متلازمة
لم تستطع أن تخترق حدود صمتها بغير أن تنتزع من داخلها آهة تأتي من أعماقها السحيقة كأنها تجتاز عددا من الموانع لتصل زفراتها حارة إلى وجه دنيا ، و كأنها تخرج من مرجل بخاري ، تلتفت نحو ابنتها الصغيرة التي تركت جسدها الصغير يغوص بحدود ضيقة احتوت جسديهما ، حوض الماء يثير في داخلها فرحا طفوليا ولغطا لا ينتهي تحسست أمها رأسها الصغير ، ندت من دنيا ابتسامة بلهاء ، أرادت أن تنهي كل معاناتها بأن تتركها لبضع دقائق تحت الماء تسد عليها كل طرق النجاة لبقائها شريكة لها في هذه الدنيا ، علاقة بدت غير عادلة ، هي رهينة محبس من القلق والخوف ، الحرية والرغبات تكاد أن تكون مخترقة بألف من المحضورات التي تخص دنيا وحدها ،و التي تربعت على عرش تفكيرها مذ أن انفصلت عنها فهي الرابط الوحيد الذي ظل من بقايا أب غادرها لحظة ولادتها بانفجار رهيب ، مرت بكفها على عينيها شعرت أن أسئلة لا تنتهي تختفي خلف تلك العينين ، لكنها توجست خيفة حتى أنها ضمت يداها إلى صدرها خافت أن تمسها بشيء ، وأن تسول لها هواجسها أمرا ما ، ضمتها إلى صدرها بقوة بكت ولم تعرف الفتاة سرا لهذا البكاء
_ ماما
المفردة الوحيدة التي لا تفارقها , في فرحها أو غضبها عند جوعها وعطشها عندما تريد قضاء حاجتها أو عندما تخشى ظلمة الليل أوحين تغيب عن عينيها لحظات ، أوامرها كلها مرفقة بهذه الكلمة
_ حبيبتي أريدك أن تهدئي لأتفرغ لعملي
رنت إلى وجهها الأبيض المستدير ، راحت تقبل خط كفها الوحيد الذي يميزها عن باقي الأطفال الأسوياء
جعلتها أسيرة لحبل سري آخر رغم انفصالها عنها ، بقيت على ارتباط تام بها وكأنهما توأمان ، لا تأكل ولا تشرب لا تنام إلا بوجود أمها ،
_ إنها لا ترغب بأن أكون بجنبها
قالتها أكثر من مرة الخادمة
تترك دنيا في بيت كبير مع دمية صغيرة الأم تذهب للجامعة فيما تخرج الخادمة ولا تأتي إلا قبل ساعة من مجيء الأم .متظاهرة بأنها ما فارقتها لحظة
كتمت في نفسها غضبا شديدا وهي تسمع صراخها ماما
لا غير هذه الكلمة ومفردات مبهمة هي كل ثروتها اللغوية ، كم أرتج على أمها الكلام وهي تحاضر في الجامعة وباتت لا تعرف من أين بدأت ولا كيف ستنهي محاضرتها ، أحضرت مصادرها وجلست قربها في الحمام ،
راحت تضيع الكلمات المقروءة في رأسها وكأنما تيار جارف يأخذ بها بعيدا ، قلق راح ينتابها كلما خلت بابنتها حاولت أن تخرج من الحمام
_لا أخاف أ لا أسيطر على هواجس تنتابني
_ لا أريد أن أقترف عملا يؤذيك ،
_ أخرجي كفى
لكن ثمة عناد بدا مرسوما على قسمات وجه البنت ، راحت ترفض الخروج رغم إلحاح أمها التي بدت متوجسة من الاقتراب منها تخاف أن تفقد سيطرتها على نفسها أو مشاعرها العدائية تجاه تلك الصغيرة والتي لا تعرف لها سببا
_لا أريدها .. بدت الكلمات وكأنها ترفض البقاء
إنه لشيء مخيف إنه مقرف أن أِؤذيها
