الملك فيصل يساند حركة حماس
مهنا الحبيل
-------
افتتحت يوم الأحد -الحادي والعشرين من فبراير الجاري- في المنطقة الشرقية الفعاليات الثقافية والإعلامية التي يُنظَّمها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ومؤسسة الملك فيصل الخيرية عن حياة الملك فيصل -رحمه الله- بعنوان: الفيصل.. شاهداً وشهيداً، وأوَّل ما يخطر على بال القارئ للعنوان يتوجَّه تلقائياً إلى شخصية الملك فيصل في الوجدان العربي والإسلامي على مستوى النخبة والرأي العام، وكيف كانت مواقف الفيصل وسياساته الخارجية تأخذ ذلك الزخم الكبير من التعاطف لدى جماهير الشعوب العربية والإسلامية قاطبة.
وبناءً على هذا المفهوم السائد في الضمير الشعبي الحي فإني آمل أن يعمل المركز من خلال هذه المبادرة، وما يليها على كسر الطريقة التقليدية في الاحتفاء بشخصية وتاريخ الفيصل؛ فتلك الطرق التي تركّز على الاستقطاب الرسمي لبعض الكتاب والمثقفين العرب، والذين قد يكون بعضهم كاتباً موسمياً على حسب الطلب لا تليق أبداً بشخصية عظيمة كشخصية فيصل بن عبدالعزيز، وحضوره القوي في التاريخ والوجدان العربي والإسلامي المعاصر، ولكن الأفضل أن يكون بالتواصل مع العديد من الساحات والمفكرين التي تحمل للزعيم الراحل وجداناً وتاريخاً منيراً، وليس بالضرورة أن تكون متطابقة مع الرؤية الرسمية للدولة في كل مواقفها؛ فإن الفيصل كان زعيماً أممياً بجدارة واستحقاق, وسيكون جميلاً ورائعاً من المؤسسة أن تقرن هذه الذكرى بمبادرة إنسانية وثقافية تحمل اسم الفيصل لتحقيق اختراق نوعي للحصار المفروض على غزة في الجوانب الإنسانية.
وسأجعل هنا التاريخ يتحدث عن فيصل من خلال شهادة مباشرة للأستاذ الدواليبي الذي سجل هذا الموقف التاريخي من الملك فيصل مع الرئيس الفرنسي السابق وزعيم باريس التاريخي الجنرال ديغول، مُذكراً هنا بأن هذا الحوار في باريس لم يصدر من مثقف أو كاتب أو حتى مسؤول دبلوماسي، إنما صدر من الملك فيصل وهو في رأس الحكم.
قال ديجول: يتحدث النّاس أنكّم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر، وإسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحدٌ في العالم رفع هذا الأمر الواقع.
أجاب الملك فيصل: يا فخامة الرئيس، أنا أستغرب كلامك هذا، إن هتلر احتل باريس، وأصبح احتلاله أمراً واقعاً، وكل فرنسا استسلمت إلاّ (أنت) انسحبت مع الجيش الانجليزي، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلبت عليه؛ فلا أنت رضخت للأمر الواقع، ولا شعبك رضخ؛ فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع، والويل يا فخامة الرئيس للضعيف إذا احتله القوي!! وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديجول أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً.
ثم استأنف ديجول:
يا جلالة الملك، يقول اليهود إن فلسطين وطنهم الأصلي وجدهم الأعلى إسرائيل ولد هناك.
أجاب الملك فيصل: فخامة الرئيس، أنا معجب بك لأنك متدين مؤمن بدينك، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس، أما قرأت أن اليهود جاؤوا من مصر! غـزاة فاتحيـن، حرقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال؟! فكيف تقول إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون، وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة، فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة فقط؟! أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما؟! ونحن العرب أمضينا مئتي سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها.
قال ديجول: ولكنهم يقولون إن أباهم ولد فيها!!
أجاب الفيصل: غريب!! عندك الآن مئة وخمسون سفارة في باريس، وأكثر السفراء يلد لهم أطفال في باريس، فلو صار هؤلاء الأطفال رؤساء دول وجاؤوا يطالبونك بحق الولادة في باريس!! فمسكينة باريس!! لا أدري لمن ســـتكون؟!
سكت ديجول، وضرب الجرس مستدعياً (بومبيدو) وكان جالساً مع الأمير سلطان ورشاد فرعون في الخارج، وقال ديجول: الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السـلاح المصدر لإسرائيل... وكانت إسرائيل يومها تحارب بأسلحة فرنسية وليس أمريكية. انتهى
والسؤال الكبير: أليس هذا الموقف هو بالضبط ما يتطابق مع موقف حركة حماس من رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، وهي الضريبة التي تدفعها حماس، و بسبب ذلك تتعرض لضغوطات هائلة على موقفها..؟
هل سمعتم بمرافعة مفحمة حاسمة ألقيت في قمة ميدان دبلوماسي كهذه اللغة للملك فيصل التي عَرضها وبالتذكير بالقيم الإنسانية... وإشارته القوية كم هو مشروع إسرائيل وحشي واحتلالي بالمنطق وبالتاريخ وبالأعراف السياسية؟! هكذا كان سجل الفيصل.
