الوحدة العربية والمشروع النهضوي
بدءا لا بد من التنويه أنه عندما نقول وحدة عربية فإنها تقترن بالمسمى الذي يطلق على الأمة التي كونتها رسالة الإسلام وجعلت منها أمة قوامها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، والدين الإسلامي الذي التصقت به الثقافات التي أسهمت بها الأمة، فهي تعني بالكتلة البشرية التي تنحدر من أصول عربية وغير عربية وتعتنق الإسلام أو تتعايش مع معتنقي الإسلام في بقعة متجاورة ومتحاذية، وأصبحت شريكة في التراث والهموم والآمال ..
وهي كشأنها في عهود ازدهارها، لم تكن أمة منغلقة ولا شوفينية عنصرية، بل أمة منفتحة على كل الأمم تتعامل مع منتجاتهم الثقافية وتطور عليها وتأخذ منها وتعيد إنتاج تلك المنتجات الذهنية والحضارية، بتفاعل دون تنازل عن أداء رسالتها الدينية، فكان أوج ازدهارها عندما كانت تلتزم بحقها في تبليغ الرسالة السماوية، دون أن تغفل جوانب العلوم الحياتية التي تصب في مصلحة االبشرية جمعاء.
كما أنها تعايشت مع إثنيات عرقية ودينية، دون أن تبخسهم حقهم، لا بل استقطبت من كل أنحاء الأرض المبدعين أو من كانوا يروا في التربة التي تديرها الأمة مشتلا ومصنعا لنمو إبداعاتهم، فكان اليهودي والنصراني يتوجه نحو دور العلم (العربية الإسلامية) لينهل منها ويبدع فيها دون إحساس بالدونية، بل وكانوا يقبلون على تعلم العربية ويؤلفون فيها.
ولم يقترن اسم الأمة ببقعة محددة أو بدولة، فكانت الدولة تتمدد وتتقلص تتسع وتضمر، ولكن الأمة بقيت، فكان أبناء الأمة يتنقلون بين حواضر وعواصم لدول قد لا يلتقي حكامها فيما بينهم، وأحيانا يكونوا في حالة عداء سافر، لكن أبناء الأمة وعلمائها وطلائعها الفكرية والحضارية تتنقل بين ربوع دول دون الإحساس بغربتها .. وهي وحدة المواطن مع أخيه دون حساب للحدود الجغرافية.. ولا أظن أن الحال قد تغير كثيرا حتى هذه الأيام التي نعيشها.
ونحن عندما نقول أمة عربية، لا نتخاصم مع مفهوم الأمة الإسلامية، فالأولى تتجاور بالبقعة وتشكل من أطياف عرقية ومذهبية، لكنها تصلح للانطلاق بمشروعها النهضوي بصورة أكثر عملياتية من المناداة بالعمل، على الثانية التي تشكل عمقا كبيرا للأولى وتشكل عضدا استراتيجيا لها، إضافة الى أن الثانية قد تخضع لعوامل لا يكون فيها المسلمون يشكلون الأغلبية في جميع الأحوال..
وأهمية القول هنا تنبع من تلاقي المشروعين النهضويين الإسلامي والعربي في كثير من النقاط، كما أن الأهمية تظهر للعيان، لما يطرح من مشاريع عدوانية قصدت منذ البدء الانفراد في الأمة العربية (جغرافيا وسياسيا) لكي تؤثر على مشروع حمل الرسالة، فمنذ مؤتمر مدريد المشئوم والذي قصد به تفكيك التكتل العربي الرسمي (وإن كان مهلهلا أصلا) لتتبعه بمشروعات مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير لزج الكيان الصهيوني فيه، كمكمل للنوايا التي جعلت به الأقطار العربية (فرادى) في المفاوضات الكئيبة مع الكيان الصهيوني..
لقد تم استغلال ظروف قاسية مرت بها الأمة العربية خلال العقدين الماضيين ورافقها اختلال التوازن العالمي، حتى غدا الرأي الرسمي العربي يجاهر بالتقرب للغرب بشكل سافر ويرضخ لتطلعاته دون ثمن يذكر، تحت مسمى الواقعية، مستعينا بالاستناد للحالة المضطربة التي مرت بها الأمة العربية، ومفسرا تلك الحالة حسب أهوائه أو حسب أهواء الأعداء وما يلتقي معهم في خدمة مشروعهم الخطير.
لقد ظهرت نتائج تلك الهجمات بشكل سافر، عندما قامت طلائع الليبراليين بضخ مثقفيها لقنوات التلفاز لتسفه المناداة بالمشروع النهضوي العربي، قاصدة من ذلك إزاحة وإبعاد النفس القومي عن الحديث الذي أصاب المريدين له الإحباط تلو الإحباط خلال العقدين الماضيين، ومستغلة معاونة أصحاب الفكر الإسلامي الذين لا يفتئون من تصغير فكرة المشروع النهضوي الوحدوي العربي.
وبالمقابل تجند الأبواق لتتهم أصحاب المشروع الإسلامي بالإرهاب، وفق عمل مؤسسي إعلامي صهيوإمبريالي، وقد نجحت الى حد كبير في عمل ذلك الشرخ بين الفصيلين الأكثر خطورة على مشروعهما..فكانت وقائع العدوان على الأمتين متزامنة معا .. فمن حملات تسفيه المشروع الوحدوي العربي، لحملات الهجوم على الرسول الكريم، لفرق التنصير التي جابت أنحاء بلاد المسلمين كافة.
لذا ونحن نطرح مثل هذا الموضوع، ونحن ندرك مديات صعوبة تقبل مثل هذا الكلام، نود أولا أن ندرب أنفسنا على التفكير بشكل يقبل الآخر الذي يلتقي معنا في تحليل ما آلت إليه أوضاع الأمة .. فإن كانت وحوش الغابة تتوحد في إجراءاتها باتقاء الزلازل والحرائق، وتؤجل عدوانيتها لبعضها البعض .. فما بالنا لا نلتقي ونؤجل عداواتنا، خصوصا وأننا في مرحلة حرجة يفصل بين هزيمة المشروع الإمبريالي الصهيوني ومشروعنا النهضوي خيط رفيع!
يتبع