راح الهاجس يبحث عن سبب مقنع يبرر تلك النوازع المهيمنة على رأسها
أنا خائفة
تشلها ردات فعل تغرس قلقا مبهما
تنتابها شتى المشاعر وهي قريبة منها ، ثم تحتضنها بقوة وتبكي بكاء مرا
الماء دافئ ، التليفون يرن تنتفض من مكانها تحاول جلبه إلا أن بكاء دنيا تزامن ورناته ، جاء الصوت دافئا عبر سماعته ، الأم مضطربة المشاعر تحاول إسكاتها
ـ أما آن الأوان لتلتفتي لنفسك
دنيا تصر على أن تترك أمها (التليفون) وتتفرغ لها وباقتضاب قالت :
-أرجوك لا تحاول
رمت به بعصبية ، آخر يد تحسست هضاب جسدها يد علي ، وأخر من لثم فيها هو علي لم تشعر بدفء يشاركها
أيكها غير أنفاس ابنتها التي أصبحت تضيق عليها الخناق وتحس باختناق كبير ما إن ترى صدرها يعلو وينخفض ، تثور تحاول أن تفجر براكين من الغضب المكبوت ، تصرخ بأعلى صوتها تكسر الأطباق ، لا أحد يخلصها من خطر نفسها غير انهيار مفاجئ يسقطها أرضا لا تفوق منه إلا بعد تبدد كل شحناتها ، ثمة صداع كبير في رأسها , ولكن راحة غريبة تتملكها ، تقوم من مكانها تحرك ملعقة الشاي ، تنظر إلى ابنتها وهي تغط في نوم عميق ، تمسك القدح بيدها بقوة مبالغ فيها تخاف أن ينسكب الشاي عليها ، تخاف أن تحطم رأسها الصغير به
(التليفون) بالنسبة لها آلة معطلة لا تتصل بأحد ومن يتصل بها يعرف أن عليه ألا يسمع إلا كلام تضن به على أعز الناس ، رنته هذه المرة لم تكن متوقعة ، حملته من على سريرها صوت هامس ، ينفذ إلى أعماقها ، يحرك مشاعرها التي تجمدت ، ويثير في داخلها رغبة بأن يتمثل لها هذا الصوت بهيئة إنسان يقترب منها يطوق خصرها النحيل ، يداعب خصلات شعرها الفاحم ، يلثم جيدها ، راح الصوت يخترق طبلة أذنها دون استئذان
-أحبك
أو هكذا تخيلت
لا لم يكن صوته بل كان صوت العميد الذي جاء كلطمة تلقتها على أم رأسها بغتة
دكتورة رشحتك الوزارة لزمالة دراسية
تشنج لسانها بدت يدها لا تستجيب للحركة غارت عيناها في اللا مكان لم تعد ترى غير خطوط من الضوء تتسارع أمام عينيها ، كل شيء تحجر حاولت الوصول إلى غرفة النوم وجدت أقدامها مكبلة بقيود من الجبس , الأرض تغوص بها لا أحد ينقذها من بركة الوحل هذه التي راحت تجذبها نحو الأعماق ، علي بعيد عنها يفصله عنها حاجز برزخي ، صوته يصل إلى أسماعها كأنه صدى (( لن أستطيع إنقاذك )) ، سقطت وكأنها تمثال رخامي ، دنيا تكتم صرخاتها ابتلعت دموعها ،أحاطت بجسد أمها حاولت أن ترفعها لكنها ثقيلة على جسد صغير كمن تحرك كتلة من الرخام
أجهزة التنفس وتخطيط القلب تحيط بها ، ثمة ابتسامة لمحتها على وجه دنيا ، كم تمنت حينها أن تتخلص من تلك القيود لتحتضنها ..... وبقت د نيا تطوف في دنيا عالمها المكبل بمتلازمة داون وكأنهما قيدا في قيدٌ واحد ليس منه
أريد حلا .. ؟
هكذا
كتبت على متصفحها فيما راحت أناملها تداعب حروفا بيضاء ملصوقة على مربعات سود تكتب قصتها بإيجاز