ولقد سجَّل التاريخ المعاصر للفيصل هذا الموقف كقضية إستراتيجية في مسيرة الوطن العربي ومواجهاته مع العدو الصهيوني، والقضية الثانية دعواته الداعمة لفلسطين، و في ريادته لدعوة التضامن الإسلامي المعاصرة، والتي أحيت مفهوماً عقدياً وأممياً وإنسانياً كان متراجعاً في الضمير والواقع الثقافي في حياة المسلمين المعاصرة.
وأما الأولى فقد كان الفيصل بطلاً رئيسياً من أبطال حرب رمضان 1973 من دون نياشين عسكرية أو استعراض خطابي، و لكنها كانت في تلك المواقف التي شكَّلت انكساراً مهماً لقاعدة التفوق والنصر في مواجهة العدو الصهيوني وحلفائه المركزيين؛ فالكل يعرف قرار الفيصل التاريخي في تفعيل سلاح الاقتصاد النفطي لردِّ الاعتداء عن الأمة وعن قضيتها المركزية في فلسطين، والجميع في ذلك الوقت يستحضر حواره الحاسم مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كسنجر، وكيف كانت كلماته أبلغ من دفاتر ومحاضر الاجتماعات الدولية للدبلوماسيين العرب والأجانب, والشرح يطول، لكننا نكتفي بتسجيل هذا الموقف التاريخي وما تلاه في حياة الفيصل وأمنيته بركعتي المسجد الأقصى.
أما الإستراتيجية الثانية فقد كانت دعوة الملك فيصل -رحمه الله- تعالى لإحياء التضامن الإسلامي بين الوطن العربي وإخوانهم من الأعاجم بتنوع عرقيَّاتهم على امتداد الأمة الإسلامية، ولقد أساء البعض تفسير موقف الملك فيصل من دعوة التضامن الإسلامي، واعتبره مشروعاً مناهضاً لفكرة توحد الوطن العربي، وهو ما أثبتت الأحداث خطأه؛ فقد كان هذا العالم الإسلامي الأعجمي رديفاً وسنداً للقضايا العربية، وبالذات بعد تحرك الملك فيصل نحوه قبل حرب اكتوبر، وربط هذا القسم من الأمة بإخوانهم في الوطن العربي الكبير، ولقد أدرك كثيرٌ من أصدقائنا من القوميين العرب هذه الحقيقة بعد حين؛ خاصةً بعد أن أدركوا بأن الرابطة القومية العربية لا يمكن أن تكون لها شوكة وسيادة وحضارة دون العقيدة الإسلامية.
هذه الدعوة للتضامن الإسلامي التي رعاها الفيصل للاصطفاف خلف قضيتنا المركزية في فلسطين المحتلة في أراضي 67 و 48 كانت إحدى الثمرات التي حققتها تلك الدعوة، مع إيماننا جميعاً، وإيمان صاحب المشروع أن هذه الأخوة حقيقة واجبة في رسالتنا الإسلامية لكل من انتمى لها من عربٍ وأعاجم، تحقيقاً للمفهوم الإسلامي الراقي لدعوة الإسلام الكبرى.
وحتى تكون الاحتفالية بسيرة الفيصل في مكانها المناسب من حيث نهضة الشعوب ووعيها، فمن المهم أن يتذكَّر الجميع بأن هذه المواقف يجب أن تُدرّس وتُطبق كمنهجية كرَّسها الفيصل في السياسة الخارجية لقضية فلسطين في الوطن العربي وفي المملكة، خصوصاً وهي التي قامت على أساس التضامن الحقيقي للدولة القطرية العربية مع الأمة، خلافاً لما يسعى أعداؤها إليه، وهو فصل كل دولة عن أختها، والتعامل معها على أنها محمية اقتصادية وحسب لضمان مصالح الأجنبي، وهي القاعدة التي كسرها الفيصل بعزة العربي وانتماء المسلم.
وأنا أستحضر سيرة الفيصل تذكَّرت كلمة احد زعماء المسلمين في الهند بعد مذبحة آسام الشهيرة، والتي وقعت بعد رحيل الملك الفيصل، وقوله: لو كان الفيصل حيّاً لما أقدم أولئك الأوغاد على فعلتهم!! فطافت بيَ الصورة نحو غزة المحاصرة، وجدران القدس المهدمة، ووطننا العربي المنكوب في أكثر من صقع، وأنا استمع إلى فحيح الأفاعي في الكنيست الإسرائيلي في القدس المحتلة؛ ففاض القلب بالترحم على الفيصل و لساني يردد:
رحمك الله أيها الفيصل الشهيد.. لا يزال الأقصى يسأل عنك.
--
أ. د. موسى إبراهيم أبو دقة
أستاذ النقد الأدبي الحديث والمقارن
drmousadagga@hotmail.com
drmousa2000@gmail.com
تلفون 0097082089303
جوال 00970599603297