20/6/2018
كان برنامج الرحلات المدرسية دوما يشمل دائما زيارة المسجد الأقصى (المسافة بين جنين والقدس حوالي 100كم)؛ كنا نتجول في ساحاته ومصلياته، وكان المعلم يقف أمام منبر صلاح الدين المحترق (رمم لاحقا بتمويل أردني) ويشرح لنا عن الحريق الإجرامي سنة 1969 وكانت فرصة لاختبار التلاميذ أيهم يلم بمعجزة الإسراء والمعراج ليشرحها أمام زملائه قبل الدخول إلى المسجد أو داخل ساحاته.
كان مقر كلية الدعوة وأصول الدين التابعة لجامعة القدس داخل المسجد، في أماكن متواضعة ولكن تلقي الطلبة للعلم الشرعي ولو بطريقة الساعات المعتمدة له نكهة خاصة، وكانت القدس بمعالمها التاريخية والدينية مفتوحة، فهناك من يزور كنيسة القيامة ويستمع مكررا إلى حادثة رفض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- الصلاة فيها لتتجه الأعين نحو جامع عمر، وتعود لتسمع أن مفاتيح الكنيسة في عهدة عائلة مسلمة (نسيبة وجودة) وتسير في الحواري والأزقة وكأنك تعيش أحداث مسلسل تاريخي أو برنامج وثائقي، صحيح كان هناك جنود وشرطة إسرائيلية، ولكن بأعداد أقل مما صار عليه الحال، وبعدوانية مقلصة.
تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال، ولم يعد التلاميذ يذهبون إلى القدس كما السابق إلا بتصاريح خاصة لا تمنح إلا بشق الأنفس، وكلية الدعوة وأصول الدين انتقلت قسرا منذ 1993 إلى مقر جامعة القدس في بلدة أبو ديس المجاورة التي حاليا يفصلها الجدار عن مدينة القدس، وهذه الكلية كان لعدد ممن درسوا فيها أيام كانت في المسجد الأقصى باع طويل في المقاومة ودرب ذات الشوكة ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشهيد محمود أبو هنود.
كان اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) حديث التوقيع، وكانت القدس شأنها شأن غيرها تشهد جدلا ونقاشات وندوات، وتستمع إلى الأخبار والأحاديث والتعليقات في كل مكان تقريبا..
قُدًّر لي زيارة القدس في مراحل مختلفة من سني عمري، وهي طبعا مختلفة بعدما حلّ من تغيرات في المدينة، قبلتنا الأولى ومسرى النبي-صلى الله عليه وسلم- ففي المرحلة الأولى كنت التلميذ الصغير في المدرسة، وكان الحال كما ذكرت في السطور السابقة؛ وفي المرحلة الثانية كنت في مرحلة الشباب والدراسة الجامعية، حيث أنني درست في كلية العلوم والتكنولوجيا والتي مقرها أبو ديس (قبل الانتقال بعد سنة إلى جامعة النجاح في نابلس) وكنت أحيانا أحصل على تصريح لدخول القدس، وكانت أجرة الباص بين أبو ديس والقدس شيكل واحد فقط، ولم أعر الدراسة اهتماما بقدر الرغبة في اكتشاف ما يمكن اكتشافه من المدينة الأسيرة ومعالمها؛ كنت غالبا أتجول وحدي، لاحظت الفرق في اللهجة بين القدس وبين قراها سواء المهجرة أو التي ما زالت قائمة؛ أسمع القاف تنطق همزة من أهل المدينة، وأسمع الكاف حرف (H) من أهل القرى.
أتذكر وأنا أسير في (طريق الآلام) أغنية عبد الحليم حافظ، ولا يغيب عن بالي في مسيري صوت فيروز (وبالمناسبة لست معجبا بأي من أغنياتها سوى ما هو للقدس) ففي كل زقاق كأن في أذني صوتها(يا بهية المساجد..يا زهرة المدائن)...أدخل إلى المسجد الأقصى وعلى كل باب مجموعة من أفراد الشرطة الإسرائيلية، في غالب الأحيان يسجلون أسماء الداخلين خاصة من هم في سن الشباب مثلي بالقلم والورقة أو إلكترونيا، وفي بعض الحالات يحتجزون الهوية الشخصية، كي يستردها الداخل عند خروجه أي عليه أن يخرج من نفس الباب الذي دخل منه.
