّام، وهكذا قد يطرح مشكل في مجتمعنا يتمثّل في التوصيف التالي: إمّا أنت وإمّا أنا،يمكن تفسير ذلك بغياب التنوّع السياسي تحديدا من قبل والذي لم يكن على أكبر تقدير في باب النفاق السياسي سوى مجرّد تمويه وإيهام.
ذاك رهان حقيقي اليوم لأنّ المسألة في جوهرها اجتماعي بالمعنى العميق ذات صلة ببنية التفكير، وأمّا إذا كانت ثورة الشعب ستخترق بالحسابات الضيّقة لا المحاسبة الشرعيّة وتحيّن الفرص والاصطياد في المياه العكرة، فإنّه سيقع التفويت في لحظة تاريخيّة عظيمة قد لا تعود في سياق معولم بهذا القدر لا يهتمّ كثيرا بالحقوق والمصالح الوطنيّة والثقافات المتنوّعة والهويّات بألوانها المختلفة، ويكفي في هذا الباب الإشارة إلى كتاب من قبيل "فخّ العولمة" للألمانيين هاني ـ بيتر ماتين و هارالد شومان .
لغة الشعب التونسي اليوم مسموعة ومؤثّرة كما لم يحدث ذلك في السابق، لذلك فإنّ السياسي يحاول اللّحاق بها، وضمن تلك اللّغة هناك مطالب كثيرة ومتنوّعة لا يشكّ أحد في أنّها مشروعة وعادلة، ولكنّ الخوف هو من استدراج تلك المطالب لخدمة هذه الجهة أو تلك، لأنّ هناك من يريد الارضاء دون الرّجوع إلى المبادئ الواجب الالتزام بها في إطار الدولة، ولهذا فإنّني أفهم تأكيد الوزير الأوّل الجديد الباجي قائد السبسي أهميّة الصدق والإخلاص على أنّه ردّ في غاية الحذق يقطع الطريق على محاولة ابتزاز المواطن، وكأنّه كان يقول: يجب أن تكون العمليّة السياسيّة قبل كلّ شيء نظيفة بما فيه الكفاية، وقد قال ذلك بالفعل بذكر الأيدي النظيفة، فالمجتمعات الأكثر تقدّما تبجّل فيها تبجيلا قيمة المصداقيّة، لأنّ المواطنة تشترط في ما تشترط نجاعة الرجل الصادق الذي لا يصنع الكذب ولا يروّجه، هذا بطبيعة الحال عدا عن الكفاءة والدراية.
يرغب الناس اليوم من خلال تعبيرهم عن غياب الثقة في مواطنة فعليّة والعارفون يدركون أنّ الحياة السياسية غير منظّمة بما يكفي، فالأحزاب السياسيّة نتيجة لعشرين سنة من الاضطهاد غير معروفة، وهي على الأرجح لا تملك برامج واضحة أو مقاربات مدروسة ذات آفاق مستقبليّة، وإذا كانت المواطنة ثقافة كاملة، فإنّه لا ينبغي المبالغة لنقول كما قيل سابقا إنّ المواطن بلغ من النضج تلك المراتب الرفيعة والمنازل العليّة لأننا كلّنا منهكون،ففي الأنظمة الدكتاتوريّة تحطّ السلطة الكانيباليّة التي تتغذّى على اللّحم والدم من الوعي والثقافة والعلم رغم أنفة الإنسان، وهكذا فإنّ المواطنة ليست مجرّد مطالب فوريّة أو ظرفيّة ماديّة أو رمزيّة، إنّها أعمق من ذلك ترتبط بموقف نابع من الفرد وليس مسلّطا عليه، موقف له علاقة بالمستوى الأخلاقي قبل كلّ شيء الذي ينصّ على الكرامة أوّلا، ومن ثمّ الثقافة والتعليم والتجربة.
