تدبـُّر الأمثال القرآنية -6يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ 264 (البقرة).
(لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى..)
بسم الله الرحمن الرحيم
في المثل السابق من سورة البقرة (راجع تدبر الأمثال القرآنية-5) ، شبه الله تعالى الإنفاق في سبيله كحبوب القمح تُـنْـــبِــتُ كل قمحة منها سبع سنابل، (فالقمحة حية لأنها صدرت بنية خالصة في سبيل الله، والتربة لينة صالحة للزراعة لأنها تصدر عن قلب المؤمن الحي اللين بذكر الله .
وهنا في هذا المثل يبين لنا الداء القاتل لهذه البذور والنباتات ، إنه الـمَنُّ والأذى .
كما أن طبيعة أرضية نفس وقلب غير المؤمن قاسية لا تصلح للزراعة ،
فالمحتاج ،لضائقة ألمت به، ما هو إلا نفس إنسانية حية كريمة يؤذيها الـمنُّ والأذى ، فلا يجوز إتباع الحسنة بسيئة فتخربها وتقتلها فلا تثمر.
وهكذا يصور هذا المثل حالة من ينفق ماله بقصد التفاخر ليبرز نفسه أمام الناس بأنه منفق كريم ، أي أن النية ليست خالصة لله تعالى ، ثم يتبع إنفاقه بالـمنِّ والأذى على من أنفق عليهم وهو ما يجرح شعورهم ويؤذيهم ، وهذا يعني إلحاق (أو إتباع) الحسنات بالسيئات فتقتلها أو تجعلها عليلة غير صالحة للنمو.. وهذا التصرف لا يصدر إلا عن جاهل أو عن كافر لا يؤمن بالله، مريض النفس ليس فيها خير.
فمثال ذلك كأرض صخرية (نفس الكافر وقلبه) لا تقبل إنبات البذور فلا تسمح بامتداد الجذور داخل طبيعتها الصخرية القاسية. فإذا عملت عملاً صالحاً (في ظاهره) لغير الله تعالى (منقطع عن مصدر الحياة ) ثم أتبعت هذا العمل بالمن والأذى فيكون ذلك بمثابة بذرة على صخرة، وتموت هذه البذرة بالمن والأذى فتصبح كالتراب المنبث على صخرة قاسية ، وعند هطول الأمطار عليها تنجرف هذه البذور عن الصخرة كانجراف التراب عنها لأنها ميتة بلا جذور ، ولا تنبت فيها بسبب موتها وعدم نشوء جذور لها ، وحتى لو نشأت لها جذور فإنها لا تستطيع النفوذ في الصخر، فالأرض قاسية . وهكذا تبقى الصخرة الملساء عارية جرداء لا خير فيها ولا تصلح لنبات البذور فيها. والله لا يهدي القوم الكافرين لأنهم لا يدركون هذه الحقائق .
من هذا المثل نعلم عدة حقائق :
العمل الصالح المثمر هو الناتج عن قلب مؤمن لين ينوي بعمله إرضاء الله تعالى لا يريد به حظاً شخصياً من تفاخر وغير ذلك ، ولا يتبعه بالمن والأذى الذي يتلفه.
عمل الكافر -سواء كان مشركاً أو منافقاًج لا يصلح للحياة والإثمار ولو كان ظاهره صالحاً ولكن حقيقته غير خالصة لله ولا يريد به إلا التفاخر والمن والأذى.
معنى قوله تعالى : لا يقدرون على شيء مما كسبوا
الأعمال من كسب الإنسان، ومن المفترض أن تعود عليه بالنفع الوفير ، إذا كانت ترضي الله تعالى ، فإن كانت غير ذلك فهي لا تصلح للنبات ولا الإثمار فلا يستفيد منها فاعلها شيئاً ولو كان ظاهرها صالحاً، بل قد تعود على فاعلها وبالا.
وأما قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الكافرين.
فتحقق معنى أن مثل هذه الأعمال لا تصدر إلا عن كافرين سترت عليهم شمس الحقيقة.
فالحل إذن بدخول الإيمان إلى القلب بعد التوقف عن عمل السيئات واتباع الطريق المستقيم حتى تلين الأرض وتصبح التربة صالحة للزراعة عندئذ ينفعها عمل الصالحات بنباتها في تربة صالحة وإثمارها واستنبات بذورها.
وهكذا نلخص شروط الصدقة النافعة وما يفهم من الآية الكريمة :
- يجب أن تصدر الصدقة النافعة خالصة بقصد التقرب لله تعالى لا شيء سواه، وهذا لا يصدر إلا عن نفس مؤمنة بالله تعالى وبيوم الحساب.
- يجب عدم إتباع الصدقات بالمن والأذى مهما كان نوعه.
- العمل من كسب الإنسان، ولكي يكون نافعاً يجب أن يحقق الشرطين السابقين .
- لا يهدي الله القوم الكافرين لأنهم صم بكم عمي .
- الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر للحساب، هو الحل للنجاة وقبول الأعمال الصالحة، وعلى الإنسان الصدق في البحث عن الحقيقة حتى يلج الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في قلبـه.