خطبة الجمعة : قطوف الإيمان.. للإمام الشيخ عبد الله المؤدب البدروشي.. الخطيب بجامع أبي لبابة الأنصاري .. قابس
* * *
الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان..و زينه في قلوبنا.. و كره إلينا الكفر و الفسوق و العصيان.. وجعلنا من الراشدين.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له..شرفنا بهذا الدين.. و أمرنا باتباع هديه المبين.. وأشهد أن سيدنا و حبيب قلوبنا محمدا عبده و رسوله..جمع الإيمان والإحسان.. و نصح الأمة بالحجة و البرهان.. اللهم صل و سلم عليه في الأولين و الآخرين..وارض اللهم على آله و أصحابه الغر الميامين.. واجمعنا به على حوضه مع أصفياء أمته المقربين..واجعله شفيعنا و قائدنا إلى جوارك الأمين.. أما بعد .. إخوة الإيمان والعقيدة
حديثنا اليوم.. عن أمر عظيم .. خلق الله من أجله جميع خلقه.. وأرسل لتحقيقه جميع رسله.. و أنزل لترسيخه جميع كتبه.. و نتيجة له ..تنصب الموازين يوم القيامة.. و يكون الحساب و الثواب و العقاب..و به يتفرق الناس فرقين..كما جاء في قول ربنا تبارك و تعالى.. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى : 7]..هذا الأمر العظيم.. هو الإيمان..وهو الإعتراف الكامل بجميع ما أمر الله به.. وتطبيق لكل ما أتى به رسوله..صلى الله عليه وسلم.. وهو اعتقاد و قول و عمل.. لا يرد عليه شك ولا ريب ..يقول الله جل جلاله..إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات : 15].. و مع ذلك اليقين.. وذلك الإيمان الراسخ.. نفوس فاضلة ..و أعمال صالحة و أخلاق عالية .. فالإيمان ليس اعتقادا فقط.. وليس اعترافا باللسان فحسب ..لأن إبليس أقسم بعزة رب العزة تبارك و تعالى .. قَالَفَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : 82].. وفي جوابه عن عدم سجوده لآدم..قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف : 12]..فهو معترف لله بالعزة ..و مؤمن له بالخلق..لكن.. لا قيمة للإيمان إذا كان في نفس شريرة.. وبأعمال رذيلة.. وبأخلاق سيئة.. قالوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا .. غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ.. و الحديث من صحيح الترغيب .. فليس الإيمان مجرد نطق باللسان.. مجرد إعلان.. لا تصاحبه طاعة..مجرد انتساب لا يصاحبه تطبيق لما شرع الله.. مجرد انتماء لا تصاحبه أخلاق فاضلة..و تعامل بالحسنى.. إنما الإيمان أن يحتكم المؤمن إلى شرع الله ..في أمور دنياه و أخراه.. أن يرضى بما شرع الله.. أن يطبق ما أمر الله به.. أن يكون على المنهج الذي رسمه الله
و في زماننا.. يقف المؤمن أمام حال أهل الإسلام..فيرى عجبا.. يرى في بلاد المسلمين .. من يطالب بإبعاد الدين عن حياة المسلمين.. ليفتك من الإنسان هويته العظمى .. وسبب وجوده في هذه الحياة.. متغافلين أن الإسلام من الله و إلى الله..وأن المسلم من الله وإلى الله.. ونداء الله في فطرة الإنسان..قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام : 162] .. أليس من خلق الناس..هو الذي قال للناس..فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم : 30] ومن جانب آخر.. وفي هذا الزمان.. يرى المؤمن نساء يطالبن بالمساواة بين الرجال والنساء .. والله جل وعلا الذي خلق الذكر و الأنثى يقول.. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى [آل عمران : 36] يطالبن بالمساواة ..والله الذي خلقهن.. وهو أعلم منهن بصالحهن.. يقول في الميراث..لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء : 11].. يطالبن بالمساواة .. والله الذي علمهن ..وثقفهن.. يقول في الشهادة.. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة : 282].. لكن .. يحدث هذا.. حين يغيب الإيمان عن القلوب .. يريدون إبعاد هذا الدين .. من حياة المسلمين .. لأنهم لم يقرؤوا هذا الدين .. و لم يقرؤوا التاريخ .. ولم تتفتح عيونهم عن ظاهرة قائمة في زماننا.. نعيشها كل يوم ..