الشعب اليوم يريد أن يوجد ما هو غير موجود، إنّها نقطة عالية من الوعي تتطلّب فهمها من قبل النخبة مالكة الأدوات والمفاهيم، فليس مطلوبا في أيّ مجتمع من المجتمعات فقط مراعاة ما حولها وضبط قياسات لما هو ممكن وماهو غير ممكن، فتتخوّف الأحزاب السياسيّة من المسائل على قدر الإمكان، بينما تفترض العمليّة السياسيّة تطوير الحياة والدخول في رهانات كبيرة تفتح على آفاق جديدة، هذا أمر في غاية الخطورة لأنّه كما قرّر روسو ما من شيء إلاّ ويرتبط جذريّا بالسياسة، فحينما يطال الركود السياسة يطال جميع المجالات، و هكذا من سيطوّر الصحافة ويحرص على استقلاليّة القضاء ويكرّس الشفافيّة ويكفل مبدأ تكافؤ الفرص وغير ذلك إذا لم يكن ذلك الشخص هو السياسي.
هناك في تونس اليوم خطاب سياسي جديد ليست له أبجديّة مقنّنة بالمعنى الفنّي بعد يكتبه الشعب بتجربته والرجال المخلصون بعلمهم، وهو خطاب في غاية الأهميّة بمعنى أنّه رهان لتونس والعالم العربي والعالم الثالث، وفي صلب هذا الخطاب هناك مواضعات جديدة في طور التكوين لا تقوم على العاطفة، وإنّما بالأساس على تنمية الفكر والمجتمع و المواطنة الفعلية.
ما كان ليحدث ما حدث لو شعر المواطن بمكانته، فليعرف الكلّ اليوم أنّ شرف المواطنة هو أعلى شرف، ولن يضير أحدهم أن يقول: أتخلّى أو أستقيل أو أعتذر عن تكليف أو مسؤوليّة طالما أنّه سيحمي نفسه بوصفه مواطنا ممّا قد يخدشه هذا عدا عن أنّ اعتزازه بنفسه سابق لكلّ سلطة.
شاهدت شخصيات أوروبيّة تتحدّث عمّا حدث وكانت تشترك في التنصيص على ظهور رأي عام في المجتمع العربي، رأي عام رافض لخنق الحرّيات واعتماد أسلوب تلميع الأنظمة قياسا على تلميع الأحذية بكلّ ما يعنيه ذلك من اختيار العمى حيال الحقائق والوقائع والمعطيات فلطالما صودرت الكلمة إلى درجة الإهانة ، ولكن انظروا إلى عالمنا العربي البائس لا يعتبر بما يحدث ويصرّ الحكاّم فيه على التمسّك بالسلطة بطريقة مقزّزة، لاعاش المواطن ولا كان فالمهمّ أن تدور عجلة السلطة وتدور يحرّكها مراهقون وجهلة وصولهم هو في حقيقة الأمر جريمة اجتماعيّة جماعيّة لأنّ في المجتمعات التي وطّن الجهل فيها نفسه يصبح الانحطاط أمرا واقعا، و الآن انظروا إلى بشّار يتمسّك بالحكم وكأنّه قدره الحقيقي ، إنّه في مرآة نفسه ملكا آخر شبيها بالقذّافي الملك الواهم والمراهق الذي لوّث سماء بلاده ، لقد تغيّر العالم بلا رجعة ليس بالضرورة إلى ما هو أحسن فذلك ما يتوقّف على عمل الإنسان ولكن بما لا يقبل مستقبلا سلاطين وارثين ومورّثين و محسنين وكرماء ومثاليين وضامنين للمستقبل،وهكذا يتشكّل التاريخ اليوم كما الجغرافيا تقريبا كما حدث قبيل حروب الاستقلال الوطنيّة مع فارق أنّه إذا كانت تلك الحروب قد سرقت من أهدافها وصادرها وهم الفرد الحاكم فإنّ الأمل يحدو الجميع لكي تلوي التطوّرات الراهنة الطريق إلى آفاق واعدة وواقعيّة.
الوقائع التونسيّة 8 ديسمبر2011
Chebbiassil @hotmail.fr