الزهد - روائع القصص
- روي عن عمر: أنه حين فُتح عليه الفتوحات ، قالت له ابنته حفصة رضي الله عنها : البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق ، ومُرْ بصنعة الطعام تطعمه وتطعم من حضر . فقال عمر: يا حفصة ، ألست تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته ؟ فقالت : بلى . قال : ناشدتك الله ، هل تعلمين أن رسول الله لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية ، ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة ؟ وناشدتك الله ، هل تعلمين أن النبي لبث في النبوة كذا كذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله ، هل تعلمين أن رسول الله قربتم إليه يومًا طعامًا على مائدة فيها ارتفاع فشقَّ ذلك عليه حتى تغير لونه ، ثم أمر بالمائدة فرفعت ، ووضع الطعام على دون ذلك، أو وضع على الأرض ؟ وناشدتك الله ، هل تعلمين أن رسول الله كان لا ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع طاقات فنام عليها ، فلما استيقظ قال : " مَنَعْتُمُونِي قِيَامَ اللَّيْلَةِ بِهَذِهِ الْعَبَاءَةِ ، اثْنُوهَا بِاثْنَتَيْنِ كَمَا كُنْتُمْ تَثْنُونَهَا " ؟ وناشدتك الله ، هل تعلمين أن رسول الله كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبًا يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة ؟ و ناشدتك الله ، هل تعلمين أن رسول الله صنعت له امرأة من بني ظفر كساءين إزارًا ، وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر ، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره ، وقد عقد طرفيه إلى عنقه ، فصلى كذلك؟ فما زال يقول حتى أبكاها، وبكى عمر و انتحب ، حتى ظننَّا أن نفسه ستخرج [1] . - روي أن بعض الخلفاء أرسل إلى الفقهاء بجوائز فقبلوها ، وأرسل إلى الفضيل بن عياض بعشرة آلاف فلم يقبلها، فقال له بنوه : قد قبل الفقهاء ، وأنت تردُّ على حالتك هذه . فبكى الفضيل وقال : أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟ ! كمثل قوم كانت لهم بقرة يحرثون عليها ، فلما هرمت ذبحوها لأجل أن ينتفعوا بجلدها ، كذلك أنتم أردتم ذبحي على كبر سني ، موتوا يا أهلي جوعًا خير لكم من أن تذبحوا فُضَيلاً ! [2] . - قالت امرأة أبي حازم لأبي حازم : هذا الشتاء قد هجم علينا ، ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب . فقال لها أبو حازم : من هذا كله بد ، ولكن لا بد لنا من الموت ثم البعث ، ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنة أو النار [3] . - رؤي فضالة بن عبيد وهو والي مصر أشعث حافيًا فقيل له : أنت الأمير وتفعل هذا ! فقال : نهانا رسول الله عن الإرفاه [4] ، وأمرنا أن نحتفي أحيانًا [5]. - دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم وعليه جبة صوف ، فقال له قتيبة : ما دعاك إلى مدرعة الصوف ؟ فسكت ، فقال : أكلمك ولا تجيبني !! فقال : أكره أن أقول زهدًا فأزكي نفسي ، أو فقرًا فأشكو ربي [6] . - دخل رجل على أبي ذرٍّ فجعل يقلِّب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذرٍّ، ما أرى في بيتك متاعًا ولا غير ذلك من الأثاث . فقال : إن لنا بيتًا نوجِّه إليه مصالح متاعنا . فقال : إنه لا بد لك من متاع ما دمت ههنا . فقال : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه [7] . - قدم عمير بن سعيد أمير حمص على عمر رضي الله عنهما ، قال له : ما معك من الدنيا ؟ فقال : معي عصاي أتوكأ بها ، وأقتل بها حية إن لقيتها ، ومعي جرابي أحمل فيه طعامي ، ومعي قصعتي آكل فيها وأغسل رأسي وثوبي ، و معي مطهرتي أحمل فيها شرابي وطهوري للصلاة ، فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معي . فقال عمر : صدقت رحمك الله [8] . - مر أبو تراب النخشبي بمزين ، فقال له : تحلق رأسي لله ؟فقال له : اجلس . فجلس ، ففيما يحلق رأسه مرَّ به أمير من أهل بلده ، فسأل حاشيته ، فقال لهم : أليس هذا أبا تراب ؟ قالوا : نعم .فقال : أي شيء معكم من الدنانير؟ فقال له رجل من خاصَّته : معي خريطة فيها ألف دينار .فقال : إذا قام فأعطه ، واعتذر إليه ، وقل له : لم يكن معنا غير هذه . فجاء الغلام إليه ، فقال له : إن الأمير يقرأ عليك السلام ، و قال لك : ما حضر معنا غير هذه الدنانير .فقال له : ادفعها إلى المزين . فقال المزين : أي شيء أعمل بها ؟فقال : خذها . فقال : لا والله ولو أنها ألفا دينار ما أخذتها .فقال له أبو تراب : مر إليه ، فقل له : إن المزين ما أخذها ، فخذها أنت فاصرفها في مهماتك [9] .







المصادر : [1] الغزالي : إحياء علوم الدين ، بيان فضيلة الزهد 13/2445 ، 2446.[2] المصدر السابق 13/2449 .[3] السابق نفسه 13/2449 .[4] نهى عن التنعم والدَّعةِ ولِينِ العَيْشِ ؛ لأَنه من فعل العجم وأَرباب الدنيا وأَمَر بالتَّقَشُّفِ وابْتذال النفس . انظر: ابن منظور : اللسان 13/492 .[5] إحياء علوم الدين 13/2466 .[6] المصدر السابق 13/2466 .[7] السابق نفسه 13/2471.[8] السابق 13/2471 .[9] ابن الجوزي : صفة الصفوة 4/ 172، 173 .