فخري البارودي … من ظرفاء دمشق
2015-11-01
أنس تللو :
في دار دمشقية قديمة من دور حي القنوات العريق، كان يجتمع عدد من أولئك الظرفاء الساخرين الذين كانوا بطلاوة حديثهم ولطافة معشرهم يضفون سحراً حقيقياً على الحياة، ويغدقون بجو من الألفة الفواحة على مجتمع دمشق في الخمسينيات من القرن الماضي. كانت هذه الدار لصاحبها الظريف الأول في دمشق آنذاك، وهو فخري البارودي.
جمع فخري البارودي في شخصيته عدة أشخاص؛ فقد كان زعيماً وطنياً ومجاهداً وموسيقياً، وكان واحداً من ظرفاء دمشق في القرن العشرين، بل كان في طليعتهم، وكانت داره القديمة في حي القنوات ملتقى رجال السياسة والأدب والثقافة والفن، يجتمعون فيها من أجل السمر والطرب وتبادل النكات والفكاهات والطرف والقصص الضاحكة، وكان للبارودي نديم يشبهه في ظرافته، بل لقد كان الظريف الثاني في دمشق بعده هو حسني تللو، ولم تكن جلسة ظريفة لتخلو من هذين الظريفين البارودي وتللو، حتى لكأن العلاقة بين الاثنين تشبه العلاقة بين ثنائيات السينما الكوميدية: لوريل وهاردي.
ومن طرائف البارودي في الخمسينيات من القرن العشرين أنه يُروى أن نفراً من أصدقائه قد زاروه في قريته ( الجربا) في أقصى الغوطة، وكان فيهم الشاعر خليل مردم بك، وباتوا عنده فأكرمهم بالطعام والشراب والمنام، ثم فوجئ في الصباح الباكر أنهم قد انصرفوا من دون أن يودعوه، ولم يعرف ما السبب، ثم لاحظ أن الشاعر خليل كتب على جدار الغرفة هذه الأبيات باسمه هو ومن معه:
ألا ياساكنَ الجربا بلاك اللـه بالجربِ
فإنا قد وجدنا عندكَ البلوى على كثبِ
فلذعُ البقِّ والناموسِّ يدنينا من العطب
ومذ خفنا الحمام فقد لجأنا منكَ للهربِ
وقرأ البارودي هذه الأبيات بامتعاض شديد، وقرر أن يرد عليهم بمثلها، فقال:
ألا يا عصبةَ الأشرارِ أهلَ الزورِ والكذبِ
أأدعوكم وأكرمكم- وأُهجى دونما سببِ
يلذكم الهجاءُ كما- يلذ الحكُ ذا الجربِ
فما أنتم سوى غجر- ولستم من بني العربِ
فشعركمو ونثركمو- وهجوكمو… على ذنبي
على الرغم من الانسجام الروحي الكبير بين فخري البارودي وحسني تللو فإنهما لم يكونا متشابهين في شيء، إذ كان البارودي نحيلاً جداً، في حين كان تللو سميناً مكوراً، وكان البارودي عصبياً جداً، لا يتمالك نفسه من النرفزة في معظم المواقف؛ إذ سرعان ما ينفجر في وجه محدثه، في حين كان حسني تللو بارداً هادئاً لا تحركه شائبة.
كان فخري البارودي من فرط عصبيته يتحدث بسرعة هائلة، حتى ليكاد المستمع لا يتمكن من اللحاق بكلماته في الدقيقة، في حين يتباطأ حسني تللو في الحديث كثيراً، وقد تبقى النكتة في فمه وقتاً طويلاً يلوكها ويعجنها، وتخرج متثاقلة متباطئة…
رحل فخري البارودي عن العالم في عام 1966 فحزنت عليه دمشق حزناً شديداً، وحزن عليه الوطن العربي بأسره…
وقد حدثني المرحوم رجا الشربجي (آخر الظرفاء في القرن العشرين) عما حدث في جنازة البارودي، فقد مرت الجنازة من باب الجابية من أمام جامع السنانية… وكان هناك- على حد قول الشربجي- رجال غلاظ اللسان يقولون للناس كلمة (آجِر) بطريقة فظة غير محببة، فاندفع حسني تللو للمساعدة في حمل نعش صديقه الحميم، فكان نصيبه أن يمسك بالنعش من الزاوية الخلفية اليمنى، وبما أنه قصير وسمين إلى درجة أن رقبته لا تكاد تظهر لفرط سمنه، فقد مال عليه النعش وضغط على كتفه بحيث غدا كأنه الوحيد الذي يحمله، والناس وراءه تسارع في المشي، وهو يكاد يقع من فرط الثقل والضغط، وما هي إلا أن تعثر في مشيته، فانخلعت فردة من حذائه، فصاح ورمى بالنعش أو كاد يرمي بالنعش لولا أن تلقاه من هم خلفه، وأصبح يسير إلى الخلف راجعاً، وهو يدفع الناس بيديه بحثاً عن فردة حذائه… وتصايح الناس، وانقلبت الجنازة إلى جو من المرح لهذا المنظر العجيب… الذي أحدث ظرافة متبادلة بين البارودي وتللو حتى بعد وفاة الأول.
بعد ثلاث سنوات رحل حسني تللو لاحقاً بصاحبه رحمهما الله.