سمعت كثيرا عن باب المغاربة (باب النبي) وحدث مرة بالصدفة أن وجدت نفسي عند حائط البراق، الذي يريدونه أن يكون (حائط المبكى) ففوجئت بأعداد كبيرة من المستوطنين اليهود يؤدون طقوسهم التلمودية، وجدت نفسي العربي المسلم الوحيد وسطهم، شعرت بخوف، وشعرت بخوف مشابه لديهم مني، فوقتها (1993/94) كانت العمليات الاستشهادية متصاعدة، وتنفست الصعداء حين وجدت قلة من فلسطينيين آخرين عرفت أنهم مثلي بالصدفة وجدوا أنفسهم في المكان المغتصب، وابتعدنا بعدما التقطت أعيننا طريقة أدائهم لطقوسهم.
كان اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) حديث التوقيع، وكانت القدس شأنها شأن غيرها تشهد جدلا ونقاشات وندوات، وتستمع إلى الأخبار والأحاديث والتعليقات في كل مكان تقريبا.. والقدس حتى تلك المرحلة كانت بؤرة مركزية للتنظيمات والفصائل التي كما سمعت ممن لهم خبرة وتجربة في هذه الأعمال تأخذ حصة الأسد، وكلما كانت المنطقة بعيدة عن القدس قل الاهتمام بها من قادة التنظيمات في الداخل والخارج، وجميعها تسعى لاستقطاب من تستطيع من أهالي المدينة وضواحيها، وهذا كان ديدن فتح وحماس والجهاد والشعبية والديموقراطية.
وللكلام وجه من الصحة، فقوات الاحتلال تمكنت من ضبط مطبعة تصدر بيانات القيادة الموحدة لانتفاضة الحجارة في حي العيسوية، واعتقل واستشهد من/في القدس عناصر من كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس من القدس نفذوا عمليات منها خطف جنود، وحتى حزب التحرير غير المنخرط في الفعاليات الفلسطينية المقاومة، كان ينشط في القدس بوضوح، لدرجة أن بعض الأحياء محسوبة على أنها تحوي كثيرا من عناصره وقادته، وكنت ألحظ نشاطهم في المسجد الأقصى حيث أنهم بعد خطبة الجمعة يختارون أحد أعضائهم من أصحاب القدرات الخطابية كي يقف في إحدى زوايا المسجد الأقصى كي يصدح بمواقف الحزب وتعليقه على أحداث مختلفة في العالم الإسلامي، فيتحلق حوله بعض ممن هو مؤيد ومن هو معارض أو ممن يدفعه الفضول لسماع ما يقول.
النشاط السياسي والإعلامي كان كبيرا في المدينة، وكانت الجريدة التي تحمل اسم المدينة (القدس) مقرها الإداري ومطابعها هناك ذات النسبة الأعلى من القرّاء، والأكثر تأثيرا، وصاحبة امتياز كبير كمصدر للأخبار والمواقف، وكانت تسعى لاجتياز مقص الرقيب العسكري بكل مهارة، كي تخرج كل صباح بما يمكن قراءته بين السطور. لاحظت تشابه أسماء بعض عائلات القدس مع نظيرتها في الخليل، لدرجة أنني مررت قرب ديوان لعائلة خليلية في أحد أحياء القدس، فعرفت أن القدس تسكنها عائلات أصلها من مدينة الخليل التي تبعد عنها فقط حوالي 35 كم وأن الأواصر العائلية والتجارية والتعليمية بين القدس والخليل قوية جدا.
أستمر في تجوالي وأنا أرى استنفار قوات الاحتلال المنتشرة في أحياء المدينة فأستحضر أنشودة فرقة (روابي القدس) بصوت المنشد الشجي: اسلمي يا قدس إنا للفدا دي يدي إن مدت الدنيا يدا... ومجموعة من أبيات الشعر التي تتغنى بضرورة الذود عن المدينة. أرى السياح الأجانب بكثرة بمظهرهم غير المحافظ عادة خاصة في مواسم الأعياد، والفضول يلفهم في كل زاوية وكل زقاق.. وأهالي قطاع غزة كانوا يحضرون بكثرة للصلاة وبعض الفتية من غزة يأتون لبيع بعض البضائع البسيطة، نسألهم عن مدى قرب غزة من القدس بالمسافة، فيقولون: فقط ساعة سفر بالسيارة بين معبر بيت حانون والمصرارة. أشاهد المتسولين والمتسولات خاصة على أبواب الأقصى فأتندر مع بعض الزملاء والأصدقاء بأنهم لا يغيرون أماكنهم، وأن بعض السياح يجودون عليهم بالعملة الصعبة.
هذه الخواطر وغيرها كثير حضرت بزخم بعد عودتي القصيرة إلى المدينة بعد سنين طويلة نسبيا في مرحلة مختلفة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وبعد عزل المدينة الجائر بجدار لعين، لتتكون خواطر وملاحظات ومشاهدات جديدة، سأتحدث عنها في المرة القادمة إن شاء الله.