رسائل الأشجان .. لأبي علي الغلبان
الرسالة الخامسة : سكة سفر
قال أبو علي الغلبان:
كنت معجبا بأبي ، ذلك الرجل المتعب ، كنت أحبه وأمي لدرجة أنني لم أجرؤ على التفكير في يوم من الأيام أن أقترب لمجرد ألف ميل من كلمة ( أف ) ...!
.. كنت أحب من يحبان وإن كان عدوي ، وما يحبان وإن كان سما ، أتجرعه بصمت ورضى ..
كان أبي يرقبني حين كنت أنزوي مع كتبي في حجرة صغيرة كزنزانة ..
يراني أفتح النافذة الخلفية، فتطل من أخرى فتاة في عمر الياسمين··
كنت أراها ..
تحمل إبداعات فنان حين تربط ضفائرها ..
رشيقة كفراشة ، حلوة قال - والله العظيم - كطعم معجون الكولينوس الذي لحسته قبل أن أعلم أنه لتنظيف الأسنان ..!
كان يحبني ..
يعلم أنني مجتهد وعاشق··
أحب وطني وابنة الجيران··!
حزم أمره ، شاور أمي ، واتفقا على أن يطلبا يدها لي ، ليشيعا في نفسي الطمأنينة والاجتهاد ..
كانت طلبات أهلها كثيرة : حجرة مستقلة ،( سداجة )، فرشة مخططة ، وسراج كيروسين نمرة أربعة ، وبابور كاز سويدي ، ودولاب ملابس بشرط ألا يكون من خشب الجميز ، وكيس كعكبان وصدر نمورة للمعازيم ، ثوب مطرز جنة ونار ، وسرير ما نامت عليه بنت السلطان ..
قال أبي : تكرم عيونكم ، فصلوا وإحنا نلبس ..!
صرختُ : مستحيل .. فلكزني لأهدأ ففعلت ..!
قال لهم انتظروا حتى يكبر قليلا ويتدبر كثيرا ·· فما انتظروا··
سُقط في يدي··
رحلت .. حتى بلغ بنا الأمر أن نأكل في صحون كرتون ، وهوت دوغ وتيك أوي .. مما أغضب أبي في وقت لاحق ، لأني خرجت عن طباع القبيلة وصرت ( إفرنجي برنجي ) وحاول تأديبي ، رحمه الله ، برمزية ، حيث أرسل لي صورة وهو يأكل العدس في زبدية من الفخار ..!
ملعون أبوك يا زمن ،
أخرجتني عن طوري ..
أعلنت توبتي وحرمت على نفسي أشياء مثل يعقوب ..!
أكلتني المدائن ..
وامتدت سكة السفر طويلا ..
ما عدت إلى المكان .. لكنه ما غادرني منذ تلك اللحظة ، كما هي ..!
00
الوقت أقصر من حبل الوريد ، قال .
وصار الغلبان ينتقل من مدينة إلى أخرى ، من دار إلى دار ومن باب إلى باب ··
عشر سنين ، مئة ، ألف سنة مما تعدون ··
الأمور عنده لم تختلف كثيراً··
من مكان صغير إلى أكبر·· سيان ..
يقول إن الإنسان إذا خرج من داره ( قل مقداره ) مهما تعددت الأسباب وتوفرت سبل العيش ، فإنه يشعر باغتراب شامل·· يتنفس هواء غير هواء وطنه·· يأكل طعاماً غير طعام وطنه - والشهادة لله - كان يحمد الله كثيراً·· ولم ينس فضل يد تقدمت له بالحسنى ، أو طبطبت عليه في ليل بهيم ..
وبعد دهر لاحق ، وحين صار فردا في قطيع ، أخذ يلقن أولاده الفضيلة والعرفان .. والأمل·
..
.
ذات نهار·· فرك أذن ابنه الأكبر وقال:
لا تخف، لا تخف..
إن الخوف يبعد الوطن كثيراً ..
كن شجاعا تقترب من الله والوطن .
..
.
وقال له : لا تبق في القطيع ، أخرج منه إلى السرب ..
قال : أخاف يا أبتاه أن يأكلني الذيب .. فتبيض عيناك كيعقوب .
- يأكلك الذئب أفضل من أن يحرسك الكلب ..
..
ابتعد كثيرا ، في مشاوير العمر ..
كان السفر ، وكان عواء الكلاب يملأ الأفق ..!
حسن سلامة
h_salama_51@yahoo.com[/align]