ما أكثر من يشمئزون من الحديث عنه!

أحدثكم اليوم في أمرٍ ما أكثر من يشمئزون من الحديث عنه وما أكثر الفئات التي تستوحش من الاستماع إلى حديثه، ألا وهو الحديث عن الموت.

ويا عجباً لمن يستوحش من الحديث عن الموت أو يشمئز من الاستماع إلى حديثه، وقد سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح:

(
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات فإنه ما ذُكِرَ في كثيرٍ – أي من المعاصي – إلا قلَّلَه، وما ذُكِرَ في قليلٍ – أي من الطاعات – إلا كثَّرَه)
.

تذكُّر الموت مع فهم معناه هو الذي يُقَلِّم مخالب البغي في المجتمع.

تذكر الموت مع معرفة حقيقته هو الذي يحطم أنياب الظلم والطغيان في المجتمع.
تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الذي يجتث الفساد من جوانب المجتمع.
أجل إن تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الكابح الذي يقي المجتمع من الانزلاق في مهاوي الفساد ومهاوي الضلال، وهو الكابح الذي يوقظ الأفراد والمجتمعات إلى الطريق السوي ويبعدهم عن المنزلقات المهلكة، وأنتم تعلمون أن الكابح وإن كان دوره في الواقع المرئي يأتي بعد التصرف ولكن دوره في الاعتبار يكون قبل التصرف. من أجل هذا قدَّمَ البيان الإلهي الموت على الحياة عندما قال:

(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }
[الملك : 1-2]

كان المقتضى – بحسب الظاهر – أن يقول: الذي خلق الحياة والموت.

ذلك هو الترتيب المرئي في واقعنا المعاش ولكنه الكابح والكابح ينبغي أن يكون دائماً مقدماً في الذهن، ينبغي أن يكون مقدماً في الاعتبار.

فأنا إنما أريد أن أذكر نفسي وأن أذكركم بهذا الذي يأمرنا رسول الله بأن نكثر من ذكره.

أحدثكم عن الكابح الذي ينبغي أن لا ننساه في غمار حياتنا الاجتماعية المختلفة.
الموت الذي أكَّدَ البيان الإلهي في أكثر من أسلوب ومناسبة بأن الإنسان على موعد بل على ميعاد حتمي معه، ألم يقل:
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)
[الجمعة : 8].

ألم يقل:
(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)
[النساء : 78].

ألم يقل:
(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
[آل عمران : 185].

ألم يقل لحبيبه المصطفى:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)
[الزمر : 30].

ولكن ما هو الموت ؟

لقد تسربت إلينا عدوى من الغرب تقول: إن الموت هو العدم. وما أكثر ما تسربت إلينا من العدوى عدوى الأفكار، عدوى الشعارات، عدوى الخرافات فتوضعت فيما بيننا، ألا تسمعون إلى قائلهم يقول: لقد حُكِمَ على فلان بالإعدام، يُفَسَّرُ الموت بالعدم، فهل الموت هو العدم ؟ معاذ الله.

إن الموت هي مرحلة الحياة الثالثة من مراحل أربع لابد أن يتنقل فيها الإنسان من واحدة إلى أخرى.
أما المرحلة الأولى فهي حياة الأجنة.
وتليها هذه المرحلة التي نعيشها اليوم في غمار دنيانا هذه.
أما المرحلة الثالثة فهي الحياة البرزخية التي سننتقل إليها من خلال بوابة الموت.
وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي التي تكون في دار القرار يوم تقوم الساعة.
وكل مرحلة من هذه المراحل أوسع مجالاً وأقوى حقيقة من المرحلة التي قبلها.

والموت بحد ذاته ليس مصيبة للميْت، ولكنه مصيبة للأحياء الذين يفارقون قريبهم أو حميمهم أو صديقهم أو حبيبهم.