وهي أن علماء الغرب يدخلون في دين الله أفواجا .. وجهلاء المسلمين يخرجون منه أشتاتا .. والجاهل يفعل بنفسه.. ما يفعل العدو بعدوه .. هذه الأمة.. لما آمنت بربها.. وأطاعت خالقها.. لما قالت .. رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران : 193].. لما سمعت وأطاعت.. لم تمض إلا أعوام قليله..تربعت بعدها على عرش القيادة.. فملأت القلوب طمأنينة و أمنا..و ملأت الجيوب ذهبا وفضة.. وملكت العزة.. وفي زحمة المطالبات هذه الأيام ..يطالبون بما يغضب الله .. يريدون أن يحلوا ما حرم الله.. ويحرموا ما أحل الله ..والله الذي خلقنا..هو أعلم بما يصلح لنا..هو أعلم بما ينفعنا.. وأحكام شرعه واضحة بيننا .. القرآن محفوظ بحفظه..والسنة مجموعة و ثابتة في الصحاح.. و أمره لنا باتباع سبيله..ونهيه عن اتباع غيره.. و تأكيده على ذلك في وصيته لنا.. ينادي فينا..وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ.. وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ .. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام : 153].. ثم ماذا..؟ أخبرنا الجليل في جلاله.. أن من يتبع غير سبيله.. سيضيع في متاهات الدنيا..فيشقى.. و يتنظره عذاب الآخرة..فيبعث أعمى.. ومن للأعمى بأرض المحشر.. ومن للأعمى لاجتياز الصراط.. مآله إلى النار..يخلد فيها مهانا.. قال جل جلاله..وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا.. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا.. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه : 124 ، 126].. من أجل ذلك.. أمر الله أهل الإيمان بزيادة الإيمان..فقال جل وعلا .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.. وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ .. [النساء : 136] أي أطيعوا جميع أمره..كما جاء في القرآن والسنة.. فلتكن صلاتنا صلة بخالقنا.. تزيد في صلتنا بخلقه..وليكن صيامنا و زكاتنا و حجنا .. تقوى ترفع أعمالنا الصالحة إلى بارئنا..و تزيد في ألفتنا و تراحمنا مع من حولنا.. ولتكن معاملاتنا من البيت إلى الشارع إلى العمل..بما حدده الله لنا.. ليكن كلامنا على السنة ..ليكن لباسنا على السنة ..لتكن أفراحنا على السنة ..لتكن أتراحنا على السنة.. فعلى الكتاب والسنة تكون الحياة و الممات.. فلا حياة للمؤمن و لا فوز و لا نجاح إذا خرج عن المنهج.. و ما أحوجنا في هذا الزمان.. إلى إيمان صادق.. يعرفنا بخالقنا ..و يربطنا بديننا..ويلاقينا بحبيبنا صلى الله عليه وسلم.. ما أحوجنا إلى إيمان.. يجدد في قلوبنا تقوى الله..و خشيته.. و مخافته.. ما أحوجنا اليوم إلى إيمان.. يرفع مراتب الأعمال إلى الصالحات ..ويدفع مراتب الأقوال إلى الصدق..ما أحوجنا اليوم..إلى إيمان يذيب القسوة من قلوبنا .. و ينشر فيها لذة العبادة..و متعة اللقاء مع الله.. ما أحوجنا إلى إيمان.. نسمع به القرآن فنخشع.. و نعامل به الناس فننفع ..لكننا.. نعيش في هذه الحياة..كأننا الخالدون فيها.. فتحملنا الدنيا إلى الدنيا.. و نتعامل بتعامل الدنيا.. وننسى الله.. وننسى شرع الله.. ونغفل عن عودتنا المحتومة إلى الله..وهو الذي خلقنا بإحسان ..و ميزنا بالإدراك و البيان.وهو الذي نبهنا و حذرنا بقوله الكريم..أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون : 115]..العودة إلى الله مقررة و مقدرة ..و اللقاء به لا محالة قادم .. يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الإنشقاق : 6] فماذا أعددنا لهذا اللقاء .. وأي إيمان عقدنا..حتى نضمن العودة السليمة إلى الله اللهم أهدنا بنورك إليك، وأقمنا بصدق العبودية بين يديك، وارزقنا زهداً في دنيانا ومزيداً لديك، واجعل ألسنتنا رطبة بذكرك، وأنفسنا مطيعة لأمرك، وقلوبنا منعمة بقربك
أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم /