جبنة نتنة ومصيدة أمريكية
سوسن البرغوتي
سارعت دول لاتينية بتقديم جبنة نتنة ترميها بوجه المفاوضين الفلسطينين، وبعد أقل من يوم، أعلنت واشنطن فشلها الذريع بإقناع الصهاينة، بتجميد "الاستيطان" رغم ابتلاع أكثر من 40 % من أراضي الضفة، عدا القدس المحتلة بشطريها، وقد تشيع عدوى الجبنة وتنتشر رائحتها في دول أخرى.
وقد رحب عمرو موسى بذلك وبالطبع السلطة بهذا الاعتراف، التي بعد حوالي عقدين من مفاوضاتها العبثية، أفرزت أوضاعاً متردية في فلسطين المحتلة كافة، وتضاعفت السجون والمعاناة، وازداد المشردون في أنحاء المعمورة.
حين أُعلنت "الدولة" فرح الكثيرون بما يُسمى الاستقلال عام 1988، وحين تبادلت المنظمة والكيان الصهيوني الاعتراف، لم يُطبق ذاك الاستقلال وتلك الدويلة حتى على مقر المقاطعة، وتأتي تلك الاعترافات لتتمم شرعنة الكيان الصهيوني، رغم أنف الشعوب، وبترخيص مما يُسمى بالمجتمع الدولي، الذي يتباهى بحقوق الإنسان، وحق تقرير مصير الشعوب، شكلياً.
بينما تواصل "إسرائيل" التهام الأرض والإغارة على القطاع المحاصر، بموافقة تلك الدول التي ظهرت على حين غرة، ولم يستدعِ اهتمامها ما يجري على الأرض، اللهم إلا استمراء بيع الأوهام، وبيعها للفأر "الجديد" الذي يتوارى خلف انهزاماته، واحدة تلو الأخرى، لكن إلى متى سيبقى جُحر المقاطعة، يستفرد بالشعب الفلسطيني بالضفة، ويمارس دور نظام القمع والاستبداد وسرقة شعب، والمضي ببيع ما تبقى ومقابل ماذا؟!.
تمويل أمريكا العسكري للعدو ما زال يتصاعد، بحيث أصبح الكيان برميل بارود، دون أي أهلية وكفاءة، بمعالجة ما قد ينتج عنه من أخطار على البيئة والإنسان، وحرائق الكرمل، دليل على فشل احتوائه، فكيف إن تعرض لهجوم أو شن جولة حرب أخرى وممارسة هوايته المفضلة، وإستيراتيجته الثابتة؟، ومع ذلك الإدارة الأمريكية تواصل حقن الكيان الصهيوني بمزيد من الأسلحة لضمان بقائه، ببساطة لأن الكيان قاعدة عسكرية، تحقق مصالح القوى الاستعمارية، ومتصلة بشبكة مع قواعد أمريكية في منطقة الخليج العربي.
الآن.. وبالمقابل، ماذا تملك سلطة رام الله من أوراق، لتواجه هذا المشهد، وهي تلف وتدور حول دائرة مفرغة، بعد خروجها خالية الوفاض، حتى من الحكم الذاتي، اللهم إلا تدريب أجهزة، تعين "الشريك" على إنهاء مهزلة السلطة، وقتما يحين إعلان موتها، بعد دفن الاتفاقيات، التي جاءت على أساسها، وبعد اغتيال روح رفض الخنوع والإذلال. وقد تحولت إلى كيان اختطاف المقاومين، لا يملك سوى سجون تعذب وتقتل، وتسجن أسرى محررين استكمالاً لتبادل دور مكشوف، لم تتوقف للحظة عنه. فالواقع يثبت، أن سلطة محمية رام الله لا تصلح حتى بإدارة الضفة الغربية المحتلة مدنياً، ولا تتمتع بأية مصداقية أو ثقة لتكون عوناً لشعب بين فك الاحتلال وحوت السرقات والنهب والاعتقالات.
إن حل اللغز الذي أعلنه عباس، بأنه لم يعد رئيساً لسلطة غير موجودة، هو توصيف دقيق لها، من ألفها إلى يائها، ولا يحتاج إلى الكثير من التأويلات، والورقة الوحيدة التي يشهرها بوجه (إسرائيل)، هي اللعب على ضمان محاصرة القطاع والمقاومة، طالما بقيت السلطة، وبهذا لا تستطيع (إسرائيل) حلها، لأنه سيؤثر بشكل مباشر على انعتاق الشعب من قمع أجهزتها، وسيتحمل الاحتلال مسؤوليته كمحتل لكل فلسطين، وما في ذلك من توحد الشارع الفلسطيني ضدها، وهذا أيضاً يعني أن يخسر أزلام رام الله الامتيازات الخاصة. إذاً المصلحة مشتركة ببقاء خيمة "آركوز"، لكن ما مصلحة التنظيمات الفلسطينية المقاومة، ولا نقول المترنحة والخائفة من قطع المعونة المالية، من منظمة استولى عليها عباس؟!
وضع الحصار في القطاع لم يتغير، لنصل إلى مفهوم استفادة المقاومة من عامل الوقت، المحاصرة من الحدود المصرية- الفلسطينية، ومن البحر والجو، فقد أصبح سيفاً مسلطاً عليها، بعامل التهدئة الشفوية أحادي الجانب، والمناورات والتصريحات السياسية بالخارج، تقلق هواجس الكثيرين، خاصة أنها اخترقت حدود الثوابت، ودخلت منطقة ضبابية، بالتلويح تارة القبول بدولة على حدود الـ67، وتارة أخرى باحترام أي اتفاق مع الكيان الصهيوني، نزولاً عند رغبة الشعب إذا وافق، والذي تكرر من قادة حماس بالآونة الأخيرة، وبعد احترام الجبهة الشعبية لرغبة وإرادة الشعب، والمشاركة بتغيير وشطب بنود أساسية من الميثاق الوطني، والقبول بالتسوية.. ها نحن على مفترق طرق مرة أخرى، ستؤدي بالقريب العالجل إلى التهلكة الجماعية، لا فرق بين من تمسك بالحق وبين من تنازل عنه!.
الأمر الذي قد يغيب عن الكثير من القيادات والشعب، أن تفرع وتشكيل منابر وهيئات، ستزيد بعثرة الأصوات والجهود للم الشمل الوطني، وستزيد الفرقة بحيث يصبح الانشطار، معول تدمير ما بقي من القضية الفلسطينية، لا أداة للبناء، خاصة أن منها الملتبس والآخر المشبوه، لذا لكسر الأقفال، لا بد من خطوات إجرائية سريعة، ونأمل أن يصحو الشعب والقيادات الصادقة، لتفعيل بعض منها:
- تخليص المنظمة من السطو، والعودة إلى الأسس التي بُنيت بموجبها، وذلك بإعلان جماعي، إسقاط أي شرعية للسلطة الفلسطينية، وإلا فلا بد من مرجعية وطنية أخرى، ليست موازية، وإنما بديلة وطنية، على ذات القانون الفلسطيني الصادر عام 1964.
- التحريض على العصيان المدني والعمل على تنفيذه بكل مدن وقرى الضفة.
- الإعلان عن رفض أي شروط بصفقة إطلاق الأسرى، يفرضها الاحتلال، وأسر (إسرائيليين)، فكلهم مجندون لقتل شعبنا، وكلهم يحملون السلاح، لا فرق بين المغتصبين وجمهور الكيان المجيّش.
- تعزيز تماسك جبهة المقاومة في القطاع، وتوحيدها تحت راية تحرير فلسطين وهويتها العربية، من البحر إلى النهر، دون إغفال بعدها الإسلامي.
- تأسيس مجلس للشورى، فالديمقراطية لا تُمارس في بلد محتل، عدا أن البعض يستخدمها للتمويه والدعوة إلى "الدولة الواحدة"، فالشورى بين الناس هو الأصل قبل التحرير، وقد جربنا تلك المسماة الديمقراطية تحت حراب الاحتلال، وعانى منها الشعب الأمرّين.
- المصالحة مع سلطة تتهاوى، يعني القبول بأداة الاحتلال، وعليه، فإن الدوامة التي أدخلت التنظيمات وما يُسمى بوفد فتح، أصدعت رؤوسنا، ينبغي أن تنتهي، قبل أن يسبق السيف العزل، فتجد التنظيمات نفسها، أنها تتعامل مع العدو بشكل أو بآخر، بعد تغيير تلك الوجوه التي لم تعد تشبع قتلاً وسرقة المال الفلسطيني، تحت غطاء "السلام الاقتصادي"، ولاستكمال الدور في مسرحية هزلية، تشكيل لجنة تلاحق الفاسدين، في حين أن كلهم مدانون ولا أحد منهم مبرأ.
- المقاومة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة للتحرير، والمقاومة السلمية ليست الأساس، وما هي إلا وسيلة لتغييب وتذويب إرادة الكفاح المسلح لاسترجاع الأرض وإنقاذ الإنسان، ومشروع يهدف إلى إلغاء ثقافة الاستشهاد والاشتباك، ليحل مكانه الترف والتراخي، وهما عدوان رئيسيان للجهاد.
ولعل التظاهرات والاعتصامات، وسيلة لتقوية الجبهة الداخلية وتماسكها، لكن يجب ألا نتحول إلى "غانديين" والاحتلال يهوّد الأرض، ويقتلع الشعب، فلسنا نعاماً نبحث عن الخلاص مسالمين، ويصفعنا العدو فندير له خدنا الأيسر، حتى نترنح تحت ضرباته، بانتظار الضربة القاضية!، فلا المتضامنين الأجانب سيجلبون لنا حقاً من حقوقنا، ولا من يلمعون صورة التقدميين الغربيين، سيحققون دولة، حتى على حي بفلسطين المحتلة.
- التركيز على بناء المؤسسات الإنتاجية، للاستغناء عن التبعية الاقتصادية، وتشجيع الجمعيات الخيرية التي ساهمت وتساهم في بناء مجتمع مقاوم وإعادة فتح ما أغلق منها بالضفة، وبغزة ما زالت تلك الجمعيات، تعتبر رافداً أساسياً، لمساندة أسرى الشهداء والأسرى، والشعب المحاصر بشكل عام، فضلاً عن إقامة مشاريع تجارية بالخارج، لتعين أهلنا بالداخل، وهذا عمل مشروع.
كذلك تطوير مؤسسات وطنية في الداخل المحتل عام 1948، للتكافل الاجتماعي والتمسك بالهوية العربية والجذور والعادات والتقاليد المحافظة.
وهناك دور المهجرين في الخارج، لتغذية الصناديق، بالتبرع ودعم أهل القدس بالذات، قلب الصراع، فإن لمسوا شفافية ومصداقية لجان وطنية، تعمل بإخلاص وتصب الجهود بنتائج مرئية، لن يدخروا وسعاً بدعم صمود شعبهم، وليكن صندوق الإنقاذ، بديلاً عن الصندوق القومي، الذي نُهبت أمواله، من قبل "أمناء القضية". كما أن إنشاء ندوات ومحاضرات لتوعية الشعوب بحقنا في تحرير أرضنا، والتفعيل الشعبي للمقاطعة وإسقاط اتفاقيات التطبيع العربية ضروري جداً.
على العالم بأسره، أن يرى تكلفة الاحتلال الباهظة، بحرق كل ما بناه كيانه وعلى جميع الأصعدة، لا أن يكون أرخص احتلال، ويُقدم للعالم، على أنه شرعي ومقبول والتسوية معه ممكنة.
- من يدعم النضال المشروع من الشعوب والدول، مرحب به، شريطة أن يعلم الجميع، أننا لسنا بجيب أحد، يستخدم قضيتنا لمصالحه وأهدافه، البعيدة عن تحرير أرضنا، وعذابات الأسرى وتضحيات دماء الشهداء!.
خلاصة القول، الشعب الذي يعتمد على التسولات والتوسلات، وينتظر بأن ترمي هذه الدولة أو تلك جبنة نتنة، لن يكون إلا فئران جبانة، لا تستحق الحياة، والاستمرار في أضغاث الأحلام، يعني أن الوباء استفحل، فهل ننتظر المزيد من الصفعات، حتى نفقد الشعور بالألم والمسؤولية بإنقاذ قضيتنا، ونصبح موتى بلا قبور؟!.