من مقدمة كتاب (حركية الكلمة في سرادق الموت)
التقديم بقلم الدكتور عبد الله حسين كراز
يطل علينا الناقد والباحث والكاتب الفذ احمد حسن محمد ناسجاً بفكره وقلمه محاولةً جادةً في نقد بناء وذاتي المطلع، مقدماً عملاً رؤيوياً معرفياً وثقافياً ، وفيه يجرّب ويحدّث مستلهماً أفكاره ورؤاه من محاولات سبقته في المجال النقدي التجريدي والأسلوبي والمعرفي للنصوص الأدبية التي ترقى للذائقة الحيوية لدى المتلقي الواعي والمثقف والإنسان.
بذلك، يقدم الناقد الباحث الملهم أحمد مدرسةً يؤسسها على ذاتية التجربة مع الكلمة والإبداع والتناول والبناء الفني للنص الشعري تحديداً، مستحضراً مبادئ مختلفة الوظائف النقدية من مدارس نقدية عدة، منها مدرسة التحليلي النفسي والمدرسة البنيوية والمدرسة التفكيكية ومدرسة التحليل الاجتماعي ولا ينسى المغامرة في تخوم النقد المقارن والتناص، وبالتالي هو يؤسس لمدرسة نقدية شاملة وحديثة (أو حداثية) تراعي طقوس العمل النقدي في المرحلة المعاصرة.
يستشهد الكاتب في ذلك بقصيدة ارتآها تخدم فكرته وهمومه النقدية بعنوان "سرادق الموت" للشاعر العملاق د. محمد حسن السمان على ما فيها من تخليق فني وفكرة إنسانية وبيان فصيح ومجاز لا ينقطع عن فضاء اللغة الشاعرية بكل أدواتها وتقنياتها، لذا نرى الكاتب أحمد ينشط في كل اتجاه نقدي بحثاً عن رؤية متفردة ولائقة بمقام النص وصاحبه.
يركز الباحث في كتابه على آلية التحليل النفسي ومكنوناته وعناصره ومستوجباته الفنية والدلالية والإشارية، هكذا يبدأ كتابه، وسرعان ما نكتشف أنه يطرح عملاً نقدياً ذات طقوس مميزة وخاصة بوعيها وإدراكها للنقد المعاصر والحديث/الحداثي، متوقعاً أن يسهم في بناء منظومة معرفية نقدية تناسب كل أذواق الأدب والفكر المتعلق به. كما يميل الكاتب لطرح نقد "الإيماءات" عندما يتحدث عن الحركة النفسية والفكرية والجسدية في نص الشاعر السمان، ليشتعل النفسي مع الجسدي وكلاهما يمتزجان في فضاء معرفي وفكري مستحضراً لعدة أراء في تعزيز ما يرى وتأكيد رؤيته النقدية في نص يريد أن يفيه حقه و جدارته.
ولا ينسى الكاتب أن يأخذنا لعالم النقد الخلافي حول موضوعة الشكل والمضمون بتقليديته وحداثته على حدٍ سواء، مشتغلاً على خاصية التحول في الدلالة اللغوية والمعنوية والإيحائية لبعض الأفعال التي تتسيد القصيدة تحت المجهر. وهو لا يبتعد مرةً أخرى عن أجواء النقد التحليلي النفسي والطقوس الخاصة به، مولياً جل اهتمامه ورؤيته ومعرفته لعلاقة تلك الحالة بالمنتج الأدبي والشعري والفكري والثقافي، ومستبيحاً ما يرمي إليه مبدأ الاستنباط والاستدلال عندما يتكلم عن النقد الأسلوبي للقصيدة "السمانية."
ففي الجزء الأول من الكتاب، يضعنا الكاتب أمام "الشكل الخليلي ترجمة للحركة النفسية والفكرية والجسدية عند الشاعر" ، مقدماً محاولته في هذا المنجز على أنها محاولة في النقد من منظور أسلوبي مستشهداً بالعديد من الآراء ذات السياق المتعلقة بتتابع التطور الانفعالي والنفسي والتصويري واللغوي عند الشاعر السمان.
ثم في الجزء الثاني المعنون "اللغة والصورة من زاوية تفسيرية،" ينطلق من المبدأ الرؤيوي النفسي ولكن مستحضراً بالوقت ذاته منطق الرومانسية في تأويل نص ما أمام ناظريه، وهو هنا يتعمق كثيراً في تلافيف الرؤية النفسية وتحليلها في النص الواحد، وذلك – كما يبدو – بحكم تجربة شخصية أو ذاتية دائمة الحضور والتأثير في مجريات الرؤية النقدية، أكانت نفسية أو أسلوبية أو غير ذلك. و يفرد الكاتب مساحة جادةً من أجل الإبحار في "اللغة الحياتية في النص وقلة البديع" متعمقاً برؤية نقدية في التركيب/ والكلمة المفردة/ والإيقاع الصوتي.
ثم بعد هذا الإبحار يأتي الكاتب بدفقات رؤيوية في باب مفرد للبحث في "محاولة تغيير صورة عقلية" لدى الشاعر السمان مستدعياً تراثه المعرفي والثقافي للغوص في أعماق التجربة الذهنية لدى النص وكاتبه.
ولا يغيب – كما أِشرت – ذهن الناقد/ الكاتب عن فضاء النقد المقارن و التناصي عندما يلجأ لاستحضار نصوص موازية للنص تحت عدسته النقدية معززاً ومؤكداً رؤيته الفنية والثيماتية.
وأخيراً، يقدم في الجزء الثالث ممارسة تحليلية واعيةً لحركة المفردات ذات الشأن النفسي والتي تهيمن على تجربته هو الذاتية بحكم الواقع واليومي، محولاً النص قيد التحري ومفرداته لقاموس شعري ونقدي يجتر منه وفيه إحداثيات التجربة الكتابية المعاصرة ويغمسها بحبر فكرته وخبرته الشخصية مقدماً أنموذجاً نقدياً حديثاً يترك بصماته الشابة عليها ومستحضراً بعمق ورحابة قيماً أدبية سامقة وخالدة، ويكون مرجعاً نقدياًً للعديد من الباحثين والدارسين في الأدب والنقد.
وهكذا، يجئ هذا الكتاب متفرداً بتحليلات نقدية تفكك الإشارات الحسية والدلالات الذهنية للأبنية اللغوية، مفسراً إرهاصات الجمال في أبنية النص تحت التحري ومؤولاً إيحاءاتها ومقارباً بين البنى الدلالية. وبالتالي أرى أن هذا المنجز النقدي يسهم في التطور النقدي الأدبي المعاصر ويسمو في سماء الحركة النقدية الحديثة بطريقة متداخلة الأنظمة النقدية والمعرفية، حيث يستكنه شعرية النص "سرادق الموت" للدكتور السمان بقراءته الذاتية الحدسية، باندماج متكامل مع النص والتماهي مع إرهاصاته الذهنية والفنية والنفسية، ولكن كل ذلك في إطار محدد من الموضوعية الملتزمة بالدقة والمنهجية النقدية المعاصرة دون تكلف أو مداهنة أو تملق زائف.
وبهذا يأتي الكتاب إضاءة متفردة ومتميزة في الكشف عن مواطن الجماليات لتشكيل شعر د. السمان وأبنيته وأفكاره، ومحاولةً لإثراء الحركة النقدية الحديثة وخدمة لكل الأذواق القارئة على مختلف مستوياتهم ومشاربهم.